دراسة مصرف لبنان حول استقلاليّته: شططٌ دستوريّ يتهدّد الدولة

وسام اللحام

08/05/2025

انشر المقال

خلال اجتماع لجنة المال والموازنة في تاريخ 7 أيار 2025 المخصّصة لدراسة مشروع قانون إصلاح وضع المصارف الذي تقدّمت به الحكومة، قدّم حاكم مصرف لبنان في خطوة لافتة جدّا دراسة قانونية حول “استقلالية مصرف لبنان وضرورة المحافظة على تجانس التشريع المصرفي” وذلك بهدف البرهنة بأنّ مشروع القانون المذكور يشكّل انتهاكًا لمبدأ استقلاليّة المصرف، ما يمنعه من القيام بدوره بشكل سليم من أجل المحافظة على سلامة النقد اللبنانيّ والاستقرار الاقتصاديّ.

وقد استفاضت الدراسة في تبيان أهمية استقلاليّة المصرف، معتبرة أن الاستقلاليّة التي منحها المشرّع لهذا الأخير هي “شبه كاملة” وأنّ كلّ التشريعات التي صدرت منذ قانون النقد والتسليف (القانون المنفذ بالمرسوم رقم 13513 تاريخ 1 آب 1963) كرّست هذه الاستقلالية ولم تعمد إلى الحدّ منها عبر نقل صلاحيّات المصرف إلى جهات أخرى. فمصرف لبنان يتمتّع بسلطة تقريريّة واسعة وباستقلالية تنظيميّة ووظيفيّة، وهو غير مرتبط بالهرميّة الإداريّة للدولة. وتضيف الدراسة أنّ الحفاظ على استقلالية المصرف تشكّل ضمانة مهمّة جدًا من أجل حماية أصوله أمام المحاكم الأجنبيّة كونه سيتمتّع بحصانة المقاضاة وحصانة التنفيذ، بينما سيفقد تلك الحصانة في حال تبيّن أنه فقد تلك الاستقلاليّة وتحوّل إلى مجرّد تابع أو أداة بيد الحكومة.

ومن المعلوم أن لمبدأ استقلالية مصرف لبنان سندٌ قانونيّ ويمكن تبريره من الناحية السياسية بهدف السماح للمصرف باتّباع سياسة نقدية لا تخضع لأهواء الحكومة التي ستتمكن في حال فقد المصرف استقلاليته من الاستدانة بشكل غير مدروس، وما قد ينجم عن ذلك من تضخم الكتلة النقدية عبر توجيه الأوامر للمصرف المركزي بطبع كميات كبيرة من النقد الورقي، الأمر الذي قد يخلق حالة من التضخم ويضرب القدرة الشرائية للمواطنين ويهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي برمته. 

لكن الدراسة تبالغ في تعريف تلك الاستقلالية وهي تعمد إلى تبنّي مقاربات قانونية غير دقيقة بغية تبرير هذه الاستقلاليّة الخارقة المزعومة. لذلك، ومن دون الدخول في مناقشة الدراسة لناحية الانتقادات الموجّهة لمشروع قانون إصلاح وضع المصارف، لا بدّ من تفنيد بعض الحجج البارزة التي استندت عليها في القسم الأول منها من أجل التهويل على أي مسّ بصلاحيات الحاكم بوصفه أحد “الأشخاص الأساسيين في الدولة” كون نقل صلاحية المصرف أو الحاكمية إلى أي “سلطة أخرى داخل أو خارج الهيكلية المعتمدة لقانون 1963 يعرّض القطاع المصرفيّ برمته للفوضى والاهتزاز”.

المغالطة الأولى: القانون الأساسي وهرمية النصوص

تعتبر الدراسة أن قانون النقد والتسليف هو أشبه بالمدوّنة القانونية (code) التي تنظم مختلف جوانب القطاع المصرفي بشقّيه العامّ (مصرف لبنان) والخاصّ (المصارف التجاريّة العاديّة)، لا بل هو بمثابة “القانون الأسمى” الذي يجب أن تنتظم تحته كافة القوانين والأحكام اللاحقة. وتذهب الدراسة إلى حدّ استخدام تعبير “loi organique suprême” لوصف هذا القانون مستعيرة هذا المفهوم من النظام الدستوري في الجمهورية الخامسة في فرنسا مضيفة أنّ “أيّ إعادة نظر في صلاحيات ومهامّ الدوائر التابعة عضويًّا للحاكم على حساب الحاكم والمصرف المركزي يعتبر أمرًا غير قانونيّ وضربًا لهرمية النظم العائدة لمصرف لبنان (hierarchie des normes)”.

لكن قول الدراسة إنّ قانون النقد والتسليف يتمتّع بطابع “القانون الأساسي” هو قولٌ يفتقر إلى الدقّة كون مفهوم القوانين الأساسيّة لا وجود له في لبنان. فالقانون الأساسي (loi organique) هو مفهومٌ يوجد في الدستور الفرنسيّ الحالي الذي ينص على فئة معينة من القوانين التي تكون مكمّلة للدستور بحيث تخضع أيضا لأصول خاصة في كيفية إقرارها نظرًا لأهميتها، ولا يمكن إصدارها إلا بعد عرضها على المجلس الدستوريّ ليبتّ في دستوريّتها، أي أنّ رقابة المجلس الدستوري هي إلزاميّة، بينما رقابته على القوانين العاديّة لا يمكن أن توجد إلا في حال تمّ الطعن بالقانون. لذلك، تحتلّ القوانين الأساسية مرتبة أعلى من القوانين العادية إذ يقرر المجلس الدستوري الفرنسي إبطال الأحكام التي توجد في القانون العادي في حال كانت مخالفة للقوانين الأساسية، كون الدستور نفسه هو الذي يفرض على البرلمان احترام القوانين الأساسية عند إقراره القوانين العادية. وهكذا يصبح جليًّا أنّ مفهوم “القانون الأساسيّ” لا وجود له في لبنان لأن الدستور اللبناني لا ينصّ عليه، ولا يحدّد أيّ شرطٍ خاصّ يتعلّق بإقرار مثل تلك القوانين. والأغرب من ذلك أن القانون الذي يرعى نظام بنك فرنسا لا يدخل حتى في عداد القوانين الأساسية كون الدستور الفرنسي لا يمنحه تلك الصفة. فالدراسة تستشهد بمفهوم فرنسي لا وجود له في لبنان وتتكلم عن قانون هو أصلا في فرنسا لا يتمتع بصفة القانون الأساسي. 

وهكذا يتبين أن قول الدراسة أن قانون النقد والتسليف (وهو أصلًا نصّ لم يقرّه مجلس النواب بل صدر بمرسوم عملا بالمادة 58 من الدستور) هو قانون أساسيّ، لا تترتّب عليه أيّ مفاعيل دستورية إذ يبقى مجلس النواب بوصفه السلطة التشريعية قادرا على تعديل هذا النص، لا بل على الغائه برمته أو استحداث سلطات جديدة من أجل إصدار النقد الوطني، أو حتى استعادة تلك الصلاحية  كون المادة العاشرة من قانون النقد والتسليف تنص صراحة على أن “إصدار النقد هو امتياز للدولة دون سواها. ويمكن للدولة أن تمنح هذا الامتياز إلى مصرف مركزي تنشئه”. إذ أن إصدار النقد هو من خصائص سيادة الدولة وما صلاحيات مصرف لبنان في هذا المجال إلا منحة من الدولة بإمكانها استعادتها في أي وقت كان.

جراء ما تقدم، يمكن التأكيد بأن ما ذهبت إليه الدراسة من خلال اعتبارها أنّ “أيّ تعديلات على المدونة المصرفية والنظم التابعة لقانون النقد والتسليف يجب أن تنسجم مع الهرمية المعتمدة في النصوص المترابطة” هو مجرّد زعم لا سند قانونيّ له، لا بل يمكن القول أنّه يشكل في الحقيقة اعتداءً على صلاحيات مجلس النواب الدستورية، وهو يؤدّي إلى خلق هرميّة للنصوص تقع خارج الانتظام القانوني للدولة اللبنانية ما يشكل مسّا بسيادتها.

وتحلّق الدراسة في عالم من الخيال القانوني عندما تعتبر أن صلاحيات وزير المالية والمدير العام للمالية ومفوض الحكومة تدخل في باب “التعاون الوثيق” مع المصرف وهذا ما “يذكر” بالفقرة “ه” من مقدمة الدستور التي تنص على أن النظام قائم على الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها إذ “بين مصرف لبنان والحكومة (خصوصا وزير المالية) استقلالية وتعاون”. وهكذا تكون الدراسة قد اعتبرت أن مصرف لبنان يدخل في عداد السلطات الدستورية. فإلى جانب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية المعهودة منذ ظهور القانون الدستوري الحديث وتبنيه في كل دول العالم، بات لبنان وفق ادّعاءات الدراسة يضمّ سلطة دستوريّة جديدة هي مصرف لبنان لا بد لسائر السلطات من التعاون معها عملا بمبدأ الفصل بينها، مع التشديد على أن “مبدأ فصل السلطات يضمن العمل الديمقراطي في البلاد” بينما يضمن مبدأ استقلالية المصرف “سلامة واستقرار النظام المالي أمام التبدل الديمقراطي للسلطات في البلاد”، وهو  في الواقع إبداعٌ عجز عنه جهابذة الفكر الدستوري وأضغاث أحلام لم تراود أساطين الفقهاء إذ بات تحصين مصرف لبنان ضرورة ليس فقط بوجه مختلف السلطات الدستورية لكن ايضا ضد الديمقراطية نفسها.

المغالطة الثانية: الخطأ في تفسير اجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي  

تستشهد الدراسة بالمجلس الدستوري الفرنسي الذي يعتبر أن استقلاليّة مصرف فرنسا (وهو النموذج الذي على أساسه تمّ إنشاء مصرف لبنان) تشكّل “مبدأ عامّا من مبادئ الاستقرار النقدي والمصرفي في البلاد. وبالتالي، إنّ أيّ قانون أو تعديل يطرأ على هذا المبدأ يعرّض القانون للطعن والإبطال أمام المجلس الدستوري”. وتحيل الدراسة إلى قرارين للمجلس الدستوري الفرنسي صدرا سنة 2000 وسنة 20061

لكن المستغرب أن الدّراسة لا تشير إلى التعديل الكبير الذي طرأ على النظام الدستوري الفرنسي سنة 1993 والذي سمح بتكريس استقلالية المصرف المركزي، ولا تشرح سياق هذا التعديل. فنظرا لضرورات إنشاء الاتحاد الأوروبي حينها الذي كان يفرض تكريس استقلاليّة البنك المركزي عن الحكومة، أقرّ البرلمان الفرنسي قانونا يوسّع من صلاحيات هذا الأخير إذ نص على أن السياسة النقديّة للدولة يضعها مصرف فرنسا الذي من أجل هذه الغاية لا يمكن له أن يطلب أو يتلقى توجيهات من الحكومة. ونظرا لخطورة هذا القانون، جرى الطعن به أمام المجلس الدستوري الذي أصدر قرارًا2 في الثالث من آب 1993 اعتبر بموجبه أن النصّ الذي يسمح لمصرف فرنسا بتحديد السياسة النقدية بمفرده من دون أي تدخّل للحكومة يشكل مخالفة للمادة 20 من الدستور التي تنص على أن الحكومة هي التي تحدد وتقود سياسة الأمة، ما يوجب إبطاله.

وهكذا يتبين أن المجلس الدستوري الفرنسي رفض الاستقلالية المطلقة لمصرف فرنسا، لا بل هو قال في قراره صراحة أنّ منع الحكومة من توجيه التعليمات هو الذي يشكّل مخالفة للدستور وليس العكس إطلاقا. ولم يقم المجلس الدستوري بتعديل موقفه إلا عندما تمّ استكمال إنشاء الاتحاد الأوروبي عبر دخول معاهدة ماستريخت حيز التنفيذ ما سمح بإدخال مجددا الأحكام التي رفضها المجلس الدستوري في البناء القانوني للدولة الفرنسية من دون أن يشكّل ذلك مخالفة للدستور. والأكثر غرابة أن الدراسة تستشهد حرفيا بالفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون التي تمنع توجيه تعليمات إلى المصرف، علما أن المجلس الدستوري أبطلها صراحة كونها تشكل تحديدا جوهر المخالفة.

فالدستور اللبناني هو شبيه لا بل مماثل للدستور الفرنسي قبل التعديلات التي فرضها إنشاء الاتحاد الأوروبي إذ تنص المادة 65 منه صراحة على أن مجلس الوزراء هو الذي يتولى “وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات”، ما يعني أن السياسة النقدية تدخل أيضا في اختصاص الحكومة وأن إنشاء مصرف مركزي يتمتع باستقلالية معينة لا يمكن أن يفسّر بأي شكل من الأشكال إنه إقصاء كامل للحكومة ومنعها من التدخل في عمل المصرف من أجل المصلحة العامة. فإذا كانت الحكومة يحق لها ذلك، فكم بالحري مجلس النواب الذي يحتفظ في لبنان بحريته الكاملة لتعديل قانون النقد والتسليف مثلما يشاء لا بل إلى إلغاء مصرف لبنان برمته.

وفي النهاية، إن مشروع القانون الذي تقدّمت به الحكومة هو في الحقيقة نتيجة من جهة أولى لعدم ممارسة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة صلاحياته من أجل الدفاع عن مدّخرات اللبنانيين وسلامة النقد اللبناني، ومن جهة ثانية بسبب عدم استقلاليته الفعلية عن القرار السياسي الذي جدّد له في الحاكمية لما يقارب 30 سنة كون كل قراراته كانت تصب في خدمة السلطة وتمكينها من الاستمرار في خداع اللبنانيين عبر خلق استقرار نقدي وهمي استفادت منه بالتحالف مع أصحاب المصارف. فالاستقلالية هدفها قبل كل شيء تعزيز شفافية المصرف وتمكينه من حماية الاقتصاد الوطني، ولا يمكن لها أبدًا أن تكون وسيلة من أجل حماية المصالح الخاصة ومساعدة النافذين على الإفلات من العقاب ومراكمة ثروات غير مشروعة على حساب المجتمع برمّته.      
 

  1. من خلال مراجعة هذين القرارين لم يتبين ما هي علاقتهما باستقلالية البنك المركزي إذ الأول منهما يتعلق بالضمان الاجتماعي والثاني بحقوق الملكية الفكرية. ↩︎
  2.  « Considérant qu’il ressort des dispositions précitées que la Banque de France est chargée, par l’organe du Conseil de la politique monétaire, de définir et de mettre en oeuvre la politique monétaire de la France ; que le premier alinéa de l’article 1er de la loi déférée énonce que la Banque de France accomplit sa mission de définition et de mise en oeuvre de la politique monétaire « dans le cadre de la politique économique générale du Gouvernement » ; que toutefois cette disposition peut être rendue ineffective par les prescriptions du deuxième alinéa de ce même article ; que les dispositions de la loi, en tant qu’elles concernent la définition de la politique monétaire et de son but et qu’elles proscrivent toute instruction du Gouvernement, méconnaissent la compétence de celui-ci pour déterminer et conduire la politique de la Nation et celle du Premier ministre pour diriger son action, (…) ; que, par suite, doivent être déclarés non conformes à la Constitution d’une part les mots “… définit et… dans le but d’assurer la stabilité des prix« au premier alinéa de l’article 1er de la loi et le second alinéa de cet article et d’autre part, les mots : »… est chargé de définir la politique monétaire » (Décision n° 93-324 DC du 3 août 1993).
    ↩︎