اقتراح إنشاء محافظة البقاع الغربي - راشيا: هل ستنحصر محافظة البقاع بقضاء زحلة؟
31/07/2024
تقدم النائب بلال الحشيمي بتاريخ 16 تموز 2024 باقتراح قانون يرمي في مادته الأولى إلى إنشاء "محافظة البقاع الغربي - راشيا" ويكون مركزها في جبّ جنين، بينما نصت المادة الثانية على تطبيق أحكام هذا القانون بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء.
وتحاول الأسباب الموجبة تبرير إدخال هكذا تعديل مهم على التنظيم الإداريّ في لبنان بحيث تعتبر أن عدد سكان أقضية راشيا والبقاع الغربي هو 150.000 نسمة بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المقيمين، وأن المسافات بين قرى وبلدات هذين القضاءين وبين مركز محافظة البقاع زحلة هي مسافة شاسعة "مما يكبّد المواطنين الكثير من المشقات والنفقات وإضاعة الوقت لملاحقة معاملاتهم". وتستشهد الأسباب الموجبة بوثيقة الوفاق الوطني التي "أكدت الحاجة الملحة إلى اعتماد اللامركزية الادارية بما فيها تطوير اللاحصرية الادارية"، ومن ثم تحيل إلى الفقرة "ز" من مقدمة الدستور التي نصّت على أن "الإنماء المتوازن للمناطق ثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام" ما يبرر إنشاء المحافظة الجديدة، بحيث أن "الانماء المتوازن لا يتحقق إلا بتطبيق اللامركزية الإدارية لتفعيل دور المواطنين في إدارة شؤونهم المحلية، بما فيها اللاحصرية الادارية الموسعة التي تسهل وصول المواطنين إلى الخدمات الإدارية".
إن هذا الاقتراح يستدعي الملاحظات التالية:
اقتراح لا يميز بين اللاحصرية واللامركزية
تنقل الأسباب الموجبة لهذا الاقتراح بشكل شبه حرفي الأسباب الموجبة المدرجة في القانون رقم 50 الصادر في 7 أيلول 2017 الذي ينشئ محافظة كسروان الفتوح-جبيل. وقد كررت هذه الأسباب الموجبة عبارات اللامركزية واللاحصرية بشكل قد يحمل على الالتباس بين المفهومين، علما أنهما يقومان على مفاهيم مختلفة. فاللاحصرية هي وجود ممثلين منتدبين عن إدارات ومصالح الدولة المركزية في المناطق خارج العاصمة، بينما اللامركزية الإدارية هي قيام وحدات جغرافية تتمتع بالاستقلالية الذاتية بإدارة مصالحها المحلية من دون تدخل الدولة المركزية، وغالبا ما تكون منتخبة.
وهكذا يتبين أن إنشاء محافظة جديدة يعبّر عن تطوير البناء اللاحصري للدولة المركزية من خلال انتداب عدد أكبر من ممثليها وتسليمهم إدارة شؤونها ومصالحها في منطقة جغرافية معينة، ما يعني أن هذا الاقتراح لا علاقة له باللامركزية الإدارية كونه لا يتناول مثلا تعزيز صلاحيات البلديات أو استحداث سلطات محلية لامركزية جديدة.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت في اتفاق الطائف سنة 1989 لم تنصّ صراحة على إنشاء محافظات جديدة بل على "إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات"، كما شددت على ضرورة "توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن" من أجل خدمة المواطنين وتلبية حاجاتهم محليا.
إنشاء المحافظة الجديدة يصطدم بالتجارب السابقة
من المعلوم أنّ إنشاء محافظة جديدة يحتاج في أوّل الأمر إلى قانون عملا بالمادة الثالثة من الدستور التي تنصّ على عدم جواز "تعديل حدود المناطق الإدارية إلا بموجب قانون" إلّا أن ذلك لا يكفي إطلاقا من أجل تحويل المحافظة إلى إدارة فعليّة قادرة على إتمام وظائفها وتقديم الخدمات للمواطنين، إذ يتطلب تمثيل الوزارات والأجهزة التابعة لها في المحافظة الجديدة وذلك تطبيقًا للمادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 116 الصادر سنة 1959 حول التنظيم الإداري والتي تنص على ضرورة تمثيل الوزارات في المحافظة بدوائر يحددها الجدول رقم 2 الملحق بهذا المرسوم الاشتراعي من بينها على سبيل المثال دوائر الدرك والشرطة القضائية والسجل العدلي التابعين لوزارة الداخلية ومحكمة الاستئناف التابعة لوزارة العدل ودائرة المالية وأمانة السجل العقاري التابعين لوزارة المالية وفروع الطرق والمباني والماء والكهرباء والآليات التابعين لوزارة الأشغال.
ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتطلب أيضا استكمال إنشاء المحافظة تعيين المحافظ بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بالإضافة إلى تأمين الكادر البشري إمّا بالنقل أو التوظيف الجديد، ما يعني أن إقرار هذا الاقتراح بإنشاء محافظة جديدة من دون وجود جميع هذه الإمكانيات يفقد هذا القانون جدواه ولا يجعل منه خطوة فعلية لتسهيل خدمة المواطنين وتعزيز "الإنماء المتوازن" كما تذهب إليه الأسباب الموجبة.
والحال أن آخر التجارب في إنشاء محافظات جديدة في لبنان وهي محافظات بعلبك-الهرمل وعكار وكسروان الفتوح-جبيل تبيّن تلكّؤ الدولة المركزية في تأمين مقومات العمل في المحافظات الجديدة. ففي محافظة عكار على سبيل المثال، يتبين أن عددًا كبيرًا من الوزارت والإدارات لم تزلْ غير ممثلة في المحافظة إذ لا قيادة للدرك ولا محكمة استئناف أو نيابة عامة استئنافية ولا مصلحة للصحة، بل أن جميع هذه الدوائر بقيت في طرابلس (مركز محافظة الشمال) وذلك بعد مرور عشر سنوات على تعيين المحافظ سنة 2014 و21 سنة على إنشاء المحافظة بالقانون رقم 522 الصادر في 16 تموز 2003.
والأمر نفسه ينسحب على محافظة كسروان الفتوح-جبيل التي أبصرت النور بالقانون رقم 50 الصادر في 7 أيلول 2017 وبقيت حبرًا على ورق، لا بل أن تعيين محافظ هذه المحافظة الجديدة الذي تم سنة 2020 ظلّ معلقا كون القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء اصطدم بعقبات قانونية أدت إلى الطعن به أمام مجلس شورى الدولة الذي لم يبتّ بالمراجعة حتى اليوم.
ويتبين أيضا أن استكمال إنشاء المحافظة بقانون يتطلب صدور مرسوم يحدد تفاصيل تطبيق هذا الأمر، كالمرسوم رقم 6810 تاريخ 7 آب 2020 والذي هدف إلى تحديد دقائق تطبيق قانون انشاء محافظة كسروان الفتوح-جبيل، علما أنه صدر بعد ثلاث سنوات على إنشاء هذه المحافظة. وينص عادة هذا المرسوم التطبيقي على ضرورة تمثيل الوزارات في مركز المحافظة خلال مهلة معينة علما أن لا شيء يضمن احترام هذه المهلة ولا حتى استحداث الملاك الإداري اللازم من أجل معاونة المحافظ في حال تعيينه كي يتمكن من مباشرة عمله.
اقتراح يفتقر إلى الواقعية
إن إنشاء محافظة جديدة في البقاع الغربي وراشيا قد يكون حاجة فعلية لأبناء المنطقة وسكانها، إلا أنّه يتّسم بانعدام الواقعية نظرًا ليس فقط للتجارب السابقة بل أيضا للتراجع الكبير في إمكانيات الدولة بسبب الأزمة الاقتصادية والجمود السياسي الذي يستمر في شلّ مؤسسات الدولة ويحدّ جدّا من قدرتها على استكمال إنشاء هذه المحافظة الجديدة في حال تمّ إقرار هذا الاقتراح.
لذلك كان لا بدّ من التأكيد في هذا الإطار أنّ أيّ تعديل جوهريّ في التقسيم الإداري وما يستتبعه من استحداث دوائر جديدة في مركز المحافظة وتعديل التنظيم الإداري لمختلف الوزارات من أجل استحداث وظائف جديدة في ملاكاتها لا بدّ أن يتم أولًا ومنطقيًّا في إطار خطّة حكومية ودراسات تعدّها مختلف الوزارات لتقييم الإمكانات المادية والبشرية الضرورية لإنجاز هذه الخطة.
فإنشاء محافظات جديدة يجب أن يتم بمبادرة من السلطة التنفيذية التي تتقدم من مجلس النواب بمشروع قانون بعد القيام بكل الاستعدادات اللازمة التي تضمن استحداث الدوائر الجديدة ضمن مهل قصيرة نسبيا. فعلى الرغم من أن الدستور يسمح نظريا بتقديم اقتراح قانون من قبل نائب لإنشاء محافظة جديدة، إلّا أن تقديمه بالشكل الذي تم فيه، أي بطريقة مختصرة من دون أن يتضمن أي تفاصيل عن حاجات المنطقة، أو دراسة حول كيفية تأمين الموارد المادية والبشرية لتنفيذ المشروع لا سيما في ظلّ الانهيار المالي ووقف التوظيف في الإدارات العامة يضرب جديّة الاقتراح ويجعل من المحافظة الجديدة مجرّد خطوة للدعاية السياسية من دون توفر أي حظوظ واقعية لتنفيذها.
وليس أدلّ على ذلك من أن إنشاء محافظة في راشيا والبقاع الغربي سيؤدّي إلى انفصال الأقضية الثلاثة التي تشكّل محافظة البقاع الحالية وهي أقضية زحلة والبقاع الغربي وراشيا. وبالتالي، فإن إنشاء المحافظة الجديدة سيجعل من قضاء زحلة القضاء الوحيد الذي تتكون منه محافظة البقاع. لذلك، لا بد من التساؤل ما إذا كان مقدم الاقتراح قد تنبّه لهذه النتيجة التي تجعل منطقة البقاع التاريخية مقتصرة على قضاء زحلة، وهل أن قضاء زحلة بحاجة إلى محافظة تدير شؤونها.
في الخلاصة، يتبين أن تقريب الإدارة من المواطنين يحتاج أولا إلى تعزيز قدرات الدولة وتفعيل دور المؤسسات الرسمية بغض النظر عن عدد المحافظات التي يتألف منها لبنان. فإقرار قانون بإنشاء محافظة جديدة هو أمر يسير وغالبا ما تلجأ اليه الطبقة السياسية الحاكمة من أجل تحقيق مكاسب طائفية وزبائنية، بينما يواجه استكمال إنشاء المحافظة الذي يقع على عاتق الحكومة مشاكل جمة تجعل من الاقتراح الحالي خطوة منفصلة عن الواقع.
والحقيقة أن الرغبة المتزايدة بإنشاء محافظات جديدة هو نتيجة فشل الدولة في خدمة المواطنين بسبب سيطرة الجهات السياسية على المؤسسات الرسمية في مناطق نفوذها، ما يعني أن تقريب المواطنين من الإدارة ليس هو الحل لعجز الدولة عن القيام بواجباتها كون المشكلة لا تكمن اليوم في التقسيم الإداري بل في استخدام هذا التقسيم لتحقيق غايات سياسية بعيدة عن منطق الدولة. لذلك، يشكل إنشاء محافظة جديدة في البقاع الغربي وراشيا، في ظل سيطرة النظام السياسي ذاته الذي أنشأ المحافظات الأخرى، مناسبة جديدة للتحاصص والتعطيل المتبادل وصراع المصالح بين الأحزاب الحاكمة والاستفادة من موارد الدولة بغية ممارسة النفوذ للتوظيف في الملاكات المنشأة، وذلك بعيدًا عن الغاية الأصلية المعلنة لهذا الاقتراح، أي تقريب الدولة بأجهزتها وخدماتها من المواطنين لخدمتهم بشكل عادل وأفضل.
حوار مع النائب بلال الحشيمي بشأن الاقتراح
ولغاية الإحاطة بالاقتراح، أجرى المرصد البرلماني حوارا مقتضبا مع النائب بلال الحشيمي. وعليه، أفاد هذا الأخير أن الدافع إلى هذا الاقتراح هو طلبات الأهالي الذين يعانون شقاء الطريق للوصول إلى زحلة لإتمام معاملاتهم، حيث يستغرق الانتقال إليها نحو ساعة. وفي حين سألناه عن واقعية اقتراحه في ضوء التعثر الحاصل لناحية استكمال إنشاء محافظات بعلبك الهرمل، عكار وكسروان جبيل، أفادنا أنه مدرك لوجود صعوبات لكن أراد أن يضع المدماك الأول في البناء. ولدى سؤاله عن نتيجة اقتراحه في حال قبوله لجهة انحصار محافظة البقاع بقضاء زحلة، أجاب أن هنالك في البقاع الأوسط حوالي 400.000 نسمة ومن المفيد أن يكون هناك إدارات تهتم بهم كما أفاد "أن المحافظ ليس له قدرة على استيعاب معاملات كافة سكان محافظة البقاع حاليًّا لذلك من الأفضل فصل الأقضية وإنشاء محافظة جديدة، ويكون ذلك تطبيقًا لإتفاق الطائف وال"اللامركزية". وقد أردف النائب أنه تلقّى اتهامات بأن اقتراحه طائفي وأنه سيحدث تفريقا طائفيا وشرخا بين المناطق إلا أنه اعتبر أن هذه الاتهامات غير صحيحة ولا صلة لها بدوافعه لتقديم اقتراحه.