اقتراح قانون لتسهيل عودة مهجّري الحرب: مقاربة مادية من ألفها حتى يائها
27/08/2021
يعدّ المرصد البرلماني في المفكرة القانونية تقريراً كاملاً عن أعمال المجلس النيابي والمبادرات النيابية لفترة 2019-2020. وقد باشرت المفكرة نشر أهمّ مواده تنبيهاً للرأي العام وبهدف إشراكه في صناعة القوانين أو التصدّي لما قد يشكّل إضراراً بالصالح العام. أعددْنا هذه المقالة بالشراكة مع استديو أشغال عامّة وهي تتناول اقتراح القانون المقدّم بتاريخ 27/3/2019 من النائب أنيس نصّار، عضو تكتّل الجمهورية القويّة (القوّات اللبنانية)، وهو يعمد إلى إعفاء مالكي العقارات الواقعة ضمن النطاق العقاري للبلدات التي شملتها أعمال وأنشطة وزارة المهجّرين من جميع الغرامات ورسوم الإنشاءات المنصوص عنها قانوناً، لمدّة سنتين (المحررّ).
نتناول هنا اقتراح قانون قدّمه بتاريخ 27/3/2019 النائب أنيس نصّار، وهو عضو تكتّل الجمهورية القوية (القوّات اللبنانية)، الذي يعمد إلى إعفاء مالكي العقارات الواقعة ضمن النطاق العقاري للبلدات التي شملتها أعمال وأنشطة وزارة المهجّرين من جميع الغرامات ورسوم الإنشاءات المنصوص عنها قانوناً، لمدّة سنتين، على أن يُقدّم المالك تصريحاً أمام الدوائر المختصّة، وأن يكون مهجّراً ضمن القرية التي هُجّر منها، وأن يُرفق طلبه بخريطة للبناء أو الإنشاءات أو الأجزاء المضافة والمعدّلة. ويشترط عدم وجود تعدٍّ على الأملاك العامّة والخاصّة لقبول تصريحه. وكان قد أحيل أمام لجان الإدارة والعدل، والمال والموازنة، وشؤون المهجّرين.
تعزو الأسباب الموجبة أهمية تقديم الاقتراح إلى عوامل عدّة أبرزها:
- جرح الحرب الأهلية لن يُشفى إلّا بعودة جميع المهجّرين إلى بيوتهم وقُراهم.
- السكّان الذين هُجّروا من قراهم وبيوتهم بطريقة قسرية غير قادرين على تسجيل التعديلات المضافة على عقاراتهم أو على أقسام الأبنية أو الإنشاءات التي يملكونها أو يشغلونها.
- إنّ الألفة والتعايش بين مختلف مكوّنات المجتمع هو الهدف لبناء الوطن من خلال بناء القرى والمدن وإعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الأهلية فلا يشعر أحد بأنّه غالب أو مغلوب.
- عملية التحفيز ضرورية لإعادة المهجّرين إلى قراهم وبيوتهم.
- ضرورة تسهيل عودة المهجّرين من خلال الإعفاء من بعض الرسوم التي تُعتبر باهظة بالنسبة لهم نظراً لوضعهم الاجتماعي والاقتصادي.
- من المفيد تسوية وضع العقارات أو الأبنية أو الإنشاءات ليتمكّن مالكوها من استثمارها بطريقة صحيحة وأفضل ولكي يتمكّنوا من توريثها بشكل واضح من دون عقبات أو مشاكل ممّا ينعكس إيجاباً على خزينة الدولة.
وعن خلفيات هذه المبادرة التشريعية، جاء اقتراح القانون كردّة فعل بعد أن تعهّدت الحكومة التي نالت الثقة في شباط 2019، في بيانها الوزاري، العمل على إقفال وزارة المهجّرين خلال عامين، وبالتالي إقفال ملف المهجّرين من كل جوانبه. إلّا أنّ البلديات في الجبل تذمّرت باعتبار أنّ الكثير من العائدين إلى قُراهم عاجزون عن إتمام ترميم أو إعادة إعمار منازلهم في ظلّ الوضع الاقتصادي الضاغط. وقد لفت النائب نصّار إلى عدم جواز أن تفرض الإجراءات الحالية على من يريد ترميم منزله من المهجّرين، دفع رسوم الإنشاءات (من رسوم بلدية إلى الرخصة وصولاً إلى كلّ الرسوم المنصوص عنها قانوناً).
وجاءت فكرة اقتراح القانون بمبادرة من رئيس اتحاد بلديات الغرب الأعلى والشحّار ميشال سعد وناقش نصّار الاقتراح مع تكتل الجمهورية القويّة الذي تبنّاه.
من الملفت استمرار الحديث عن عدم قدرة المهجّرين على العودة إلى قُراهم بعد أكثر من 30 عامًا على انقضاء الحرب الأهلية وما عرف ب”حرب الجبل”، وبعد سلسلة من تشريعات وُضعت خصيصًا لتشجيع من تضرّر أو تهدّم منزله على العودة. فبعد إنشاء وزارة المهجّرين والصندوق الوطني للمهجّرين في أوائل التسعينات، صدر القانون رقم 322/1994 الذي سرّع إنجاز المعاملات واختصر الإجراءات وأعفى من الرسوم المتوجبة على رخص البناء وسمح للمهجّر بالبناء ضمن عقار لا يستوفي الشروط القانونية للبناء، على أن يكون البناء المطلوب إنشاؤه يقع في القرية التي هُجّر منها طالب الترخيص. وقد طُبّقت أحكام هذا القانون على المهجّرين الذين يملكون حصّة بالشيوع أيضًا.
استمرّ العمل بالقانون لفترة طويلة، إذ مُدّدت أحكامه بموجب القانون 542/1996 لمدّة سنتين، ومُدّدت مجدّدًا في العام 1999 بموجب القانون رقم 92 لسنتين إضافيتين. ولما كان أهالي الجنوب والبقاع الغربي الذين تهجّروا خلال الاحتلال الإسرائيلي عادوا إلى قراهم بعد التّحرير ويرغبون في ترميم بيوتهم أو إعادة إعمارها، ظهرت الحاجة إلى تمديده مجدّدًا بالقانونين 361/2001 و548/2003. بالإضافة إلى ذلك، سمح قانون الترميم المُنجز الصادر عام 2000 للمهجّرين الذين رمّموا منازلهم قبل الحصول على التعويضات بالحصول عليها بعد الترميم. في سياقٍ متّصل، وبناءً على بروتوكول وُقّع بين وزارة المهجّرين وجمعية المصارف، خضعت القروض السكنية المقدّمة للمهجّر للقانون رقم 543/1996 الذي نصّ على منح المصارف إعفاءات من بعض الرسوم على القروض السكنية لشراء أو إنشاء أو ترميم أو إكمال أو توسيع أو تحسين مسكن.
إذاً يأتي اقتراح قانون إعفاء المهجّر من رسوم الإنشاءات هذا، بعد سلسلة تشريعات سابقة مشابهة، معطوفة على إجراءات أخرى قامت بها وزارة المهجّرين كعقد المصالحات، وتسليم الأملاك إلى أصحابها، وإخلاء البيوت، ودفع التعويضات. وعلى الرغم من وقف العمل ببعض القوانين، كالقانون الذي يسمح للمهجّر بالبناء على عقار غير مستوفٍ للشّروط، منحت وزارة المهجّرين أهالي بعض البلدات التي تأخرّت فيها المصالحات كبلدة بريح تراخيص بناء بشكل استثنائي على أن يسوّى وضع هذه الأبنية إلى أن يصدر قانون آخر.
لم تحقّق الإجراءات والتشريعات والاستثناءات المذكورة النتائج المرجوّة لناحية تحقيق العودة الحقيقية للمهجّرين، ممّا يطرح السؤال حول جدوى الاقتراح الجديد، وتمديده الإعفاء من الرسوم لسنتين إضافيتين. طبعاً لن يحقق القانون العودة الحتميّة للمهجّرين، فالبلدات لم تعرف العودة الحقيقية حتى الآن لأسباب كثيرة أبعد من عدم القدرة على الترميم، أو البناء، أو الاستحصال على رخصة. في عدد كبير من البلدات، تقاضى المهجّرون أموالًا من صندوق المهجّرين وأعادوا إعمار عدد كبير من منازل لا يسكنون فيها ودور عبادة لا يزورونها، فبقيت رابطاً رمزياً مع هويّتهم فقط، وذلك لأنّهم تكيّفوا مع الحياة في أماكن أخرى كالمدن أو دول الاغتراب، حيث أنشأوا مؤسّسات ومصالح، وأوجدوا مجالات عمل، واستحصلوا على سكن دائم. وأسباب اللا عودة مرتبطة بشكل كبير بغياب الإنماء، ونقص البنى التحتية والخدماتية في القرى والبلدات التي تهجّروا منها كشبكات الطرق والكهرباء والمياه والخدمات التجارية والصحية والتعليمية، إلخ. كما أنّها ترتبط ربما بانحصار المعالجة بمعالجة الذيول الماديّة للتهجير في ظلّ مصالحات شكليّة تبقي على اللاثقة والعديد من الأسئلة المقلقة في العلاقة بين السكان المختلفين طائفياً.
ومن الجدير ذكره أنّ التصاميم التوجيهية التي أصدرتْها المديرية العامّة للتنظيم المدني منذ التسعينيّات ساهمت إلى حدّ كبير في حالة اللا عودة إلى العديد من القرى والمناطق. فقد ساهم بعضها في تغذية المخاوف الطائفية من تغيّر هوية ونسيج بعض المناطق الاجتماعي، وهي المخاوف التي زرعها تاريخ العنف الطائفي والمجازر. فبلدة الدامور، على سبيل المثال، شهدت تطوّرات عمرانية وتحوّلات سريعة بعد الحرب – سببها يعود فعلياً إلى قوى السوق – فبات معظم السكان الذين ينتقلون إليها من المسلمين الذين تهجّروا من بيروت. وقد ارتكزتْ عمليّة التّنظيم المدني في البلدة ورؤية البلدية من بعدها على الحدّ من الاستثمار على أسس طبقية وطائفية، لكي يصبح السكّان غير المرغوب فيهم غير قادرين على تحمّل تكاليف شراء مسكن أو السكن في الدامور الجديدة. وفيما يأتي تصنيف عمليات البناء هذا تحت شعار "الحفاظ على أملاك المسيحيين"، تبرز المجمّعات الشاطئية على ساحل الدامور، والمجمّعات السكنية الحصرية التي يشجّع التصميم التوجيهي للبلدة على إنشائها. وبالنظر إلى ملكية الأراضي في البلدة، نجد أنّ نسبة عالية من ملكية العقارات حيث المنتجعات وأماكن السكن الفاخرة تابعة لمستثمرين أو شركات عقارية، ممّا يتناقض مع خطاب الحفاظ على الدامور لأهلها.
يأتي اقتراح قانون الإعفاء إذاً مبتوراً من دون معالجة الأسباب الحقيقية لعدم العودة التي لا تنحصر في الاعتذار والغفران عبر المصالحات، بل تبدأ بإرساء إنماء عادل ومتكامل في المناطق ووضع مخططات وسياسات تعالج هواجس الماضي وتشرك السكّان (أصليين وقاطنين) في أولويّاتهم واحتياجاتهم. وربما من الممكن أن يطلق ذلك مساراً حقيقياً لعودة من تهجّر ويرغب في العودة، بالترافق مع دفع وزارة المهجّرين كامل مستحقاتها تمهيداً لإلغائها – بعد أن كان من المفترض أن يكون إنشاؤها مؤقتاً لمدّة أقصاها 5 سنوات.