اقتراح لتسهيل تنفيذ قرارات القضاء الإداري: أفكار مفيدة على هامش ورش الإصلاح القضائي
23/05/2024
تقدّم النائب إبراهيم منيمنة في 9/4/2024 باقتراح قانون يرمي إلى تعديل المادة 93 من نظام مجلس شورى الدولة بهدف وضع آلية فعّالة لتنفيذ أحكام مجلس شورى الدولة الملزمة في مواجهة امتناع الإدارة الاستنسابي عن تطبيقها. وفي التفاصيل، تنصّ المادة 93 من نظام مجلس شورى الدولة الحالي على إلزام الإدارة بتنفيذ الأحكام القضائية المبرمة وذلك "في مهلة معقولة"، علما أن هذه المادة حصرتْ الوسائل التي بإمكان المتقاضي استخدامها لإلزام الإدارة المتخلّفة بالتنفيذ بوسيلتين: إمّا تقديم دعوى جديدة لإلزامها بدفع غرامة إكراهية أو تقديم دعوى جديدة لتحميلها المسؤولية عن عدم تنفيذ الأحكام.
ومن أجل تسهيل تنفيذ القرارات الإدارة، عمد الاقتراح إلى تحديد المهلة المعقولة بمهلة شهرين لتنفيذ "الأحكام المبرمة الصادرة عن مجلس شورى الدولة تحت طائلة المسؤولية"، على أن تعتبر وفق الاقتراح هذه الأحكام نافذة حكما في حال انقضاء هذه المهلة. كما نصّ على سريان الغرامة الإكراهية حكماً عند انقضاء المهلة تقدّر وتصفّى في آن واحد. إضافة إلى ذلك، خوّل الاقتراح المتضرّر ملاحقة الموظّف الممتنع أو المعيق للتنفيذ "من دون أي سبب جدّي ومبرّر أو قوة طارئة" على خلفية إخلاله "بالواجبات الوظيفية وإعاقة تنفيذ القرارات القضائية الملزمة" وفقا لقانون العقوبات، من دون حاجة للحصول على إذن مسبق بالملاحقة. كما وصّف الاقتراح قيام الوزراء أو رؤساء الهيئات والمجالس بعرقلة تنفيذ هذه القرارات على أنها أعمال لا ترتبط بأعمالهم الوزارية أو الإدارية، محمّلا إياهم مسؤولية التعويض عن الأضرار الناجمة عن تمنّعهم عن تنفيذ الأحكام الملزمة الصادرة عن مجلس شورى الدولة.
ويجدر التذكير هنا بوجود اقتراحيْ قانون سابقين يهدفان إلى إصلاح شامل للقضاء الإداري ويُدرسان حاليا من قبل اللجنة الفرعيّة المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل، وهما: (1) اقتراح قانون استقلالية القضاء الإداري وشفافيته الذي قدّمه النائب أسامة سعد في آذار 2021 وهو من إعداد المفكرة القانونية، و(2) اقتراح القضاء الإداري الذي قدّمه النائب جورج عدوان في تموز 2021 وكان أعده رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس. ويقدّم الاقتراحان تعديلاً شاملاً للقضاء الإداري ونظامه وضمنا أحكامًا من شأنها تسهيل تنفيذ الأحكام الإدارية. كما يجدر التذكير أن مجلس النواب كان قد ناقش خلال جلسة تشريعية منعقدة في 22/9/2011، اقتراح قانون قدّمه النائب نقولا فتوش آنذاك، يسهّل تنفيذ الأحكام عبر تعديل المادة 93 المذكورة. وسرعان ما أخذ النقاش آنذاك منحى شخصياً على خلفية أن مجلس شورى الدولة كان قد أصدر حكماً لمصلحة فتوش وأشقائه يقضي بتسديده تعويضاً يناهز الـ200 مليون دولار، من دون أن ينفذ. وقد انتهى النواب حينها إلى إسقاط الاقتراح بعد نقاشات تختصر بمداخلة النائب فؤاد السنيورة بقوله إن "القضية كبيرة جداً وهذا الأمر يجب معالجته بحكمة لأن أي قرار نتخذه يرتّب أعباءً على الخزينة ويفتح لنا باباً ”Pandora box” لا نعرف كيف نقفله".
كما يجدر التذكير أن حكومة الحص (1999-2000) كانت خصصت في موازنة سنة 1999 اعتمادات مالية لتنفيذ الأحكام المالية الصادرة بحقّ الدولة اللبنانية خلال التسعينيات.
وعليه، يستدعي هذا الاقتراح الملاحظات الآتية:
1- اقتراح جانبي بالنسبة إلى ورشة إصلاح القضاء الإداري
أوّل ما يُلحظ بشأن هذا الاقتراح، وبغضّ النظر عن أهميّة مضمونه، هو غياب التنسيق في العمل التشريعي، وبخاصّة في ظلّ وجود اقتراحات ترمي إلى إصلاح شامل للقضاء الإداري ومن ضمنه قابلية أحكامه للتنفيذ. وقد بوشر بدراسة الاقتراحين المذكورين أعلاه منذ تشرين الأول 2022 بعد تعيين لجنة فرعية منبثقة عن لجنة الإدارة والعدل برئاسة النائب جورج عقيص. وقد عقدت اللجنة الفرعيّة مذّاك عشرات الجلسات. كما أبدت لجنة البندقيّة (وهي هيئة أوروبية استشارية) رأيها بشأن اقتراح عدوان بناء على طلب وزارة العدل. وعليه، يظهر أنّ الاقتراح جاء بمثابة وثبة مجتزأة وجانبية في مجال القضاء الإداري، تتجاهل كل الورشة القائمة لدى اللجنة الفرعية فلا تبني عليها ولا تتفاعل معها ولا تأتي حتى على ذكرها في أسبابها الموجبة.
2- جديد الاقتراح: العمل على تجاوز الحصانات الوظيفية والوزارية ولكن…
عند التدقيق في هذا الاقتراح، يتبدّى أنّه يتميّز من زاويتين. الأولى، أنه يسعى إلى تجاوز إجراءات الإذن المسبق لملاحقة موظف عام أمام المراجع الجزائية من خلال التشديد على أنّ جرم عرقلة أو تأخير تنفيذ الأحكام الإدارية من قبل أيّ موظف عامّ يقبل الملاحقة من دون الحاجة إلى هذا الإذن. والثانية، أنه يسعى إلى تجاوز الإجراءات الخاصّة بملاحقة الوزراء والمسؤولين المُنتخبين وبشكل خاصّ الإجراءات المنصوص عليها في المادة 70 من الدستور. وقد تمثل هذا المسعى في توصيف تدخلّ أيّ من الوزراء أو المسؤولين المنتخبين في عرقلة تنفيذ الأحكام الإدارية على أنه عمل لا يرتبط بالوظيفة وذلك بهدف الاستفادة مما ذهبت إليه الهيئة العامّة لمحكمة التمييز في قرارها رقم 7/2000 لجهة استبعاد تطبيق المادة 70 من الدستور على الأفعال غير المرتبطة بالوظيفة الوزارية. كما تمثّل في تحميل هؤلاء مسؤولية مدنية عن الضرر الناجم عن تدخلهم هذا، وهي مسؤولية يمكن تفعيلها أمام القضاء العدلي الجزائي في حال استبعاد تطبيق المادة 70 من الدستور وفي مطلق الحالات أمام القضاء المدني.
إلّا أنّ هذين التعديلين يبقيان مجردين من الفعالية في حال نجح الموظف أو المسؤول المعني في إثبات عدم قدرته على تنفيذ الحكم بفعل غياب الاعتمادات الضرورية ضمن الموازنة العامة للدولة. ففي هذه الحالة، يرجح أن تعتبر المحاكم أنه يتوفر لدى الشخص المذكور سبب جدّي ومبرّر يمنعه من تنفيذ الحكم ويخرج تماما عن إرادته. وهذا ما كان تحسّب له النائب نقولا فتوش الذي ضمنّ اقتراحه فقرة خاصّة مفادها أنّه في حال نفاذ الاعتمادات المرصدة للأحكام النقدية والمصالحات يصار إلى فتح الاعتماد التكميلي اللازم بمرسوم وفقا للمادة 26 من قانون المحاسبة العمومية. وعليه، أمكن القول بأن الاقتراح الجديد يقدم أفكارا هامّة تحتاج إلى المزيد من التعميق بهدف جعلها قابلة للتنفيذ.
إلّا أنّه بالمقابل، فإن الاقتراح لم يتعرّض للجوانب الأخرى التي تعيق تنفيذ الأحكام الإدارية ولم يأخذ أي موقف من الآليات المقترحة في اقتراحي إصلاح القضاء الإداري العالقين أمام اللجنة الفرعيّة وتحديدا فيما يتصلّ بمنح القاضي الإداري سلطة توجيه الأوامر للإدارة (وهو الأمر الذي ورد في اقتراح قانون أسامة سعد في المادة 203 منه) أو أيضاً إنشاء مكتب لمتابعة تنفيذ الأحكام داخل مجلس شورى الدولة (وقد ورد في اقتراحي القانون) أو لجهة فتح الباب أمام القضاء الإداري لتحصين أحكامه من خلال تمكينه فرض غرامات إكراهية من جرّاء التأخير في تنفيذها وذلك في صلب القرار نفسه من دون انتظار انقضاء مهلة معقولة أو أي مهلة أخرى بعد صدوره.
3- أسبقيّة تنفيذ أحكام القضاء الإداري على إصلاحه
أخيرا، يستدعي الاقتراح التفكير مجددا بمسألة التزام الإدارة العامة بتنفيذ الأحكام الإدارية. وكانت هذه المسألة أثيرت بقوة بعدما فاز أشقاء نقولا فتوش بقرار ألزم الدولة بتسديدهم مبلغا طائلا وصل إلى ما يقارب مائتي مليون د.أ كما سبق بيانه. وهي تُطرح مجددا اليوم في ظل تهديد بعض المصارف بتقديم دعاوى ضد الدولة اللبنانية لإيفائها قيمة ودائعها لدى مصرف لبنان (وهي بقيمة مليارات الدولارات الأميركية)، وذلك بالاستناد إلى القرار الإشكالي الذي أصدره مجلس شورى الدولة في تاريخ 6/2/2024 باعتبار ديون المصارف على مصرف لبنان ديونًا على الدولة. ففي حين يجدر التأكيد على نفاذ القرارات القضائية انطلاقا من مبدأ الفصل بين السلطات، فإنّ مبدأ سيادة الدّولة وعدم جواز تنفيذ القرارات قسرًا بحقّها، يبقى بدوره اعتبارا وازنا لا يجوز التسرّع في تجاوزه. وبالواقع، فإن ضرورة التوفيق بين هذين الاعتبارين، يشكل سببا إضافيا لربط مسألة تنفيذ قرارات القضاء الإداري بضرورة إصلاحه وإصلاح أصول المحاكمات أمامه: فبقدر ما تنجح الدولة في بناء قضاء إداري مستقل وكفؤ وعادل يلتزم بشروط المحاكمة العادلة، بقدر ما يصبح من الملائم بل من الضروريّ تبنّي أحكام قانونية ضمانا لتنفيذ قراراته من دون المجازفة بالصالح العام. ولا بأس إذ ذاك أن يتمّ الأمر تدريجيا وفق خطة مرحلية وبقدر ما تتعزّز الثقة بالقضاء الإداري وتترسّخ أصول المحاكمة العادلة أمامه. أما أن نفصل تنفيذ قرارات القضاء الإداري عن ضمانات إصلاحه، فيخشى أن نكون في صدد القفز في الهواء.