اقتراح منتصف الليل: كابيتال كونترول يرضي المصارف ويلجم القضاء؟

إيلي الفرزلي

28/03/2022

انشر المقال

السلطة في خدمة المصارف. ذلك لم يعد خبراً أو سراً. في الأساس لا تسعى الحكومة ومن خلفها مجلس النواب إلى ردّ هذه التهمة. كلما حُشرت المصارف يخرج حزبها في المؤسسات الدستورية ليُمارس الخداع، موحياً أن تحرّكه يهدف إلى حماية المودعين.

خلال الأسابيع الماضية، اشتدّ الخناق القضائيّ حول المصارف. فما كان من جمعية المصارف سوى إعلان الإضراب والمطالبة بوقف الفوضى القضائية وإقرار قانون كابيتال كونترول يعيد غلق الباب الذي فتح في وجهها. وهو الأمر الذي دعا إليه الرئيس نجيب ميقاتي أيضاً لأنه "لا يمكننا كمجلس وزراء إلا أن تكون لدينا إجابة عما يحصل في القضاء من عشوائية وانفعالية".

لاقى رئيس مجلس النواب نبيه بري تلك المطالبات بدعوة اللجان المشتركة إلى الالتئام اليوم لمناقشة اقتراح جديد للكابيتال كونترول، على أن يُقرّ في الجلسة العامة التي تُعقد يوم غد الثلاثاء. لكن أيّ قانون سيُبحث؟ المحاولة الأخيرة لإقرار قانون ملغوم، كانت أجهضت في اللجان المشتركة بتاريخ 6 كانون الأول 2021، بعد حملة أهلية وسياسية، اضطرّ معها حزب المصرف إلى التّراجع عن إقرار قانون يُراد منه قطع الطريق أمام الدعاوى التي يرفعها المودعون لا حماية ما تبقى من أموال.

إثر جلسة 6/12/2021، أقفل نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي ملفّ الكابيتال كونترول، بعدما كان واضحاً أنه من المستحيل تمرير القانون بالصيغة التي قدمها النائب نقولا نحاس، بقوله: "نعم للكابيتال كونترول، نعم لضرورة إنشائه، ولكن بعد خطة اقتصادية تظهر فيها أرقام مُقنِعة تأتي إلى المجلس ونتأكّد من صحتها وسلامتها للحفاظ على حقوق المودعين".

يعود الملف مجدداً إلى اللجان، بالرغم من أن المجلس لم تصله أي خطة اقتصادية لا مقنعة ولا غير مقنعة، فيما يستمرّ تجاهل النسخة التي أشبعت درساً في لجنتيْ المال والموازنة والإدارة والعدل، بحجّة عدم حصولها على موافقة صندوق النقد الدولي، علماً أن المصارف كانت رفضتْها لأنها لا تلغي الولاية العامة للقضاء.

وبعدما سقط اقتراح نحاس "المدمّر"، كما وصفه ائتلاف استقلالية القضاء في بيانه الصادر في 6/12/2021 (تاريخ انعقاد آخر جلسة بحثت فيها اللجان المشتركة اقتراح الكابيتال كونترول)، ستناقش اللجان اقتراحاً آخر نزل في المظلّة أيضاً ويهدف إلى النتيجة نفسها: حماية المصارف من الدعاوى القضائية. هذه المرّة، يؤكّد الفريق الاقتصادي لميقاتي أنّ الاقتراح يحوز على موافقة صندوق النقد الدولي. وقد أعدّه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، بالتنسيق مع ممثلي الصندوق، من دون يتّضح بعد اسم من سيوقعه، وإن يُرجّح أن يكون نحاس أيضاً (لم يؤكد الأمر انطلاقاً من أنه ليس من أعد الاقتراح).

أمام هذا الواقع المستجدّ، سيدخل النواب إلى الجلسة لمناقشة اقتراح لم يوزّع عليهم وفق الأصول، أي قبل يومين من الجلسة، بل وصل إلى أغلبهم عبر الواتساب بعنوان: CC- Arabic version - 24032022. وقد أكّدت مصادر نيابية متقاطعة للمفكرة القانونية أنه يصعب إقرار الاقتراح في جلسة اليوم، في ظل رفض النسخة المتداولة من أغلب الكتل، وفي ظلّ استحالة حصوله على الأغلبيّة إذا عُرض على الهيئة العامة بنسخته الحالية. وتتضح الصورة أكثر اليوم في حال حسمت كتلة الوفاء للمقاومة موقفها الرافض للاقتراح على خلفية أنه ينال من حقوق المودعين (تجتمع قبل جلسة اللجان لمناقشة الاقتراح)، وفي حال ظلّ تكتل لبنان القوي على رفضه للاقتراح حيث أعلن النائب ابراهيم كنعان الاعتراض على إعطائه صلاحيات مطلقة للجنة التي تضم الحكومة ومصرف لبنان. يلحظ أيضا أن الاعتراض يأتي من كتلة المستقبل. فقد أكّد النائب محمد الحجار أن الكتلة تؤيد إقرار القانون هذا الأسبوع بعدما حظي على موافقة صندوق النقد، إلا أنه يشير أنه لا يمكن السير بالاقتراح قبل درسه، حتى لو أدى ذلك إلى تأجيل عرضه على الهيئة العامة. وهو الأمر نفسه الذي أكدته مصادر الحزب الاشتراكي للمفكرة مع حرصها على الإشارة إلى ضرورة إقرار قانون كابيتال كونترول. باختصار، الاقتراح بصيغته كان ساقطاً حكماً. فليس هنالك من كتلة تتجرّأ، على أبواب الانتخابات، أن تعلن تأييدها لاقتراح يلغي حقوق المودعين بالحصول على أموالهم، ويحول كل الحسابات بالدولار إلى الليرة (المادة السادسة قبل تعديلها) ما لم تكن مشمولة بالاستثناءات. ويضع سقفاً للسحوبات حده الأقصى ألف دولار أميركي شهرياً (المادة الخامسة) حسب سعر صيرفة (المادة الثالثة) ومن دون تحديد حد أدنى. وهو سعر سيتضمّن تلقائياً هيركات واضحا حتى قبل إقرار أي قانون لقص شعر الودائع.

أمام هذا الواقع، أكد نحاس لـ"المفكرة القانونية" أن النسخة المتداولة ليست نهائية، وقد انكب الفريق الاقتصادي لميقاتي برئاسة الشامي إلى إجراء تعديلات عليها. وبالفعل، قرابة منتصف الليل كانت وصلت نسخة جديدة إلى عدد من النواب بعنوان 220327 Arabic version، فيما يُفترض أن يحصل عليها البقية قبيل انعقاد جلسة اليوم. وتوضح مصادر متابعة أن النسخة التي وزّعت منذ ثلاثة أيام تتضمن أخطاءً عديدة ناتجة عن سوء الترجمة من النسخة الإنكليزية التي تُعبّر عن نتيجة المفاوضات مع ممثلي صندوق النقد وملاحظاتهم. لكن في المقابل، يتبين من النسخة الأخيرة أن تعديلات أساسية طالت الاقتراح بعيداً عن مسألة الترجمة، إلا أن هذه التعديلات لا يبدو أنها ستكون كافية لتغيير موقف المعترضين على الصيغة الأولى. فاللجنة ستبقى بصلاحيات استثنائية وأموال المودعين ستكون رهينة اللجنة، وكذلك أموال الصادرات.

الاقتراح، في نسخته الأولى يشير بدءاً من المادة الثانية إلى "اللجنة" من دون أن يُفهم تكوينها أو دورها أو معناها حيث لا تتضح ماهيتها قبل المادة الثامنة التي تنص على تشكيل لجنة مؤلّفة، في معظمها ممن يتحملون مسؤولية مباشرة عن الأزمة الراهنة. وهي تضم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ويرأسها رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي أو وزير ينتدبه هذا الأخير، فضلا عن وزيري المالية يوسف الخليل ووزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام. وقد أعطيت اللجنة بموجب تلك النسخة صلاحيات واسعة ومن بينها صلاحيات تشريعية، بحيث يحقّ لها تجاوز أحكام القانون استثنائياً. في التعديل، صارت المادة الثانية هي الخاصة بتشكيل اللجنة ودورها، بما يزيل الغموض عنها. علماً أن هذه "اللجنة" ستكون مسؤولة عن إصدار التنظيمات التطبيقية كافة المتعلقة بالقانون، وبشكل خاص ما يتعلق منها بحظر نقل الأموال عبر الحدود والتحاويل وبمدفوعات الحساب الجاري وبعمليات القطع وتحديد سقوف للحسابات النقدية وتحديد ما يسمى بالاستيراد الضروري وبإعادة الأموال المتأتية عن عائدات الصادرات وغيرها من التدابير الخاصة المتعلقة بسعر صرف العملات الأجنبية.  

هذه الصلاحيات الواسعة لا تزال محلّ اعتراض من كتل عديدة. لكن حجّة واضعي الاقتراح أن هذه اللجنة أتت كنتيجة لرفض الصندوق حصر مراقبة وتنظيم عمليات السحب والتحويل بمصرف لبنان، على اعتبار أن قرارات مصيرية وصعبة يُفترض أن تتخذها الجهة المعنية، وبالتالي يجب أن تتمتع بقدر واسع من السلطة، خاصة أن إجراءات الكابيتال كونترول يُفترض أن تتغير تباعاً ربطاً بالأوضاع الاقتصادية. ولكن، هل يتناسب ضمّ ميقاتي والوزراء المذكورين المعروفين بعلاقاتهم الوطيدة بحاكم مصرف لبنان فعليا مع ما كان طرحه الصندوق؟  

المادة التي تنتظرها المصارف هي المادة 11 من نسخة منتصف الليل التي تشير إلى أن أحكام هذا القانون قابلة للتطبيق فوراً بما في ذلك تلك الأحكام التي تتعلّق بالتحاويل إلى الخارج أو بالسحوبات في الداخل التي لم تكن قد تمّت فور نشر هذا القانون في الجريدة الرسمية. وقد عادتْ النسخة الجديدة  لتؤكد تطبيق القانون فور نشره على الطلبات المقدّمة من العملاء للمصارف والمؤسسات المالیة التي لم  یصدر فیھا قرار مبرم والتي تدخل ضمن مندرجات ھذا القانون من سحوبات وتحویلات وغیرھا، وعلى كافة الدعاوى والمحاكمات العالقة والجدیدة التي یتناول موضوعھا أي من أحكام ھذا القانون أمام كافة المحاكم، في لبنان وفي الخارج، مھما كانت طبیعتھا وعلى مختلف درجاتھا. ومن شأن هذا الأمر أن ينطبق على عددٍ من الطلبات التي تمّ إقرارها من المراجع الابتدائية أو الاستئنافية (ومن بينها دعاوى الدولار الطلابي على أساس القانون المعمول به حاليا)، من دون أن تصبح مبرمة. 

وفي التفاصيل، يتبين أن نسخة منتصف الليل شملت أيضاً نقاطاً عديدة أبرزها:

  • تخفيض مدة القانون من خمس سنوات إلى ثلاث، على أن يبقى لمجلس الوزراء حق تقصير أو إطالة هذه المدة،
  • تعديل تعريف الأموال الجديدة في المادة الأولى لتشمل كل تدفقات العملات الأجنبية أو الإيداعات النقدية بالعملة الأجنبية بما فيها التي تمت بعد  17 تشرين الأول 2019 في حين كانت النسخة السابقة وضعت تاريخ 9 نيسان 2020،
  • المادة المتعلقة بالسحوبات النقدية أبقت على القيود التي تسمح بما لا يزيد عن ألف دولار للفرد الواحد، لكن بدلاً من أن يكون السحب بالعملة الوطنية أو الأجنبية، صارت بالعملة الوطنية و\أو الأجنبية. والأهم أن تلك المادة لم تكتفِ بعدم تحديد حدّ أدنى للسحوبات، بل أعطتْ اللجنة حق تعديل المبلغ المذكور. ومن اللافت أن هذه المادة لم تميز قط بين المودعين الأفراد والشركات والمؤسسات أو حسابات صناديق التعاضد أو النقابات المهنية والتي تستخدم للاستشفاء.
  • التعديل الأهم طال المادة السابعة التي شملت اعتراضات عديدة. فتلك المادة كانت تنص في الفقرة الثالثة منها على عدم اعتبار العملات الأجنبية المتأتية عن عائدات التصدير أموالاً جديدة وفقاً لمفهوم هذا القانون. وقد عبّر البعض عن خشيتهم من أن تؤدي هذه المادة إلى ثني المصدرين المحتملين عن التصدير لعدم قدرتهم على استخدام الأموال الناتجة عنه بحرية. لكن في المادة المعدلة أسقطت هذه الفقرة نهائياً، فيما أضيف إلى الفقرة الأولى التي تنص على إعادة عائدات تصدير البضائع والخدمات كافة إلى حساب مصرفي بالعملة الأجنبية في لبنان، وجوب أن يعمد المصدّر إلى إعادة الجزء المتعلق بمبلغ التحويل الاستثنائي والمموّل بالعملة الأجنبية زائد 5% من حاصل أعمال التصدير. لكن تبقي المادة على حق اللجنة بتحديد الأحكام الخاصة المتعلقة بالفئات المالية للصادرات وطريقة تسويتها بموجب تعميم يصدر عن مصرف لبنان.
  • كذلك من البنود المعترض عليها والتي تداركتها نسخة منتصف الليل حظر فتح حسابات مصرفية جديدة أو إضافة شركاء إلى حسابات قائمة. كما حظر تفعيل الحسابات الراكدة. لكن في التعديل، أسقطت صراحة هذه الفقرة من دون أن تلغى القيود على فتح الحسابات. وقد بدا هذا البند وكأنه يهدف إلى تجميد العجلة الاقصادية طوال سريان هذا القانون أو على الأقل دفع المقيمين إلى اقتصاد كاش من خارج المصارف، في حين كان يفترض أن يتم استغلال هذا القانون الاستثنائي لإنعاش الاقتصاد وتحريك عجلاته تمهيدا للعودة إلى الوضع الطبيعي.
  • في المادة المتعلقة بمراقبة حسن تطبيق القانون، أضيف دور رئيسي لمصرف لبنان يشمل  قيامه في مهلة لا تتعدى 15 يوماً من تاريخ نشر القانون بإنشاء وحدة مركزية للتحقق من صحة العمليات المنفذة تطبيقاً للقانون.
  • أما في المادة الخاصة بالعقوبات التي تفرض على مخالفي هذا القانون، فقد عدلت في النسخة الأخيرة بشكل واضح، حيث قسمت هذه العقوبات إلى مالية و إدارية وجزائية. وفي الأخيرة جرى تفصيل عملية الادّعاء أمام المحاكم الجزائية المختصة. وتمّ الإشارة إلى أن الدعوى العام  تحرك حصراً بطلب من المجلس المركزي لمصرف لبنان ويوجّه إلى النائب العام لدى محكمة التمييز. كما تنص المادة على أنّ محاكم بيروت هي وحدها المختصة مكانياً للنظر في الجرائم الناتجة عن مخالفة أحكام هذا القانون. ويهدف هذا التعديل إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
  • منح مصرف لبنان هامشا واسعا للتحكّم في أيّ ملاحقة، طالما لا يمكن مباشرة أي ملاحقة إلا بطلب منه. وقد اعتبرت محكمة التمييز مؤخرا أن اشتراط هذا الطلب ينطبق حتى في حال كان المخالف هو حاكم مصرف لبنان نفسه.
  • مركزة التحقيق بالنائب العام التمييزي الذي يبقى المرجع القضائي الأكثر التصاقا بالنظام السياسي.
  • حصر المحاكمة بمحاكم بيروت وتاليا الادعاء بالنيابة العامة في بيروت دون سواها. ومن شأن هذا الأمر أن يجنّب المصارف الخضوع للنيابة العامة في جبل لبنان التي ترأسها القاضية غادة عون والتي لا تأمن لها جمعية المصارف ولا فريق رئيس الحكومة ميقاتي وفق البيانات الصادرة عنهم. 

أخيرا، لا بد من لفت النظر إلى ما ورد في مقدمة الاقتراح تحت عنوان "الأهداف" أو ما كان يفترض أن يكون الأسباب الموجبة للاقتراح. يفاجئنا واضعو هذا الاقتراح بشرح خاص للواقع الذي يحدوهم لوضع الاقتراح وهو أن لبنان عانى ولا يزال من فقدان الثقة بالاستثمار فيه ما أدّى إلى حركة تحاويل مصرفية هائلة إلى الخارج، وهو ما يُعرف أيضاً بهروب رؤوس الأموال إلى الخارج. وتعد هذه المقدّمة بأن يُساهم القانون المقترح في إعادة الاستقرار المالي وقدرة المصارف على الاستمرار ومنع المزيد من تدهور سعر الصرف، وحماية احتياطي البنك المركزي بالعملات الأجنبية. ومن البيّن أن هؤلاء عمدوا من خلال توصيف الواقع على هذا الوجه إلى حجب الأسباب المباشرة التي تحدوهم لوضع هذا الاقتراح (وهو الضغط القضائي على المصارف في ظلّ غياب أي قانون يسمح بتقييد حرية المودعين) كما أسبابهم غير المباشرة والمتمثلة في الانهيار المالي والاقتصادي والمصرفي. ثم من هم المستثمرون الذين يهربون رساميلهم من لبنان؟ عن أي مستثمرين نتكلم؟ لا يختلف إثنان أن توصيف الواقع على هذه الصورة إنما يهدف بشكل خاص إلى حجب الأسباب الحقيقية التي تحدوهم لوضعه والأهم إلى تبرئة المصارف من مسؤوليتها في الأزمة بشكل كامل وتظهير الوضع كأنه ناتج عن كارثة علينا جميعا أن نتحملها معا.

لتحميل نص اقتراح قانون