الانتخابات البلدية نحو التأجيل الثالث: السلطة تضرب الدستور مجدداً؟
09/03/2024
لا أجواء انتخابية في مختلف المناطق، لكن مع ذلك لا تزال كل الكتل النيابية تؤكّد على ضرورة إجراء الانتخابات البلدية في موعدها. هذا ما أكّده اجتماع لجنة الداخلية والبلديات النيابية في 6 آذار الحالي.
إلا أن هذا التأكيد لم يلغ حقيقة أن الجميع يتحضّر لتأجيلها. لكن إذا كان تأجيل العامين 2022 و2023 مرتبطاً بحجّة عدم توفّر الاعتمادات، وعدم توفّر العديد اللازم لتأمين سلامة العملية الانتخابية في مختلف المناطق، فإن سبب التأجيل الأكثر ترجيحاً حالياً، والذي يتم التداول به بجدية هو العدوان الإسرائيلي على الجنوب. رئيس اللجنة جهاد الصمد كان ألمح، في حديثه لـ”المفكرة القانونية”، إلى أن الوضع في الجنوب يستدعي النظر جدّياً في تأجيل الانتخابات، انطلاقاً من أنه “لا يمكننا أن نقول أن لا شيء يحصل في البلد”. وبعبارة أخرى يقول: “لا يمكن أن يكون هنالك ناس عم تاكل عصي وناس عم تعدّها”.
لكن في المقابل، لا ينفي الصمد ضرورة احترام المهل الدستورية، إلا أن ذلك يستدعي اجتماع مجلس النواب لإقرار قانون يستثني المناطق التي تتعرض للقصف من إجراء الانتخابات، أي محافظتي الجنوب والنبطية. لكن هذا الاحتمال تبدده أصوات تعلن أنّ العدوان طال الضاحية وبعلبك والغازية. وبالتالي لا يكفي تأجيل الانتخابات في الجنوب. ثم يضاف إليها حجة ثانية: حتى لو توقفت الحرب اليوم، فلا أحد يدرك حجم الأضرار الناجمة عن العدوان، ما يقود بالتالي إلى عدم القدرة على إجرائها مع توقف العدوان…
الأغلبية مؤمّنة للتمديد… لسنتين؟
ما يحصل اليوم لم يعد جديداً. حصل في العام الماضي وفي العام الذي سبق. في الحالتين، كانت وزارة الداخلية تؤكّد على جهوزيّتها إجراء الانتخابات لو تأمّن التمويل، فيما كان الناس يدركون أنّ الانتخابات لن تجري. العام الماضي، بقي الحال كما هو حتى منتصف نيسان، حيث اجتمع مجلس النواب لتأجيل الانتخابات بحضور التيار الوطني الحر، الذي يبدو أكثر المتخوّفين من إجرائها. وللتذكير، كان الرئيس نجيب ميقاتي وعد حينها بإجراء الانتخابات البلدية “في أسرع وقت”، بالرغم من أن النصّ كان يشير إلى حدّ أقصى 31 أيار 2024. إلا أنه كان جلياً أن إجراءها في “أسرع وقت” لن يكون وارداً، بل على العكس… ها هو سياق التأجيل الثالث يسير بثبات.
يقول النائب ميشال موسى لـ” المفكرة القانونية” إنه مع ما يجري في الجنوب، لا يمكن أن نقول إن الوضع طبيعيّ في البلد، لكنه يقول إنه بالرغم من أن لا حديثا واضحاً عن تأجيل الانتخابات، إلا أنه، في المقابل، لا وجود لأجواء انتخابية في المناطق… ربما لأن الناس صارت أفكارها في مكان آخر.
موقف النائب ملحم رياشي يبدو أكثر وضوحاً. وإذ هو يؤكّد أنّ القوّات مصرّة على إجراء الانتخابات البلدية من دون تأخير، إلا أنه يعلن أن الحديث عن تأجيلها بدأ يصبح أكثر وضوحاً، كاشفاً عن السعي لتأجيلها سنتين لا سنة واحدة، على اعتبار أنه لا داعٍ للدخول في أزمة التأجيل كل سنة. كما يلفت إلى أن الأغلبية لذلك متوفرة في مجلس النواب، حيث تميل كل أحزاب السلطة إلى التأجيل، بما فيها التيار الوطني الحر، فيما لا يصرّ على إجرائها سوى القوات والكتائب وبعض المستقلين. علماً أنه إن صدقت مسألة التمديد لسنتين فهي تحمل في طياتها تمديداً إضافياً بشكل تلقائي، حيث يُفترض أن تجري الانتخابات النيابية في الفترة نفسها.
“الداخلية” تحدد مواعيد الانتخابات… ولكن
التشكيك في إجراء الانتخابات لم ينعكس على وزارة الداخلية التي تعمل على اعتبار أن الانتخابات قائمة في موعدها. وهي تتحضر للإعلان عن دعوة الهيئات الناخبة في الأسبوع الأول من نيسان. هذه المرّة موقفها أقوى مما كان عليه في العام الماضي. هي تملك ميزانية كافية لإجراء الانتخابات، بعدما خصّصت الموازنة العامّة 10 آلاف مليار ليرة لإجرائها (أضيف البند في لجنة المال بعدما كانت الحكومة تغاضتْ عنه). حتى تأمين العديد الإداري والأمني الكافي لتنظيمها صار أكثر سهولة من العام الماضي، بعد الزيادات التي طالت الرواتب، وإن بقيت هزيلة. كذلك، فإن وزير الداخلية باسم المولوي كان أكد، في لجنة الداخلية والبلديات، الجهوزيّة لإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية، محدّداً أيام 12، 19 و26 أيار موعداً “لإجرائها على كامل الأراضي اللبنانية، تبدأ من عكار لتصل إلى الجنوب في الدورة الأخيرة”. وفي ما يتعلّق بالتطوّرات في الجنوب، أشار المولوي إلى أنه “إذا وصلنا قبل يومين من انتخابات الجنوب والوضع على حاله، حينها نقول إن الظروف القاهرة حالت دون إجراء الانتخابات، ويتم تأجيل دائرة الجنوب فقط إلى أن تستقر الأوضاع الأمنية”.
بالنسبة للنائب السابق غسان مخيبر فإن غالبية القوى التقليدية غير مستعدة لإظهار حجمها ولاسيما لدى المسيحيين، أضفْ إلى أن الانتخابات البلدية مرهقة للأحزاب أكثر من الانتخابات النيابية. فهي ستكون مضطرّة لمراعاة الحسابات العائلية المحلية، وإذا راضتْ هذه الجهة فإن جهة أخرى ستغضب عليها. وهذا كله يؤثر على الانتخابات النيابية. كذلك فإن عنصراً جدياً قد استجدّ منذ الأزمة المالية هو عدم وجود الأموال في الصناديق البلدية، ما يقلل القدرة على تقديم الخدمات، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيض اهتمام الأحزاب بإجرائها.
هروب السلطة من الانتخابات المحليّة يعود إلى 1968
هذه الرغبة في عدم إجراء الانتخابات المحلية ليست جديدة، بحسب الوزير السابق زياد بارود، مذكّراً بأنها لم تجر بين ال1967 و1997، ليس بسبب الحرب التي يمكن أن تبرّر عدم إجرائها بين 1975 و1992. ليضيف: ماذا عن السنوات التي سبقت الحرب وأعقبتْها؟ لماذا لم تجر الانتخابات البلدية خلافاً للانتخابات النيابية؟ يعود بارود إلى العام 1967، مذكّراً أن الانتخابات لم تؤجّل حينها بسبب حرب ال67 كما قد يظن البعض، بل قبلها، وكانت الحجة حينها أن قانون البلديات ليس جيداً ولا يجوز إجراء الانتخابات على أساسه. كما لم تجر انتخابات 1998 (الأولى منذ العام 1963) إلا بعدما ألغى المجلس الدستوري التمديد في ذلك الوقت.
وعليه يختصر بارود القول، بالإشارة إلى أنه مهما كانت الأسباب التي سيتم التذرّع بها اليوم لتأجيل الانتخابات، فإنّها تُخفي الرغبة في عدم إجرائها. أما مسألة الظروف الاستثنائية التي صارت حجة متكرّرة فهي بلا قيمة، أولاً لأننا دائماً في حالة عدم استقرار، وهذا لا يبرّر التوقّف عن احترام المهل الدستوريّة. وثانياً، لأن التأجيل أو التمديد لم يكن دائماً مرتبطاً بظروف استثنائيّة، بدليل تأجيل الانتخابات النيابية في العام 2013، وبدليل عدم إجراء أيّ انتخابات فرعيّة بلديّة أو نيابيّة حتى قبل الحرب. وبالتالي، يقول بارود إنّ المعادلة اليوم ليست إن كان يمكن إجراء الانتخابات أم لا، بل إن كانت السلطة السياسية تريد إجراءها أم لا تريد.
الحرب لم تمنع إسرائيل من إجراء الانتخابات البلدية
أكثر من ذلك، يعتبر الخبير الدستوري والباحث في المفكرة القانونية وسام اللحّام أن الظروف الاستثنائيّة لتمنع إجراء الانتخابات يجب أن تؤثّر على العملية الانتخابية وتمنع حدوثها… كأن يحصل زلزال… أي يجب أن تحول مادياً دون إتمام الواجب الدستوري. وبالتالي، فإن الظرف الاستثنائي الحالي لا يمنع إجراء الانتخابات بالمطلق، حيث يمكن تأجيل الانتخابات في الجنوب أو نقل مراكز الاقتراع إلى مناطق أكثر أمنا، خاصة أن أبناء القرى الجنوبية صاروا في أغلبهم خارجها. كما يشير اللحّام إلى أن عدم إجرائها بحجة العدوان أشبه بالسماح لإسرائيل بتعليق النظام القانوني اللبناني وإعطائها الحق في حرمان اللبنانيين من إتمام واجباتهم الدستورية.
اللافت إنّ من يتحجّج بالعدوان الإسرائيلي لتأجيل الانتخابات، فاته أن إسرائيل نفسها أجرتْ الانتخابات البلدية في شباط الماضي، أي في ذروة العدوان على غزة، وشارك فيها حتى جيش العدو الذي وضعت له صناديق انتخاب في مناطق انتشاره. وفيما أجريتْ الانتخابات الإسرائيلية في 241 مجلساً بلدياً وإقليمياً، فقد أجّلت الانتخابات في المستوطنات التي أُخليت في غلاف غزة وفي الشمال إلى تشرين الثاني المقبل.
مسألة إجراء الانتخابات البلدية مع استثناء مناطق أو بلدات محددة ليس جديداً على لبنان. فقد سبق أن استثنت الانتخابات البلدية التي أجريت في العام 1998 البلدات الواقعة في الشريط المحتل آنذاك إضافة إلى قرى التهجير في الجبل. وبعد التحرير، وإجراء المصالحات أجريتْ الانتخابات تباعاً. والأمر نفسه يمكن أن يحصل اليوم.
لا ظروف استثنائية تُبرّر التمديد
يذكّر مخيبر أنّ المجلس الدستوريّ لم يعتبر أن الأسباب الأمنية تخلق حالة استثنائية، لكنه في الوقت نفسه ابتدع نظرية أن ضرر التمديد أهون من ضرر الفراغ، من خلال إشارته في القرار الصادر في 30 أيار 2023 إلى أن على المجلس الدستوري أن يوازي بين الضرر الناجم عن المخالفة الدستورية والضرر الناجم عن الإبطال الذي يمسّ مبدأ استمرارية المرٍفق العام ذا القيمة الدستورية، حفاظا على مصلحة البلاد العليا التي وضع الدستور من أجلها. كما أشار إلى أنه يقتضي اتخاذ إجراءات استثنائية بهدف الحفاظ على الانتظام العام ذي القيمة الدستورية. وهكذا صارت الفتوى جاهزة لدى المجلس الدستوري لتبرير أيّ تمديد جديد يقره المجلس النيابي.
لكن في المقابل، لا بدّ من التّذكير أنّ المخالفة التي حرّرها عضوا المجلس الدستوري ميرايْ نجم وميشال طرزي على قراره بردّ الطعن بالتمديد الأخير، قد أشارت إلى عدم وجود ظروف استثنائية “شاذة وخارقة وغير متوقعة وتهدد السلامة العامة، كما حدّدها الاجتهاد الدستوري”، تبرّر تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية، مع ما ينتج عن ذلك من مساس بحقوق المواطن الدستورية ومن بينها حق الانتخاب، ومن ضرب لمبادئ دستورية من بينها مبدأ دورية الانتخابات ذي القيمة الدستورية.
حتى مسألة “إفلاس البلديات” التي “تبرر” من وجهة نظر البعض عدم الحماسة لإجراء الانتخابات حالياً، سبق أن تذرعت بها الأسباب الموجبة للتمديد السابق (“عدم إمكانية البلديات المنتخبة بأن تقوم بأي عمل إنمائي طالما أن صناديق البلديـة فارغة وبعـض البلديات تعلن إفلاسها”)، كانت تناولتها المخالفة، بالإشارة إلى أنها يُفترض أن تشكّل حافزاً لإجراء الانتخابات وتحصين البلديات بعناصر جديدة من شأنها أن تزيل الترهّل والركود الذي تعاني منه.
وفي السياق نفسه، يرى بارود أن الحرب في الجنوب يُفترض أن تُشكّل دافعاً لإجراء الانتخابات لا العكس، انطلاقاً من أن تحديث البلديات وضخّ دم جديد فيها، خاصة في ظل وجود عدد كبير من البلديات المعطّلة والمنحلّة حالياً، يمكن أن يكون عاملاً مساعداً لبحث كل بلدية في ما يمكن أن تقدّمه للجنوب ولأهله من مساعدة ودعم.