البرلمان يلغي الانتخابات الرئاسية.. والدستور: التوافق وحده يُحدد اسم الرئيس

إيلي الفرزلي

29/09/2022

انشر المقال

لم يشِر الدستور اللبناني في أي من مواده إلى وجوب التوافق على رئيس الجمهورية. بل على العكس، المادة 49 تنصّ صراحة على أن "يُنتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي". لكن جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي عقدت اليوم جاءت لتحسم أن لا أحد ينتظر الانتخابات للإتيان برئيس، في تأكيد على أن تجربة العام 2016 لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. ف لم يتردّد رئيس المجلس النيابي نبيه بري بإجابة من سأله عن الموعد القادم لاستكمال الانتخابات: "عندما أرى أن هناك توافقاً سوف أدعو فوراً إلى جلسة وإذا لا فلكل حادث حديث". وعليه، فإن بري حسمها بعدم عقد جلسة انتخاب إلا في حال التوافق، مؤكداً بالتالي أن جلسة اليوم ليست سوى بروفا لجلسة لا أحد يعرف موعدها. في تلك البروفا، أعيد تظهير الأحجام والتحالفات في المجلس، فبقي تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل وحلفاؤهم المستقلين هو الأمتن، مجيّراً 63 صوتاً للورقة البيضاء، فيما اكتفى تحالف القوات - الاشتراكي - والكتائب بتأمين 36 صوتاً لمرشحه ميشال معوض. وحافظت الكتلة التغييرية على تماسكها، فأعطت 11 صوتاً لمرشحها سليم إده (تغيّب النائبان ابراهيم منيمنة ونجاة صليبا).

توزيع الأصوات على هذا النحو، ربطاً بالطريقة المعتمدة لاحتساب الأكثرية ونصاب الانعقاد، تعني تكريس أمر واقع يعلي شأن التوافق على العملية الانتخابية. وهذا التوافق لا يمكن أن يتحقق إلا عندما يطول أمد الفراغ. بمعنى آخر، كلما طال الانتظار كلما زادت فرص التوافق. وبالتالي، فإن انتخاب الرئيس لن يكون مبنياً على المفاضلة بين مرشح وآخر بل على المفاضلة بين الفراغ والرئيس. فمن يستطيع تحمّل الفراغ لفترة أطول سيكون قادراً على فرض اسم الرئيس الجديد.

كل ذلك مردّه أولاً وأخيراً "الأخطاء المزمنة في أصول انتخاب رئيس الجمهورية"، على ما يشير الخبير الدستوري وسام اللحام في مقالته المنشورة في "المفكرة القانونية". اللحام يعتبر أن المشكلة الأساس تكمن في كيفية احتساب النصاب وكيفية احتساب أغلبية الثلثين. فالدستور، كما النظام الداخلي لمجلس النواب، ينصّان على نصاب النصف زائد واحد فقط، إذ لم يرد في أي مكان نصاب الثلثين. لكن في المجلس النيابي، جرت العادة على تكريس عرف مبني على مجموعة من الافتراضات، أولها أن المطلوب لانتخاب الرئيس في الدورة الأولى هو ثلثي أعضاء مجلس النواب (وليس ثلثي الأصوات الصحيحة)، وثانيها أن النصاب عندها سيكون ثلثي أعضاء المجلس في الدورة الأولى وفي الدورات اللاحقة، حتى لو كان الرئيس يُنتخب بالأغلبية المطلقة. وهذا من وجهة نظر االلحام مخالف للمنطق الدستوري والقانوني، إذ يكرس شلّ المجلس وإحجامه عن القيام بواجب انتخاب الرئيس ويحوّل الانتخاب إلى مجرد مصادقة على توافق حاصل خارج المجلس.

وخلافاً لما جرت العادة عليه في السابق، فإن اللحام يرى أن المطلوب لانعقاد المجلس هو نصاب النصف زائد واحد فقط، فيما يفترض أن ينتخب رئيس الجمهورية بأغلبية الثلثين من الأصوات الصحيحة في الدورة الأولى ومن أغلبية النصف زائد واحد من هذه الأصوات في الدورات اللاحقة. إسقاط رأي اللحام على جلسة اليوم يعني أن ميشال معوض صار رئيساً، فقد فاقت الأصوات التي حصل عليها ثلثي الأصوات الصحيحة، بعد إلغاء الأوراق البيضاء ال63 والأوراق اللاغية ال13 (10 أوراق كتب عليها "لبنان" وورقة كتب عليها "مهسا أميني" وورقة كتب عليها اسم ميشال معوض باللغتين العربية والأجنبية، إضافة إلى ورقة كتب عليها "نهج رشيد كرامي")، بما يعني أن مجموع الأوراق الصحيحة هو 45 صوتا (35 صوتاً لمعوض و11 صوتاً لسليم إده) بما يجعل الثلثين هو 30 صوتاً، ويكون قد فاز معوض بالرئاسة.

وفيما يرى البعض أن هذه القراءة للدستور ستؤدي إلى وصول رئيس بأكثرية ضئيلة، يعتبر اللحّام أن العكس سيكون صحيحاً في حال تم التسليم بهذه القاعدة. فعندها لن تتغيّب الكتل بل على العكس ستحشد لتضمن فوز مرشحها، أضف إلى أن المعيار سيكون انتظام عمل المؤسسات.

طبعاً هذا الرأي الدستوري الذي يقدمه اللحام في دراسته، والذي يستند إلى النهج المعتمد في الجمهورية الثالثة الفرنسية واليت أخذ النص عنها، لم يأخذ به المجلس في الانتخابات السابقة، حيث اعتُمد نصاب الثلثين على أساس العدد الإجمالي لأعضاء مجلس النواب. وقد اعتمد الرئيس نبيه بري ابتداء من العام 2014، أسلوباً جديداً. فهو يدعو إلى جلسة أولى تبدو بمثابة رفع عتب وتأكيد على احترام المهل الدستورية، يتم فيها الانتخاب من دون أن يتمكن أي مرشّح من الحصول على الثلثين، على أن يتم تطيير النصاب قبل عقد الدورة الثانية. أما في حال الدعوة إلى جلسات لاحقة، فلن يعترف بري بانعقاد الدورة الأولى، بالرغم من تسجيلها في المحضر، وبالتالي وجوب عقد الدورة الثانية، بل سيعاود الكرّة من الصفر، ويعمد إلى إعادة الدورة الأولى من جديد، كما فعل في جلسة انتخاب ميشال عون في العام 2016. فبالرغم من أن الدورة الأولى كانت انعقدت قبل سنتين ولم يحصل فيها أي مرشح على الثلثين، إلا أن بري أعادها حين تمّ الاتفاق على عون، فلم يتمكن من الحصول على الثلثين في الدورة الأولى الجديدة، قبل أن يفوز في الدورة الثانية بأكثرية النصف زائد واحد.

اللافت في جلسة اليوم أن كل الكتل تعاملت مع الجلسة على أنها غير جدية. حتى رئيس المجلس لم يمانع في احتساب ورقة ملغاة من ضمن أصوات ميشال معوض بالرغم من تأكيده أن هذه الورقة يجب أن تلغى، فقط لأنه يدرك أن صوتاً بالزائد أو بالناقص لن يكون له أي تأثير على نتيجة الجلسة. وفي هذا السياق، كان لافتاً بعد انتهاء الفرز، تلاوة بري لكل الأوراق الملغاة، خلافاً لما فعله في جلسة انتخاب رئيس المجلس. كما كان لافتاً عدم استعماله عبارة "ملغاة" طيلة الجلسة من دون إمكانية الجزم إذا كان ذلك مقصودا أم غير مقصود.

لكن ما أن انتهت الدورة الأولى، حتى انسحب أغلب نواب كتلتي حزب الله وحركة أمل، إضافة إلى عدد من المستقلين. وبعد أن طلب بري التأكد من عدد النواب، للتأكد من أن نصاب الثلثين متوفر، سرعان ما أتاه الجواب: 85 نائباً. لم يكن مهماً بالنسبة لأغلبية الكتل ما إذا كان العدد فعلاً 85 أو أكثر، على ما تشير الترجيحات التي اعتبرت أن النصاب ظل قائماً. فما كتب قد كتب وكل الكتل الكبيرة كانت تعتبر أن الجلسة ستنتهي عند هذا الحدّ. ولو أعيد العدّ بشكل أدق لكان انسحب أكثر من نصف النواب. علماً أن بري افترض أن هذا العدد يعني أن النصاب مؤمّن فطلب توزيع الأوراق، قبل أن يتنبّه إلى العكس فيرفع الجلسة، مبشّراً بأن الفراغ سيحلّ في قصر بعبدا إلى حين التوافق على رئيس جديد للجمهورية.