السلطة تُثبّت مواقعها وسط اعتراض خجول: الأعراف المسكوت عنها تخرج للعلن

إيلي الفرزلي

01/06/2022

انشر المقال

المجلس النيابي الجديد لا يشبه المجالس السابقة. ثمة حيويّة لم نرَها سابقاً، حيويّة فرضتْ انتخاب غالبية أعضاء المكتب وفتحتْ نقاشا حول أصول الاقتراع. لكن الانتخابات نفسها أخرجتْ الأعراف "الطائفية" المعتمدة في تركيبة مكتب المجلس، والتي كان يعمل بها في كواليس الصمت، إلى العلن. وفي حين توجهت الأنظار إلى النواب "التغييريين" لاستطلاع مواقفهم من هذه الأعراف، فإن هذه المواقف بدتْ مشوبة بكثير من الارتباك والتشتت من دون أن يكون لهم وجهة أو خطة واضحة لمواجهة ما يسمونه المنظومة. وقد بدا هؤلاء في مواقفهم في هذه الجلسة، وبخاصة حين امتنعوا عن ترشيح أي نائب في مواجهة رئيس المجلس القديم الجديد نبيه بري خشية التصادم ب "طائفة"، وكأنّهم أذعنُوا للأعراف الطائفية في انتخاب مكتب المجلس أو اختاروا إرجاء المسّ بها إلى مرحلة لاحقة. 

النظام ينجح في تثبيت مواقعه في ظل معارضة رمزية

شهد المجلس للمرة الأولى انتخابات فعلية منذ ما بعد الطائف. وبالرغم من عدم وجود مرشح مواجه للرئيس نبيه بري، وهذا ربما أحد أخطاء النواب "التغييريين" الذين كان بإمكانهم أن يفرضوا معركة على رئاسة المجلس، حتى لو لم تتغير النتيجة. لكن بدلاً من ذلك فضّلوا خوض معركة رمزية قوامها أن يفرضوا على بري قراءة أصواتهم الملغاة بدلاً من تلفها مباشرة. وبالفعل، رضخ بري لذلك، ولو على مضض، وقرأ كل الشعارات التي تنادي بالعدالة للبنان ولضحايا تفجير المرفأ ولجرحى شرطة مجلس النواب وللمودعين (...إلخ) لتكون النتيجة في النهاية، فوزه بالرئاسة للمرة السابعة على التوالي بعد حصوله على 65 صوتاً، مقابل 40 ورقة ملغاة و13 ورقة بيضاء.

أما المعركة الحقيقية فكانت على منصب نيابة الرئيس حيث لم يكن معروفاً من الذي يمكن أن يفوز، لكن بدا جلياً أن الأغلبية متماسكة، وإن تغيّرت أركانها. فكما تمكن الرئيس نبيه بري من الحصول على 65 صوتاً من بينها أصوات الاشتراكي، تمكن الياس بو صعب من الحصول على 65 صوتاً من دون أصوات الاشتراكي. ما يعني أن الأكثرية ستظل قادرة على فرض وجهتها متى اقتضى الأمر، وإن كانت ستتبدل هذه الأكثرية تبعاً لتبدّل القضايا المطروحة.

الأدلة على أن المجلس الحالي هو المجلس الأول الذي يشهد انتخابات جدية في عصر نبيه بري عديدة. ليس أولها الأرقام المتدنية التي حصل عليها الفائزون. الأهم كان في الخلاف الدستوري القانوني الذي شهدته الجلسة على كيفية احتساب الأكثرية المطلقة والأكثرية النسبية.

بعد انتهاء الدورة الأولى من انتخابات نائب رئيس المجلس وحصول أبو صعب على 64 صوتاً، طلب النائب حسن فضل الله الكلام بالنظام، مشيراً إلى أن عدد المقترعين، يجب أن يُستثنى منه من اقترع بورقة لاغية، مستشهداً بالمادة 44 من الدستور والمادتين 2 و12 من النظام الداخلي لمجلس النواب. ما يعني، بحسب فضل الله، عدم احتساب الورقتين اللاغيتين من بين عدد المقترعين، ما يجعل عدد المقترعين الفعلي 126 مقترعاً وليس 128، ويعني أن الأكثرية المطلقة هي 64 صوتاً وليست 65 صوتاُ. وفيما وصفت يعقوبيان هذا الموقف بأنه "اجتهاد غب الطلب"، قال النائب جورج عدوان إن عدد المقترعين يُحدّد قبل فتح الأوراق، وقبل تبيان عدد الأوراق الملغاة منها.

هذا الجدل فتح باباً كان مغلقاً لسنوات طويلة، إذ أن التفاهمات المسبقة التي كانت تؤدي إلى تزكية كل المرشحين لم يحتج إلى التدقيق في دستورية احتساب عدد الأوراق. حتى بري لم يكن يملك الإجابة الواضحة، لكنه تبنى وجهة نظر يعقوبيبان وعدوان، وطلب إعادة توزيع الأوراق.

ولكن بالرغم من خلط فضل الله بين احتساب عدد المقترعين في الانتخابات النيابية وبين الانتخابات في المجلس النيابي، فقد غاب عن كل المعترضين على كلامه، بمن فيهم رئيس المجلس، أن النص الدستوري يشير فعلاً إلى عدم احتساب الأوراق الملغاة. لا بل أكثر من ذلك يعتبر الخبير الدستوري وسام اللحام أن فضل الله أخطأ بالاكتفاء بطلب عدم احتساب الأوراق المُلغاة، مشيراً إلى وجوب عدم احتساب الأوراق البيضاء أيضاً. وقد سبق أن تطرّق اللحام إلى ذلك في مقالة مفصّلة نُشرت في المفكرة القانونية بعنوان "إشكاليات دستورية بشأن انتخاب رئيس مجلس النواب".

الاعتماد على هذا التفسير الواضح للدستور، وبعيداً عن الصراخ الذي غلّف المجلس، يقود إلى حسبة مختلفة. هذا يعني أن المعركة الوهمية التي أخذت طابع أمّ المعارك، والتي تتعلق في السعي إلى عدم فوز بري من الدورة الأولى، مقابل سعي الفريق الآخر إلى حصوله على 65 صوتاً، انطلاقاً من أن هذا العدد يشكل الأغلبية المطلقة من عدد المقترعين، أي 128 نائباً في حال لم يكن هنالك أي غياب عن المجلس، هي معركة دخانية. فالدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب، يشيران، بحسب دراسة اللحام وبحسب تجارب سابقة أتى اللحام على ذكرها في مقالته، إلى أن بري كان يحتاج للعودة إلى منصبه للمرة السابعة على التوالي، لـ33 صوتاً فقط، هي الأغلبية المُطلقة من عدد المقترعين الفعلي، أي 65 نائباً (بعد حسم الأوراق الملغاة والبيضاء والتي بلغ عددها 63 ورقة). كذلك فإن الياس أبو صعب لم يكن يحتاج لدورة ثانية ليتأكد فوزه بنيابة رئاسة المجلس. ففي الدورة الأولى لو لم تُحتسب الأوراق الملغاة والبيضاء وعددها 15 ورقة، لكان يحتاج فقط إلى 57 صوتاً ليكون حصل على الأغلبية المطلقة من أصوات المقترعين البالغ عددهم 113 مقترعاً.

الانتخابات تُخرج الأعراف إلى العلن

نتيجة أخرى تأتّت عن إجراء الانتخابات فعلياً. هذه النتيجة تمثلت في خروج الأعراف المسكوت عنها سابقا إلى العلن. حصل ذلك بشكل خاص في معرض انتخاب أميني سرّ المجلس.

فبعدما أعلن بري ترشح كل من ألان عون وهادي أبو الحسن وزياد حواط إلى أمانة السر، وقفت النائبة بوليت يعقوبيان لتعلن ترشيح فراس حمدان أيضاً، ثم عادت وأضافت اسم ميشال دويهي. وهذان الترشيحان أتيا بالواقع ليعيدا إنتاج العرف الذي يقضي بأن يترشّح لهذين المنصبين درزي وماروني. لكن التزام العرف من قبل التغييريين، وإن بشكل غير معلن، لم يكن كافياً لمنع خلط الأوراق. لذلك، استشرستْ كتلة اللقاء الديموقراطي في النقاش في النظام الداخلي. وأصر أعضاؤها على انتخاب أميني السر في ورقة واحدة، ظناً منهم أنهم بذلك يحمون المقعد الدرزي. لم يعلنوا ذلك بداية. وظلّ النقاش يأخذ طابع النقاش القانوني المنطلق من النظام الداخلي لمجلس النواب، إلى أن أوضح النائب فريد الخازن الصورة علناً داعياً إلى ضرورة التنبّه إلى العرف. هنا صار النقاش أكثر وضوحاً. المعركة صارت على تثبيت المقعد الدرزي. سأل النائب أبو فاعور: على أي أساس انتخبنا رئيس المجلس ونائبه؟ ليخلص إلى وجوب أن يُحترم العرف في المناصب الباقية. بري ظل متحفظاً بداية على البوح بوجوب الانتخاب الطائفي، معتبراً أن انتخاب كل أمين سر في ورقة مستقلة يمكن أن يحافظ على العرف من دون صخب. لكن الاشتراكي ظل على رفضه، داعياً إلى انتخاب أمينيْ السر في ورقة واحدة دون أن يكون واضحاً كيف يمكن لذلك أن يضمن وصول المرشح الدرزي. ولذلك، دعا النائب جبران باسيل إلى "حماية الأقليات"، من خلال انتخاب أمين السر الأول من بين المرشحين الموارنة الثلاثة (ألان عون وزياد حواط وميشال دويهي) ثم الثاني من بين الدروز، بما يضمن عملياً عدم وصول أميني سر من طائفة واحدة. لكن بشكل غير مفهوم، لم يوافق نواب اللقاء الديمواقراطي أيضاً على هذا الطرح. ومع ذلك، تم السير بالاقتراح الذي يشكل سابقة في انتخابات المجلس، إذ لم يسبق أن تمّ حصر الترشح لأي منصب بطائفة محددة بشكل علني.

حين انتهت عملية الانتخاب للمنصب المخصص لأمين السرّ الأول (والتي تم حصرها بالمرشحين الموارنة)، أعلن حمدان انسحابه والنائب دويهي من المعركة الانتخابية "التزامًا بأحكام الدستور المدنيّ ولأننا لم نترشح بصفتنا المذهبية". لكن في هذا الوقت كانت عملية انتخاب أمين السر الأول قد سلكت طريقها، فبدأت عملية عدّ الأصوات وكانت المفاجأة أن دويهي لم يحصل سوى على أربعة أصوات، مقابل حصول ألان عون على 65 صوتاً وزياد حواط على 38 صوتاً، ما أثار الاستغراب من مدى تماسك "الكتلة التغييرية"، ما كشف القدرة المحدودة للقوات في المجلس.

أمام هذا الانسحاب عادت عملية "الانتخاب" إلى طبيعتها، ففاز النائب هادي أبو الحسن بموقعه في أمانة سر المجلس بالتزكية. والتزكية أيضاً استمرت لدى انتخاب المفوضين الثلاثة لهيئة مكتب المجلس، وهم أيضاً موزعون عرفاً على الكاثوليك والسنة والأرمن الأثوذوكس، فكانت هذه المناصب من نصيب أغوب بقرادونيان وميشال موسى وكريم كبّارة. أي أن مكتب المجلس حافط على تمثيله السياسي السابق من دون أي تغيير، كما حافظ على أعضائه أنفسهم (باستثناء إيلي الفرزلي الذي استبدل بالياس بو صعب وسمير الجسر الذي استبدل بكريم كبارة).

ارتباك في الامتحان الأول بانتظار انتخابات اللجان

أخيراً، ما تلحظه بوضوح في الجلسة هو ارتباك النواب "التغييريين" الذين بدوا بلا وجهة ولا خطة واضحة في مواجهة ما يسمونه المنظومة. الارتباك يبدأ من السؤالين البديهيين اللذين بديا أمس بلا إجابة واضحة أو بالأحرى بلا إجابة نهائية. "هل يجدر بنائب تغييري أن يلتزم بالأعراف الطائفية في تقاسم المراكز؟" و"ممّن تتألف المنظومة؟ هل هي حصراً حركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر، أم أنها تضم كل من شارك في الحكومات المتعاقبة التي أوصلت البلد إلى الانهيار؟ بمعنى أوضح، هل تضمّ المنظومة، على الأقل، القوات والاشتراكي أيضاً؟"

في جلسة أمس لم تكن الإجابة واضحة. انتخابات نائب الرئيس شكّلت الدليل على التخبّط. في الدورة الأولى، لم يتمكّن أيّ من المرشّحيْن الياس بو صعب وغسان سكاف من الفوز في الدورة الأولى، فحصل أبو صعب على 64 صوتاً وسكاف على 49 صوتاً، مقابل 13 ورقة بيضاء وورقتان ملغيتان، وبدا جلياً هنا أن أغلب التغييريين لم يعطوا أصواتهم لأي من المرشحيْن، وهذا يمكن وضعه في سياق رفضهم المبدئي لمرشحي المنظومة. لكن في الدورة الثانية، انكسر هذا المبدأ. فقد حصل أبو صعب على 65 صوتاً وسكاف على 60 صوتاً، مقابل ورقتين بيضاوين وورقة ملغاة، ما يعني أن جزءاً وازناً من النواب ال13 اختار الاصطفاف مع مرشح الحزب الاشتراكي المدعوم من حزب القوات. النائبة حليمة قعقور لم تترك مجالاً للشكّ. كانت واضحة في الإشارة إلى أن النواب ال13 انتخبوا سكاف في الدورة الثانية، فيما سبعة منهم فقط انتخبوه في الدورة الأولى وهو ما أكده دويهي أيضاً.

المشكلة هنا أن كل ذلك حصل بلا قرار واضح وبلا أي اتفاقات مسبقة، والأهم بلا أي رؤية. تكرّر المشهد في انتخابات أمينيْ السر، تبعا لإعلان ترشح إثنين منهم لأمانة سرّ المجلس ضمن الأعراف المعتمدة. وهو ترشح ما لبث أن أعلن المعنيان به التراجع عنه بحجة أن المعركة طائفية، إنما بعدما ظهر أن أحدهما لم يحصل إلا على 4 أصوات فقط، مما يؤشر إلى عدم تماسك الكتلة في دعمه. الأسوأ أنه خلال دقائق، تمّ ترشيح نائبين من هذه الكتلة على أساس طائفي لكن بشكل غير معلن، ثم تم السير بالترشيح على أساس طائفي لكن هذه المرة بشكل معلن، ثم أعلن الانسحاب من المعركة لأنها معركة طائفية.

بالنتيجة، انتهت الجلسة الأولى للمجلس على خسارة معنوية للنواب التغييريين. لكنهم سيكونون الثلاثاء المقبل أمام اختبار جديد. وقد أكد بري أن انتخابات اللجان النيابية ستحتاج إلى أيام إذا لم يتم الاتفاق مسبقاً على أغلب المرشحين. وبحسب التجربة، ستكون معركة السلطة أسهل هنا. إذ أن القوات ستكون جزءاً من التوافق، لكي تتمكن من إيصال ممثليها إلى اللجان، ولكي تضمن استمرارها برئاسة لجنة الإدارة والعدل. ما يعني أن أي معركة ستُخاض ستكون خاسرة مسبقاً إذا لم توضع في إطار تراكمي واضح. وإذا أراد النواب التغييريون أن يكونوا جزءاً من اللجان عليهم أن يكونوا جزءاً من الاتفاق المسبق، أما البديل فسيكون عدم العضوية في أي لجنة، مقابل الاكتفاء بحضور كل الجلسات والنقاش فيها من دون الحصول على حق التصويت.

خلال أسبوع يُفترض أن يُحدد النواب الجدد وجهتهم. فقد بدا جلياً أمس أن النضال في الشارع يختلف عن النضال في المجلس. في المجلس لا يمكن للانفعال أن يحضر. في المجلس المناصب لن تكون مهمة إلا بما يخدم المشروع. هل صار للمعارضة مشروع واضح يمكن أن تتفق عليه مع من تريد وأن تختلف مع من تريد أو حتى أن تخوض في سبيله المعركة مستقلة حتى لو كانت الخسارة نتيجتها، أم أن الاختلاف سيبقى على أساس الأشخاص والأحزاب؟

على سبيل المثال، إذا أراد ممثلو الثورة أن يواجهوا المنظومة المصرفية التي تسعى إلى تمرير قانون كابيتال كونتنرول على قياسها، فعليهم أن يصطفوا مع كل من يرفض هذه الجريمة، بغض النظم عن اسمه ولونه. وإذا أرادوا أن ينهوا زمن تلطي اللصوص خلف قانون السرية المصرفية، عليهم أن يسلّموا بوجوب التفاهم المسبق مع الساعين إلى إلغاء هذه السرية. وهذا يسري أيضاً على خطة التعافي المالي والاتفاق مع صندوق النقد الدولي وعلى الموازنة وعلى الموقف من الصندوق السيادي لإدارة أصول الدولة… تلك القضايا هي التي جعلت الناس يفترشون الشارع، وهم يتوقعون اليوم من ممثليهم في البرلمان أن ينقلوا المعركة إلى داخل ساحة النجمة.