القرم للحكومة: تجاوز قرار ديوان المحاسبة أو التمديد لـ"ليبان بوست"

إيلي الفرزلي

24/10/2023

انشر المقال

لم يترك وزير الاتصالات جوني القرم وسيلة إلا وأقدم عليها لتسليم قطاع البريد إلى ائتلاف شركتي Merit Invest اللبنانية وColis privé france (المملوكتين من شركة CMA CGM). آخر محاولاته اللعب على وتر الحرب في جنوب لبنان وفلسطين لدفع مجلس الوزراء، في جلسته الأخيرة، إلى نقض قرار ديوان المحاسبة الذي رفض الموافقة على توقيع عقد مع الشركة لوجود مخالفات عديدة في إجراءات المزايدة موصيا بإطلاق مزايدة جديدة. مبرّر القرم هي صعوبة تقدّم أي مستثمر إلى أي مزايدة جديدة في هذه الظروف. لكن بالرغم من أن الوضع اليوم دقيق فعلاً، وقد يؤدي إلى ابتعاد الشركات عن الاستثمار في القطاع، إلا أن ذلك يؤكد أن المطلوب ليس توقيع عقد يرفضه الديوان، بل التدقيق في:

  • سبب عدم تنفيذ قرار مجلس الوزراء إنشاء شركة تدير القطاع إلى حين تلزيمه.
  •  سبب الوصول إلى هذه المرحلة ومحاسبة الإدارة المعنية على هدرها وقتاً ثميناً في سعيها لتركيب صفقة مخالفة لتوصيات ديوان المحاسبة في التقرير الخاص الذي تناول فيه القطاع البريدي (8/6/2021).
  • سعي الوزارة إلى تعديل دفتر الشروط بما يتناسب مع مؤهلات عارض محدد.
  • التعامل باستهتار مع الاعتراضات التي وصلتها من عارضين آخرين، بما ساهم بإلغاء أهم عنصر من عناصر قانون الشراء العام، أي المنافسة العادلة. 

وبمعزل عن ذلك، من أجل إقناع مجلس الوزراء بضرورة نقد قرار ديوان المحاسبة، أشار القرم إلى أن العقد الجديد سيمنح الدولة عائدات سنوية تتخطى 5 مليون دولار، مقابل 40 ألف دولار فقط تحصل عليها حالياً من "ليبان بوست" (يتبين من مشروع موازنة العام 2024 أن الوزارة تتوقع إيرادات للخزينة من قطاع بريد بقيمة 2.3 مليون دولار لا 5 ملايين)، التي سيكون لزاماً على الوزارة الاستمرار في التعامل معها في حال عدم توقيع العقد. وفي طلبه إلى مجلس الوزراء الموافقة على توقيع العقد، أعرب القرم عن خشيته من أيّ تأخير في عملية التلزيم ومن عدم إتمامها بالمطلق، لإحجام الجهات صاحبة الخبرة في الخدمات البريدية عن المشاركة وعدم رغبتها في التعامل مع الدولة. 

مساع مستمرة لتلزيم "ميريت"

كما سبقت الإشارة، لم يكنْ عرض الأمر على مجلس الوزراء المحاولة الأولى من وزير الاتصالات لتوقيع العقد مع شركة "ميريت". قبلها، ولاسيما في المزايدة الثانية، سارع إلى إعلان فوز الائتلاف نفسه بالصفقة قبل أن توصي هيئة الشراء العام بإلغاء النتيجة بسبب مخالفة عرض الشركة لدفتر الشروط. 

ألغى القرم النتيجة فعلاً لأن مخالفته لدفتر الشروط كانت فادحة. وقد عمد تبعا لذلك قبل ‘طلاق المزايدة الثالثة إلى تعديل دفتر الشروط بما يتناسب مع مقومات الشركة نفسها، مكتفياً بإعطاء مهلة 5 أسابيع لتقديم العروض، خلافاً لتوصية هيئة الشراء العام، وبما يضمن عملياً عدم تقدّم أي منافسين جديين. فأي عرض جدي في صفقة معقدة كصفقة تشغيل البريد يحتاج تحضيره لأكثر من المهلة المحددة. وهو ما اعترضت عليه شركة "غانا بوست" وشركة "تراست تريدينغ" المتحالفة مع شركة "دي أتش أل" إضافة إلى شركة "بريد مصر" التي اعترضت شفهياً، إلا أن الوزارة تعاملت مع هذه الطلبات بخفّة متناهية رافضة منح أي مهلة إضافية.

وبالفعل، قدمت الشركة اللبنانية - الفرنسية عرضاً جديداً، ضامنة هذه المرة أنه سيكون مطابقاً للشروط المفصّلة على قياسها. ولأن عرضها كان وحيداً كما في المزايدة الثانية، تمّ إعلان فوزها مجدداً تمهيداً لتوقيع عقد بالتراضي معها. وبالفعل، تبيّن لهيئة الشراء العام، في التقرير الصادر في 31/7/2023، أن العرض مطابق لدفتر الشروط، لكن تبيّن لها أيضاً أن مخالفات عديدة شابت المزايدة. وأوردت أن قرار التعاقد مع مقدّم العرض الوحيد هو قرار استثنائي جداً ويخرج عن مبدأ المنافسة، ولذلك حصر المشرّع اللجوء إليه في 3 حالات محددة يشترط توافرها مجتمعة (أن لا يكون العرض الوحيدة ناتجاً عن شروط حصرية، أن تكون الحاجة أساسية وملحّة، وأن يكون السعر منسجماً مع دراسة القيمة التقديرية). لم تكترث الوزارة، بل استمرت بإجراءات توقيع العقد. 

لكن وجوب الحصول على الموافقة المسبقة لديوان المحاسبة أقلقها مجدداً، فحاولت الالتفاف على الديوان، وسعت إلى الحصول على تفويض من الحكومة لتوقيع العقد. ولما لم يسر المجلس بما تمناه الوزير، لم يعد أمامه سوى تحويل العقد إلى الديوان للحصول على موافقته المسبقة، إلا أن الديوان حجب عنه هذه الموافقة انطلاقا من الإخلال بمبادئ المنافسة وقبول العارض الوحيد خلافا لأحكام قانون الشراء العامّ، داعيا الوزارة إلى إطلاق مزايدة جديدة على أساس دفتر شروط يتوافق مع ملاحظاته من دون تأخير.

وإذ طلب الوزير من الديوان إعادة النظر في قراره، تمّ الاستماع إلى إفادته (في سابقة قلّما تحصل في ديوان المحاسبة) وإفادتيْ المدير العام للبريد محمد يوسف ورئيس هيئة الشراء العام جان العليّة. 

وعلى ضوء ما تقدم، خلص الديوان مجددا في تاريخ 5/10/2023 إلى عدم استقامة الأخذ بالعرض الوحيد في هذه القضية لعدم توفّر أي من شروط المادة 25 فقرة 4 من قانون الشراء العام (شروط التعاقد مع العارض الوحيد). 

وزير الاتصالات يصعّد باللجوء إلى مجلس الوزراء 

هل اقتنع الوزير؟ لم يكن صعباً استشراف توجه القرم، الذي يضع نفسه في مواجهة الهيئات الرقابية في أكثر من ملف (مبنيا تاتش، الرسائل القصيرة A2P…). وهو بالفعل لجأ إلى رئيس الحكومة للتباحث معه في كيفية التعامل مع القرار الجديد حكومياً، على اعتبار أن الحكومة يجوز لها نقض قرار الديوان بعد الاستماع إلى رئيسه. ولما لم يسمع من ميقاتي ما يسرّه أصرّ على ممارسة حقه في عرض الأمر على مجلس الوزراء ليقرر بشأنه ويرفع المسؤولية عن نفسه. 

هنا لا بد من الإشارة إلى أن وزير الاتصالات الذي وجد نفسه أمام معضلة ينبغي على مجلس الوزراء أن يحلها لم يعمد سابقاً لتجنب الوصول إلى هذه المشكلة، فلا تفاوض مع "ليبان بوست" بشكل جدي منذ اكتفى بنقل رفضها تعديل العقد إلى مجلس الوزراء، في جلسة 22/5/2022، بخلاف ما كان أوصى الديوان، ولا التزم بقرار المجلس، الصادر في 18/4/2023، والذي دعاه بشكل واضح إلى تأسيس شركة لبنانية مساهمة يكون موضوعها تأمين الخدمات البريدية. إذ نص القرار على أن تُنقل إلى هذه الشركة أصوله وموجوداته المحوّلة من شركة "ليبان بوست" وتتولى تشغيل القطاع البريدي لمصلحة الدولة خلال مرحلة انتقالية. حينها كان القرار الحكومي واضحاً في ضرورة إعادة إطلاق المزايدة بعد تعديل دفتر الشروط مع الأخذ بجميع ملاحظات وتوصيات ديوان المحاسبة وموافقة هيئة الشراء العام. 

لم يحرك وزير الاتصالات ساكناً للقيام بما طُلب منه. هو الذي يبدو عالقاً بين تلزيم شركة "ميريت" والتمديد لشركة "ليبان بوست" (تتقاطعان في العلاقة مع بنك سرادار). ولذلك، بعد فشل المزايدة الأولى في استقطاب أي عارض، استمر في التأكيد على فكرة واحدة تتعلق بصعوبة إنشاء الشركة، وصعوبة تأمين التمويل لها، وصعوبة إدارة الدولة للمرفق البريدي، متجاهلاً أن المجلس أبدى استعداده للتمويل (في القرار نفسه)، ومتجاهلاً أن المجلس كان ينتظر من وزير الاتصالات أن يأتي إليه بالحلول، أو على الأقل أن يضع الحلول التي سبق أن بتّها مجلس الوزراء موضع التنفيذ. لكنه بدلاً من ذلك، وبعد هدر سنة ونصف السنة، فضّل وضع المجلس في مواجهة مع ديوان المحاسبة ومع هيئة الشراء العام. 

في سعيه إلى دحض الحقائق التي تضمنها تقرير الديوان، وجّه وزير الاتصالات سهامه نحو رئيس هيئة الشراء العام جان العلية، متهماً إياه بالموافقة على دفتر الشروط ثم التنصّل من ذلك أمام الديوان. لكن بالعودة إلى الكتابين الموجهين من الهيئة إلى الوزارة قبل إعلان نتيجة المزايدة الثالثة يتبين أن لا أثر لأي موافقة من قبل الهيئة على دفتر الشروط المعدل. ففي الكتاب الأول، أي في 30/5/2023، أوضحت الهيئة أن تحديد موضوع المزايدة هو على مسؤولية جهة التعاقد، وبشكل يعكس حاجاتها الفعلية. كما يعود لها تحديد المؤهلات بالشكل الذي تراه مناسباً مع موضوع الشراء وعلى مسؤوليتها. وهي إذ أكدت على حق الجهة الشارية بتعديل دفتر الشروط، إلا أنها أكدت أيضاً على أن تكون هذه المراجعة مرتبطة ارتباطاً لصيقاً بالقدرة على تنفيذ موضوع المزايدة. كما أوضحت أن تحديد معادلة التلزيم يجب أن تكون مبنية على دراسة مالية معمّقة. وبعد أن أوردت 7 صفحات من الملاحظات على الشروط، خلصتْ إلى أنها لا ترى مانعاً من إطلاق المزايدة بعد الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات تلك، على أن يتم الإعلان عنها بشكل واسع من خلال السفارات اللبنانية ومواقع إلكترونية وصحف عالمية متخصصة، وأن يتمّ إعطاء العارضين المهلة الكافية لتحضير عروضهم. وفي الكتاب الثاني (5/7/2023) أعادت الهيئة التأكيد على "ضرورة إعطاء مهلة كافية للعارضين لتقديم عروضهم. كما أعادت التأكيد على مسؤولية الجهة الشارية في إعداد شروط تأهيل تتناسب مع موضوع المزايدة ولها صلة حصرية بها… فهل التزمت الوزارة بهذه الملاحظات حتى تعلن موافقة الهيئة على دفتر الشروط مسبقاً؟ تكفي العودة إلى قرار ديوان المحاسبة للإجابة على السؤال. وفي التفاصيل، تبين للديوان أن الوزارة:

  • اكتفت بتعميم رغبتها بإجراء المزايدة على التلفزيونات المحلية وعلى وزير الخارجية.
  • عدّلت دفتر الشروط من دون المحافظة على موضوع المزايدة من "تلزيم الخدمات البريدية" ما يعني تلقائياً وجوب أن تكون الشركات المتقدمة شركات بريد، أي تدير قطاع البريد في دول أو مقاطعات، إلى السماح لأي شركة تملك ترخيصاً لنقل مواد البريد أو المراسلات أو الطرود أو الرزم الصغيرة بالمشاركة.
  • حصرت مهلة تقديم العروض ب5 أسابيع بما لا يتناسب مع طبيعة الصفقة والسعي لاستقطاب شركات كبرى إليها.

هل يكسر مجلس الوزراء قرار الديوان؟

بالرغم من عرض الملف على مجلس الوزراء ومناقشته بحضور رئيس ديوان المحاسبة القاضي محمد بدران، الذي تحدّث في المبادئ العامّة القانونية التي اعتمدتْ لإصدار القرار، والتي طبقت هي نفسها على صفقة تلزيم تشييد مبنى جديد للمطار، وهي الصفقة التي وقعها وزير الأشغال علي حميّة ثم تراجع عنها بعد رفضها من قبل الديوان. وذكّر بمخالفة الصفقة للقانون في مواضع عديدة، أبرزها: 

  • عدم إعطاء وقت كافٍ للعارضين للتقدم بعروضهم.
  • عدم وجود دراسة للسوق، تبرر اعتماد سعر الأساس المحدد في الصفقة، وهو ما ينفي بالتالي إمكانية اللجوء إلى المادة 25 من قانون الشراء العام.
  • التعديلات على دفتر الشروط بما يتناسب مع العرض الوحيد.

بعد الاستماع إلى كل من وزير الاتصالات ورئيس الديوان، لم يبتّ مجلس الوزراء بالأمر بانتظار الاستماع إلى رئيس هيئة الشراء العام، الذي تقرر دعوته إلى الجلسة المقبلة. فهل تنتصر السلطة التنفيذية للقانون أم تتمرّد عليه وتكسر رأي هيئتين رقابيتين هما ديوان المحاسبة وهيئة الشراء العام، بما يؤدي عمليا إلى تقويض أي ادّعاء باعتماد الشفافية في صفقات الشراء العام ويزيد من عدم رغبة المستثمرين في المشاركة فيها؟ وإن كان وزير الاتصالات يدرك صعوبة كسر قرار الديوان، فهل يهدف إلى حشر المجلس في زاوية إحياء عملية التمديد لـ"ليبان بوست"؟