المفكرة تنشر قرار "الدستوري" بشأن السرية المصرفية: "وضوح النقاش التشريعي شرط للسيادة الشعبية"

المفكرة القانونية

22/12/2022

انشر المقال

أصدر المجلس الدستوري اليوم قراره في ردّ الطعن المقدّم من عدد من "نواب التغيير" والنواب المستقلّين[1] في القانون رقم 306/2022 المتعلّق برفع السرية المصرفية والذي أقرّه المجلس النيابي في جلسة 18/10/2022 التشريعية، إلا بما يتصل بمسألة جزئية وهي إبطال المهلة المفروضة على القضاء المستعجل للنظر في الاعتراض على طلب معلومات عامة من المصارف، على خلفية أنه لم يثبت إقرارها من قبل الهيئة العامة. إلا أنه ورغم ذلك، فقد تضمن القرار حيثيات هامة من شأنها تعزيز فعالية المواد الواردة في القانون المطعون وتصويب العمل التشريعي.

ويستدعي هذا القرار ثلاث ملاحظات نكتبها على عجالة على أن نوسعها لاحقا: 

المجلس يحسم النقاش بحيثيات واضحة: يُمكن طلب رفع السرية المصرفية مباشرة من دون المرور بأي مرجع آخر

اعتبر مقدّمو الطعن أنّ الهيئة العامة وافقت على طلب النائبة بولا يعقوبيان خلال الجلسة بإضافة عبارة مفادها أن للقضاء وسائر المراجع المخولة رفع السرية المصرفية طلب المعلومات مباشرة "دون الحاجة إلى المرور بأي مرجع أخر قضائي أو إداري"، وذلك عند طلب المراجع المختصة من المصارف رفع السرية عن أحد الحسابات. لكن القانون صدر من دون تضمينه هذه العبارة.

وفي تصدّيه لما أثاره مقدّمو الطلب، عاد المجلس الدستوري وذكّر بمواقف علي حسن خليل لجهة وجود نية بمنح هذه المراجع سلطة طلب المعلومات مباشرة، مستعيدا التفسير الذي أعطاه هذا الأخير للعبارة الواردة في مستهل المادة 3 من القانون، ومفادها "على المصارف أن تقدّم جميع المعلومات فور تلقّيها طلبا..". وعليه، وإذ اعتبر المجلس الدستوري أن اقتراح يعقوبيان لم تتم الموافقة عليه، إلا أنه توصل إلى نفس النتيجة المتوخاة من الجهة الطاعنة حين فسر العبارة المذكورة أنها تؤكد "من دون لبس أنّ لكل تلك المراجع طلب المعلومات مباشرة من المصارف من دون مرورها بأيّ مرجع آخر، بما في ذلك هيئة التحقيق الخاصة".

ويكون المجلس إذ ذاك قد حسم هذه المسألة التي أسالت الكثير من الحبر بشأن فعالية القانون، عبر تأكيده على أنّ رفع السرية المصرفية لم يعد مرتبطا بأي شكل من الأشكال بهيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها حاكم مصرف لبنان، وهو الأمر الذي أعاق لسنوات رفع السرية المصرفية في أيّ قضية فساد.

رسالة إلى المجلس النيابي بضرورة تعديل الممارسات التشريعية

قرّر المجلس الدستوري إزالة المهلة الممنوحة لقاضي الأمور المستعجلة (15 يوما) للبت بالاعتراضات على قرار رفع السرية وذلك لمخالفته مبدأ وضوح النقاشات البرلمانية، بعدما أعطى لوضوح هذه النقاشات قيمة دستورية لتعلّقه بمبدأ السيادة الشعبية المنصوص عنها في الفقرتيْن (ج) و (د) من مقدّمة الدستور. ويأتي هذا الإبطال بعد عودة المجلس الدستوري إلى محضر الجلسة التشريعية، ليتبيّن له أنّ النائب علي حسن خليل قد طلب إضافة هذه المهلة من دون أن يتمّ الاستجابة لهذا الطلب من قبل المجلس أو رئيسه أو طرحه على التصويت.

وفي حين أنّ قرار المجلس الدستوري جاء في مكانه لجهة تصويب الخلل في هذه المادة حصرا، إلّا أنّ ذلك يسلّط الضوء على فوضى الآليات التشريعية في المجلس النيابي. فالعشوائية والفوضى الحاصلة خلال التشريع لا تسمح فعليا بمعرفة ما أُقرّ وما لم يقر من اقتراحات وتعديلات عليها، وهو ما أثاره النواب عدّة مرّات في طعنهم. كما أنّ قانون رفع السرّية المصرفية بقي لمدّة تفوق الأسبوع في المجلس النيابي ليتمّ صياغته، لتخرج هذه الصيغة بمخالفة لما تمّ إقراره في الهيئة العامة وفق ما أكّده المجلس الدستوري.

ويؤكّد ذلك صحّة فرضية من إثنيْن: الأولى، تفترض حسن النية، تُفيد بأنّ التشريع يحصل بعشوائية فائقة لا يُمكن من بعدها ضبط ما تمّ إقراره في الهيئة العامة. الثانية، وتفترض سوء النية، فهي تفيد بأنّ هناك من يتدّخل في صياغة النصوص بعد الجلسات لتمرير اقتراحات وردت خلال الجلسة حتّى ولو لم يتم إقرارها في الهيئة العامة، على أمل ألّا يتنبّه أحد لذلك، وهو أمر ازدادت حوله الشكوك نظرا للفترة القياسية التي استغرقتها صياغة النص بعد الجلسة في المجلس النيابي كما ذكرنا أعلاه.

المجلس الدستوري لم يخرج عن إطار الطعن في تقييم دستورية القانون

أخيرا يُسجّل أنّ المجلس الدستوريّ قد اكتفى بالرد على حجج الجهة الطاعنة، من دون أن يثير أي مسألة دستورية من تلقاء نفسه، أي من دون أن يمحّص من جانبه باحتمال وجود مخالفات فيه للدستور. وهو بذلك بدا متحفظا ومنكفئا إلى حدّ ما في ممارسة صلاحيته الشاملة في تقييم دستورية القوانين والتي كان كرسها في عدد من قراراته. آخرها القرار 23/2019 والذي ورد فيه حرفيا "أن مراجعة الطعن بدستورية القانون ليست مراجعة شخصية بل إنها تتعلق بالانتظام العام الدستوري المرتبط بكل قانون يجري إقراره وإصداره، فيكون من اختصاص المجلس الدستوري، حفاظاً على الانتظام العام المشار إليه، أن يضع يده عفواً على كل مخالفة لأحكام الدستور يمكن أن تكون قد شابت القانون موضوع الطعن، دون أن يكون مقيداً لا بمطالب المستدعين ولا بحرفية مطالبهم".

ولعل أهم النقاط التي كان يؤمل أن يخوضها المجلس الدستوري هي مسألة حجب صلاحية الهيئات المصرفية في طلب معلومات عن الحسابات الخاصة، وذلك من زاوية أن هذا الحجب إنما يمنع التمييز بين الحسابات المصرفية وفق مدى مشروعيتها، ويمنع تاليا وضع سياسات لضمان الودائع وتوزيع الخسائر تكون منسجمة مع مبدأ العدالة الاجتماعية الوارد في مقدمة الدستور.

أيّا يكن، تبعا لهذا القرار، يجدر أن تلتفت الأنظار إلى تطبيق هذا القانون في اتجاه تعرية كل من كانت السرية قناعه.

لقراءة قرار المجلس الدستوري، إضغط/ي هنا


[1] بولا يعقوبيان وإبراهيم منيمنة ونبيل بدر ووضّاح الصادق وأسامة سعد وفراس حمدان والياس جرادي وياسين ياسين وشربل مسعد وسينتيا زرازير ورامي فنج وحليمة قعقور وعبد الرحمن البزري.