بحثًا عن العامّ في لبنان بين الأرض وملكيّتها (5): "ميري عام" و"ميري خاص"

بترا سماحة

22/08/2024

انشر المقال

كنت قد عرضت في الجزء الثالث من هذه السلسلة[1] بعض أسباب التماهي بين الميري والملك من خلال عمليات مسح الأراضي، ثمّ فصّلت في الجزء الرابع الاختلافات في تعريف المتروك مرفق. أعرض في هذا الجزء التدابير التي أدّت إلى تحويل الميري إلى ملك على السجّلات نهائياً، أو تحوير معنى الميري بالممارسة مع الوقت دون تغيير ما هو مدوّن على السجلّ.

حصل ذلك نتيجةً لتحوّلات القانون بين عامي 1858 و1930 كما عرضت في الجزء الأول. لكن ما زالت المادّة السادسة من قانون الملكية العقارية تعرّف الأراضي الأميرية على أنّها “العقارات التي تكون ′رقبتها‛ للدولة ويجوز أن يجري عليها حق ′تصرّف‛.” لم يحصل أيّ تعديل على هذه المادّة تحديداً، كما أنّه لم يصدر أيّ قانون منفصل بشأن الأراضي الأميرية حال فلسطين والأردن[2]. بالمقابل، ساهمت بعض الممارسات الإدارية والاجتهادات القانونية والأحكام القضائية في تعزيز تناقضات القانون جوهريّاً.

يتضمّن هذا المقال أربعة مسارات يتزايد من خلالها التماهي والتقارب بين الميري والملك: (1) تحويل الميري إلى ملك من خلال تعريف عكسي لما هو “ملك” ضمن الأحكام القضائية، (2) كيفية صياغة تفسير قوانين الملكية والتحديد والتحرير بما يخصّ حقوق التقادم، (3) ممارسات المسّاحين في تعريف وتسجيل الأراضي، (4) واقتراحات النوّاب لقانون تحويل الميري إلى ملك. نتج عن هذه الممارسات والتفسيرات نوعان من الأراضي الأميرية في مفهوم المسح والملكية العقارية: قسم أصبح وكأنّه ملك من دون تعديل السجلات، أسمّيه في هذا النص “ميري خاص” لسهولة الإشارة إليه، رغم التناقض الظاهري (oxymoron) في التسمية، وقسم آخر سجَّلت الدولة لنفسها حقوق التصرّف عليه، أسمّيه “ميري عام”.

تعريف للـ"ملك"، والباقي أميري

لا يوجد في لبنان قانون يسمح صراحةً بتحويل الأرض الأميرية إلى ملك ربطاً بحدود إداريّة أو بلديّة معيّنة كما الأردن. لكن استند القضاء في الأربعينات إلى المادّة الخامسة من قانون الملكية، تعريف العقارات الملك، ليسمح بهذا التحويل إفادةً من المدلول العكسي. تنصّ المادّة الخامسة على أنّ “العقارات الملك هي العقارات الكائنة داخل مناطق الأماكن المبنية كما هي (أي المناطق) محدّدة إداريا والقابلة للملكيّة المطلقة. ويُستثنى من ذلك العقارات القائمة على أراضي حكومة جبل لبنان السابقة المستعملة فإنها تبقى خاضعة لأحكام العرف والعوائد المحليّة” (قانون الملكية العقارية 3339/1930).

اجتهد بعض القضاة بتفسير هذه المادّة مستنتجين أنّ كل أرض يمكن أن تكون “ملكا” طالما أنّها ضمن التحديد الإداري، بالتالي يصبح ممكناً تحويل الميري إلى ملك. لكن كيف تمّ تعريف وتحديد المناطق الإدارية؟ في تقرير الخبير الذي استند إليه حكم قرار محكمة التمييز[3] عام 1961 مثلاً، يرد ذكرٌ للمادّة 11 من قانون رقم 1208 الصادر في 12 آذار 1922[4] والمختصّ بنظام البلديات. تتعلّق القضية موضوع الدعوى بتحديد نوع أرض لمعرفة كيفية تقسيم الحقوق الإرثية التي تختلف بين الميري والملك. يذكر التقرير قرارين سابقين لمحكمة الاستئناف من عامي 1947 و1949 كمرجع لهذه الإشارة. يحدّد القانون 1208 ضمن سبعة وتسعين مادّة شروط إنشاء البلديات من ناحية الحدّ الأدنى للسكّان والمساحة، كما ينظّم الانتخابات البلدية واختصاصات مجالسها التي تمّ ربطها بالطوائف أيضاً. تنصّ المادّة 11 المشار إليها في الحكم على أنّ “المنطقة البلديّة تحدّها الأراضي التي يقيم فيها مجموع الأهلين بحيث لا تزيد المسافة الفاصلة بينه وبين الدساكر (المزارع) والبيوت المتفرّقة التابعة عن ثلاثمئة متر على أنه يستثنى من هذا الحكم ما جاء في المادّتين الثالثة والسابعة”. تنصّ المادّتان الثالثة والسابعة على السماح بتأليف بلدية في أماكن لا يفصل بين مجموعات السكن فيها مسافة أطول من كيلومترين ونصف. إذاً، أتت هذه الموادّ لتحدّد أطر التمثيل المحلّي لمجموعة سكان في إطار جغرافي معيّن، من دون ذكر لأنواع واستعمالات الأراضي. ولعلّه تاليا من الإبداع القانوني استخدامها لتعريف ملكية الأرض كما جاءت في المادّة الخامسة من قانون 3339. كما إنّه من المستغرب الرجوع إلى هذا القانون تحديداً مع إشارة غير دقيقة لرقمه وتاريخه، استناداً لأحكام سابقة، كونه كان قد صدر عام 1953 قانونٌ أحدث للبلديات. هكذا، شكّل حكم قضائي بين شخصين منذ 80 عاماً سابقة قانونية وضعت قاعدة جديدة لتعريف الملك الخاص، لتصبح الأراضي الأميرية فضلات عنها خارج مسمّى المناطق المبنية المحدّدة إداريًّا. ثبّتت هذه الأحكام، دعوى تلو الأخرى، تعريفاً جديداً للأرض الأميرية. كما إنّ تعريف المناطق المبنية أيضاً تحوّر مع الوقت. في حين ورد في قرار لمحكمة الاستئناف عام 1946 على الشكل التالي: “مجموعة الأبنية التي تتألف منها القرية أو المدينة لا تدخل فيها الأملاك التي تبعد عن آخر بيت منها مسافة تزيد عن ثلاثمائة متر ولو كانت هذه الأملاك مبنية” ، نجد لاحقاً تعابير مثل “جملة أبنية أقلّها منزلان بحيث لا يكون أحدهما في جهة معاكسة للآخر”[5] أو “منطقة سكنية مكتظة بالأبنية”[6]. كما زادت الاجتهادات حول ضرورة ’تحديد المنطقة إداريّاً بشكل رسمي‘ بحيث لا يكون تعديل نوع الأرض تلقائيًّا حين تقع ضمن مجموعة أبنية. في قرار لمحكمة بعبدا الابتدائية[7] عام 1995، أكّد القاضي على ذلك، لكن أضاف أنّ “حق التصرف الجاري على العقارات الأميرية هو نوع من الملكية إذ يكتسب بالأسباب التي يكتسب بها حق الملكية كالإشغال والحيازة والإلحاق والشفعة والميراث والتصرف القانوني. ليس هناك من فروقات عملية تستوجب الإبقاء على حق التصرف كوضع قانوني مستقل عن حق الملكية”، مؤكّداً أنّ تعديل النوع الشرعي للعقار من أميري الى ملك لا يرتّب دفع أي مقابل للدولة.

على هذا النحو، استباحت اجتهادات القضاء رقبة الدولة على أراضيها. لا يرد في أيّ من القرارت المذكورة أعلاه ذكر لاستخدام الأرض أو معنى حق التصرّف. بالتالي، فإن قرار محكمة التمييز الصادر لاحقًا عام 1980 والذي نصّ على أنّ “الحيازة في الأرض الأميرية يجب أن تكون عن طريق زراعة الأرض”[8]، يكون أصبح قرارا شاذا، رغم كونه الوحيد المطابق للتعريف القانوني لحق التصرّف واستخدام الأرض.

حقوق التقادم

بالإضافة إلى هذه الاجتهادات القضائية، يحمل القانون أيضاً تناقضات منذ صياغته في العشرينيات والثلاثينيات بمعزل عن التعديلات والتفسيرات التي أتت لاحقاً. إنّ إثبات حقّ تصرّف وإمكانية تسجيله على أرض أميرية يسمّى حق التقادم، ويُكتسب بالإشغال ومرور الزمن حسب شروط محدّدة في القانون. إن حق التقادم على الأرض الأميرية موجود من قَبل التنظيمات العثمانية. أبقى الفرنسيون عليه من خلال ما تمّ توصيفه قانونا ب “الإشغال الهادئ، العلني والمستمر” للأرض. لكن الفترة الضرورية ليصبح هذا الإشغال مكسباً لحق تسجيل التصرّف ليست واضحة. حسب المادّة 257 من قانون الملكية (1930) هذه الفترة هي خمس سنوات في حال وجود سند يثبت حق التصرّف، وخمس عشرة سنة بدونه. أمّا المادّة 260، فتنصّ على إمكانية اكتساب “حق تسجيل التصرف في الأراضي الأميرية غير الخاضعة لإدارة أملاك الدولة بمرور عشر سنوات من تاريخ وضع اليد بسند أو بغير سند بشرط أن يكون واضع اليد قائماً بحرث الأرض”. ورد في قانون التحديد والتحرير 186/1926 في المادّة 37 المعدّلة عام 1932 تأكيد على فترة الخمس سنوات بحال وجود السند، لكن مع إضافات غير واضحة في حال عدم وجود السند: “مدة عشر سنوات أو خمس عشرة سنة حسب النوع الشرعي للعقار أو للمال غير المنقول”.

إذاً، تشدّد بعض الموادّ على الاستخدام الزراعي للأرض الأميرية بمعزل عن مدّة الإشغال، لكن ماذا تعني “الأراضي الأميرية غير الخاضعة لإدارة أملاك الدولة”؟ فبحسب المادّة الثانية من قانون إدارة أملاك الدولة 275/1926، كلّ الأراضي الأميرية هي ضمن أملاك الدولة[9]. كما أنّ المادّتين 236 و255 من قانون الملكيّة تنصّان على عدم إمكانيّة اكتساب أي حق على عقار مسجل في السجل العقاري أو تحت إدارة أملاك الدولة. بذلك، تكون قد استثنت كل الأراضي الأميرية من هذا الحق. هل المقصود من القانون 186 أن حق التقادم ممكن على أراضٍ غير الأراضي الأميرية إذا لم تكن مقيّدة في السجل العقاري؟ وأين يرد هذا التحديد؟ فالقانون يستثني صراحةً الأراضي المتروكة المحمية والمرفقة فقط؛ وما المقصود إضافته من خلال المادّة 260 إلى ما ورد قبلها بثلاث مواد في قانون 3339 لناحية تعريف الأراضي الأميرية؟

من ناحية، شدّد القانون على حماية الأراضي الأميرية كجزء من أراضي الدولة، ثمّ أوجد أطرًا أوسع للتصرّف بها وتسجيل الحقوق الدائمة عليها. بذلك، ساهم النص في خلق ثنائية “الميري العام” و”الميري الخاص”. بالإضافة إلى ذلك، لم يعد حق التصرّف مربوطاً بالحراثة بحيث يذكر قانون الملكية بالمادة 16 أن يمكن لصاحب هذا الحق البناء على الأرض. لكن لا يجوز توسيع الاستعمالات أيضاً لاكتساب حق التقادم قبل تثبيت حق التصرّف، عكس ما يحصل اليوم. إنّ استخدام الأرض لغايات أخرى وخاصّة البناء يحتاج إلى رخصة قانونية لا يمكن الحصول عليها دون سند إثبات الملكية. بالتالي أصبح اكتساب حق التقادم من خلال استعمالات أخرى للأرض بمثابة دعوة للبناء بدون رخصة بحيث أن واضع اليد لا يمتلك قط سنداً يثبت ملكيّته.

زاد الطّين بلّة تفسير بعض المسّاحين لجهة أن التقادم يُكسب حق تسجيل ملكيّة وليس فقط تصرّف على الأرض. بذلك، تخسر الدولة حق رقبتها على الأرض كما إمكانية استرجاعها في حال عدم استخدامها لمدّة خمس سنوات، حسب القانون. في هذا الموضوع، تتضارب آراء الحقوقيين إذا كان استرجاع الدولة للأرض يجري تلقائيّاً أو إذا كان على الدولة، كصاحب حق، التحرّك من خلال القضاء لتثبيت ذلك[10]. لكن بجميع الأحوال، حتّى أثناء أعمال التحديد والتحرير حين يكون ممكناً التأكّد من أصحاب الحقوق دون موارد إضافية، لم تسترجع الدولة أيّ حق تصرّف لم يكن مستغلّاً، لا بل تم تثبيت حقوق التصرّف على “الميري الخاص” ودفع بدلات استملاكها عند الحاجة وكأنها ملك. يؤكّد المساحون على ذلك.

ممارسات المسّاحين

بعد عدّة مقابلات مع مسّاحين وأمناء سجلّ عقاري حاليين وسابقين، أصبح مؤكّداً، أقلّه بما يختصّ بمحافظة الشمال، أنّ المسّاحين يعتمدون اليوم قاعدة حدود الأماكن المبنية لتحديد الميري والملك. لم يعد تعريف الميري يتضمّن رقبة وتصرّفا، رغم عدم تعديل القانون. لإضفاء بعض التناسق على عملهم، فصل المسّاحون ملكية الأرض، عامة أو خاصة، عمّا سمّوه نوعها الشرعي، ميري أو ملك، وتخّلوا عن النوع “المتروك”. بذلك، يمكن أن تكون أرض خاصّة أميرية، عامّة أميرية، خاصّة ملك أو عامّة ملك. لم يعد هناك فرق عملي بين التصرّف والملكيّة، وكما أظهرنا في الجزء السابق حال المتروك مرفق، هنا أيضاً، يحدّد ما هو مكتوب في خانة اسم المالك إذا ما كانت الأرض عامّة أو خاصّة.

عند سؤالهم عن معنى الرقبة والتصرّف والجدوى من استمراريّة التمييز بين الميري والملك في عمليات التسجيل ما داموا لا يرون فرقاً عمليّاً، أتت الأجوبة متعدّدة. أحدهم كان قد اقترح الدمج خلال مسح إحدى القرى لكن مسّاح القاضي العقاري المفوّض متابعة المسح من قبل الدولة رفض اقتراحه حفاظاً على حقّ الدولة بالرقبة، ولو على الورق حاليّاً. جهد الباقون لإيجاد تفسير منطقي ضمن القانون، مردّدين مادّة من هنا وتعبير من هناك، حتى أذعن بعضهم أنّ القانون والنص شيء أمّا التطبيق فشيء آخر. في حين يظن البعض أن الإبقاء على الميري مفيد من أجل توريث حق التصرف بالتساوي بين الرجال والنساء، لم يعِر المسّاحون هذا الموضوع أية أهمية بحيث أكّدوا أنّ استباقه وتجاوزه سهل قبل وفاة صاحب الحق من خلال بيع الحصص للأولاد سلفاً.

في بلدة القبيات، قضاء عكّار، مثلاً، تحتفظ البلدية بلائحة العقارات وأسماء مالكيها من دون ذكر نوع الأرض، ميري أو ملك. يحدّد اسم المالك إذا ما كانت الأرض عامّة (للدولة أو للبلدية أو “مشاع”) أو خاصّة (للدولة أو البلدية أو لأفراد). وتمّ تدوين “مشاع” في خانة اسم المالك للأراضي التي كان نوعها متروكا مرفقا قبل المسح التقريبي الذي جرى عام 1956. يصف أهل البلدة تلالها المحرّجة ب “أراضي جمهورية” وجردها بال “مشاعات”، علماً أنّ ذلك لا يتطابق مع ما أصبحت عليه خريطة العام في البلدة. بالإضافة إلى ذلك، لم تعد الزراعة مرتبطة بالأراضي الأميرية: فبعد أن تمكّن العديد من الفلّاحين من إثبات حقّهم بالتصرّف على الأراضي التي كانوا يزرعونها خلال المسح، أصبحت اليوم هذه الأراضي “ميري خاص” يتصرّف بها أصحابها وقد أضحوا بمثابة مالكيها، كما يشاؤون. نتيجةً لذلك، وعدا عن التعدّيات على الأراضي “الأميرية العامّة”، نرى أبنية في وسط الحرج أو على قمّة الجبل. يرسم الملك الخاص و”الميري الخاص” استعمالات الأراضي في البلدة بحيث كلّ “صاحب حق” “يتصرّف” بأرضه كما يشاء.

أنواع وتركيبات الملك العام في القبيات

نوع المالك

نوع الملكية

بلدية القبيات

ملك

الجمهورية اللبنانية

ميري

الجمهورية اللبنانية

ملك

وزارة

ملك

وزارة

ميري

ملك عموم أهالي حارة x

ملك

ملك عموم أهالي حارة x

ميري

مشاع لعموم أهالي حارة z

ملك

مشاع لعموم أهالي حارة z

ميري

 
 

مثلاً، لقد بنى نائب المنطقة هادي حبيش قصراً على رأس تلّة أحراج بعد أن اشترى حصّة في الأرض “الأميرية الخاصة” التي كان يزرعها أحد سكان القرية سابقاً وتظهر كذلك في الصور القديمة.

صورتان من نفس الموقع في القبيات تظهر فيهما الأرض الأميرية المزروعة سابقاً ضمن الحرج والبناء الجديد عليها (مجموعة فؤاد دباس، وبيتر موسى 2023)

 

الاقتراحات المتكرّرة لتحويل الميري إلى ملك

بالتوافق مع هذه الممارسات المتناقضة مع نص القانون الحالي، تمّ اقتراح قانون تحويل الأراضي الأميرية إلى ملك أسوةً بفلسطين والأردن مراراً في مجلس النواب اللبناني كما خارجه. في منتصف التسعينيات، رفض وزير المال حينها فؤاد السنيورة اقتراح أحد المدراء العامّين المعنيين بالسجل العقاري لذلك بسبب تأثيره على الإرث لدى الطائفة السّنية[11]. في أواخر التسعينيات، اقترح النائب عبد اللطيف الزين مجدّداً هذا القانون وتمت مناقشته في لجنة الإدارة والعدل إلى أن تراجع الزين عنه فجأة في اللحظة الأخيرة جرّاء تهديدات تلقّاها.[12]  عام 2012، رفضت هيئة التشريع والاستشارات الاقتراح عينه كونه تخلّيا نهائي عن حقوق الدولة بالرقبة[13] لكن من دون أي مبادرة للمحافظة على هذا الحق عملياً. كان آخر هذه الاقتراحات عام 2020 من قِبل نائبي منطقة بعلبك-الهرمل غازي زعيتر وحسين الحاج حسن. برّر النائبان ذلك بحجج متعدّدة أهمّها “الإنماء” و”المساواة” كون الدستور يحمي الملكية الخاصة. برأيهما، يتمتّع أصحاب الأراضي الأميرية بحقوق منقوصة: فهناك تفاوت أسعار بين الميري والملك ممّا لا يضمن المساواة بين المالكين وبين المناطق، خاصّة جبل لبنان الذي لطالما تمتّع بالاستقلالية. وصف النائبان النظام في جبل لبنان كاملاً وفي المناطق الأخرى منقوصاً.

رغم عدم إمكانية التوسّع هنا بالعرض التاريخي للأراضي الأميرية، يجدر الذكر أن أساسها هو ضريبة الميري التي كانت تُجبى عن كامل أراضي السلطنة، في جميع المناطق، بما فيها ما أصبح متصرّفية جبل لبنان. ساهمت الأحكام التي أتت لاحقاً لتنظّم حقّ التصرّف ربطاً بأراضي الدولة بتحويل الميري من ضريبة إلى نوع أرض[14]، خاصّةً بسبب ترابط الأرض بنظام الحكم والإدارة وجباية الضرائب. أتى قانون الأراضي عام 1858 ليثبّت وينظّم ذلك. كان حق التصرّف على الأرض الأميرية الطريقة الوحيدة للأفراد للوصول إلى الأرض، أرض الدولة. بالمقابل، مع تحوّل الأرض إلى ملكيات عقارية، أصبح هذا الحق يُعتبر بمثابة ملكية منقوصة مع الوقت.

نستذكر هنا ردود الفعل في جبل لبنان على مذكرة علي حسن خليل التي عرضناها في الجزء السابق. عبّر حينها المعترضون على المذكّرة عن حقوق أزلية على الأرض. أمّا هنا في حالة الميري في البقاع، فقد طغى خطاب الحرمان والحقوق المنقوصة واللا مساواة (الأزلية أيضاً). في الحالتين، يعود “الزعماء” المحلّيون إلى سرديات تاريخيّة مغلوطة بهدف شدّ عصب جماعات محلّية.. بالطبع، ليس لأيّ من الأسباب الموجبة أساس، ولم يمرّ القانون حينها. لعلّه كان محاولة من النائبين تمرير خدمات من دون كلفة من خلال الأرض لمن يدّعيان تمثيلهم، خاصّة لناحية توقيته في ظلّ الأزمة الاقتصادية وجفاف قنوات توزيع الخدمات التي ارتكز النظام عليها في العقود الماضية. لكن بعد استعراض ما آلت إليه الأراضي الأميرية من عامّ وخاصّ، ولحسن مواجهته في حال تمّ اقتراحه مجدّداً، يجب تحديد مفاعيله الحقيقية. هل هو فعلاً يشكّل “ضرباً للأراضي الزراعية” وخسارة ل “بيئتنا الطبيعية والزراعية […] (ال)مرتبطة بشكل مباشر بأساليب حياتنا وسبل عيشنا المتنوّعة عبر المناطق اللبنانية” كما ورد في الملاحظات على اقتراح القانون؟[15]

فعليًّا، لم تعد استعمالات الأراضي الأميرية زراعية بالضرورة، ولم يُسترجع يوماً حق التصرّف غير المستغل من قِبل الدولة اللبنانية. بالتالي ليس هناك علاقة بين نوع الأرض الأميرية والمحافظة على المساحات الزراعية. إضافةً إلى ذلك، تتضمّن سجلات وزارة المالية الأراضي “الأميرية العامّة” فقط. أمّا الأراضي الأميرية “الخاصة” فهي لا ترد أساساً ضمن أملاك الدولة، وكأن الأخيرة قد تخلّت عنها بالفعل من دون الحاجة للقانون. بالتالي، لا يمكن معرفة عدد ومساحة الأراضي الأميرية التي ستصبح “ملك” أفراد جرّاء هذا القانون. عملّياً، تحتوي لائحة[16] الأراضي المهدّدة بالخصخصة المطروحة ضمن الملاحظات، وعددها يقارب الثلاثين ألفاً، فقط على ما يمكن أن يصبح ملك الدولة الخاص ضمن المناطق الممسوحة حصراً، إذا مرّ القانون. تتضمّن المناطق غير الممسوحة أيضاً أراضي أميرية لا ترد في هذه اللائحة لكن يطالها التعديل.

في دراسة أخرى[17]، تم عرض الأراضي الأميرية كحلّ بديل للسكن والحراثة لمن لا يملك المقدّرات لشراء الأراضي الخاصة، وخاصّة الفلسطينيين كون حق التصرّف مجانيًا، “يجري من دون دفع أي بدل للدولة”، وغير محصور بحاملي الجنسية اللبنانية عكس حق الملكية. كما تم وصف الأراضي الأميرية كضمانة لاستمرار الزراعة في لبنان بحكم القانون حيث يبقى حق التصّرف مربوطاً باستعمال الأرض المستدام، ممّا يبقيها خارج سوق المضاربات ويحافظ على وظيفتها الاجتماعية.

ترد مغالطات عديدة في هذا التحليل، منها ناتج عن عدم فهم القوانين بذاتها، وأخرى عن عدم إدراك واقع الأمور بمعزل عمّا هو مكتوب بالنص. إنّ حق التصرّف يكتسب بالتقادم. لكن لا يسري هذا الحق على العقارات المسجّلة من أيّ نوع كانت ولا على عقارات الدولة. بالتالي، لائحة الثلاثين ألف عقار أميري أيضاً تبقى هنا خارج المعادلة. كما إنّه لم يتم استرجاع أي حق تصرف على الأراضي الأميرية غير المستعملة أو المستخدمة لأغراض غير الزراعة كما ذكرنا. حقوق التصرّف على الأراضي المسجّلة، يتمّ تبادلها اليوم بين الأفراد تبعاً لأسعار السوق العقاري، مثلما يتم تبادل الأرض الملك. بالإضافة إلى ذلك، لقد تم حرمان الفلسطينيين من كل الحقوق العينية على الأرض عام 2001، من ضمنها حق التصرف وليس فقط الملكية (مرسوم 269/2001)[18]. أمّا الوظيفة الاجتماعية فهي غائبة عن كل أنواع الأراضي في لبنان في جميع الأحوال ولا يصحّ استخدامها لتبرير استحواذ فئة ما على أراضي الدولة من دون بدلات بجميع الأحوال.

خلاصات

تُظهر المحاولات المتكرّرة الفاشلة لتعديل القانون عجزاً لدى السلطة إنّما أيضاً حرصًا على عدم إحداث أيّ خلخلة في توازن المصالح الدقيق الموجود، رغم أنّ التعديل يمكن أن يجعل النص من حيث شكله مطابقاً أكثر للواقع. لكن في جميع الأحوال، ما لم يكن ممكناً تعديله بالقانون تم تطبيقه بالممارسة. عملّياً، تجعل ممارسات المسّاحين واجتهادات القضاء حاصلاً ما عجز الاقتراح المتكرّر لتعديل القانون عن فعله.

أنتج طرس القوانين والممارسات والتفسيرات تراكيبَ ملكيات وأنواعا مختلفة للأراضي العامّة والخاصّة، ك”الميري العام” و”الميري الخاص”، كما أسميتها في هذا النص. وسّعت هذه الاجتهادات في تحوير وتفسير النص وتناقضاته المجال للخصخصة بطرق متعدّدة، قصداً أو عن غير قصد. اليوم، لا تزال رقبة الدولة في الأراضي “الأميرية الخاصة” محفوظة على الورق رغم تنازلها عنها مراراً، حتى عند الاستملاك، بحيث يتمّ تخمين التعويض بالتساوي بين الميري والملك. إن هذه التركيبات تجسد الانفصال الحاصل والمتزايد بين استخدام الأرض ونوعها القانوني والحقوق عليها. كان قد قدّم قانون الأراضي لعام 1858 مئات المواد لتنظيم هذه الحقوق، أما قانون عام 1930 فقد تجاهل هذه المواد وركّز على تسجيل الحقوق وجعلها ثابتة وأكيدة وبالتالي سهلة التبادل. من هنا، إنّه لربّما من البديهي أن يصبح حق التصرّف أقل وضوحاً ويخسر أبعاده مع تحوير معنى “الميري”.

يهدف عرض وتحليل هذه المسارات إلى التعمّق في تحليل أسباب تراجع قدرة المؤسسات المعنيّة على حماية الأراضي العامّة، أبعد من نعوت الفساد أو ضعف الدولة. عرضنا المشاكل الناتجة عن صياغة نص القانون وتعديلاته وتفسيراته والممارسات الإدارية التي قد تنتج عن قلّة معرفة أو استهتار. لذلك، إنّ معرفة تاريخ الأراضي العامّة والقوانين المرتبطة بها ضرورة ليس فقط للمساحين والقضاة، إنّما أيضاً لكل من يريد الدفاع عنها بوجه الخصخصة.

للاطّلاع على اقتراح القانون المقدّم من النائبين غازي زعيتر وحسين الحاج حسن


[1] هذا المقال هو واحد من سلسلة بعدّة أجزاء، تحمل عنوان “بحثاً عن العام”، في محاولة لفهم التطور التاريخي، القانوني، الاجتماعي والسياسي للمجال العام في لبنان. إنّ التحاليل والنتائج الواردة في هذه السلسلة مبنية على بحث لأطروحة الدكتوراه التي أعدّها منذ 2020 في معهد باريس للعلوم السياسية Sciences Po.

[2] كان قد صدر عام 1953 قانوناً أردنيّاً يسمح بطلب تحويل الأراضي الأميرية إلى ملك ضمن الحدود البلدية ولم يكن الأوّل، كما كانت تطبّق أحكامه في الضفة الغربية. عام 2019، صدر قانون رقم 13 في الأردن ليحوّل الأراضي الأميرية إلى ملك وبالتالي حقوق التصرّف إلى حقوق ملكيّة، مع العلم أنّ 80% من أراضي الأردن تبقى ملكاً للدولة. اضطر المشرّع الأردني أن يوضّح في هذا القانون أنّ التحويل لا يعني توسيع نطاق البلديات تلقائياً، لتفادي التفسيرات الممكنة الناتجة عن ربط نوع الملكية بالحدود البلدية في القوانين السابقة.

[3] محكمة التمييز المدنية (الغرفة الثانية)، رقم 36 تاريخ 19/10/1961

[4] إن التقرير يذكر قانون رقمه 1207 صادر في 10 آذار 1922، لكن في محاولة لمراجعة هذا القانون والتأكّد ممّا يمكن أن يتضمّنه بشأن أنواع الملكية، تبيّن أنّ هناك قانون رقمه 1307 وليس 1207 صادر في هذا التاريخ، وهو قانون الانتخابات النيابية الذي وضعه الفرنسيون على أساس التمثيل الطائفي للدوائر كما تمّ تحديدها ضمن النص وبالتالي لا صلة له بالموضوع. كان قد صدر قانون للبلديات بعده بيومين تحت رقم 1208، وقد استنتجنا ـأنّه النص المتوخّى من الإشارة.

[5] محكمة التمييز المدنية (الغرفة الثانية)، رقم 36 تاريخ 19/10/1961

[6] محكمة الدرجة الأولى – النبطية رقم 46 تاريخ 11/03/2008

[7] المحكمة الابتدائية المدنية – بعبدا رقم 13 تاريخ 01/02/1995

[8] محكمة التمييز المدنية رقم 4 تاريخ 20/11/1980

[9] المادة 2 من قانون 275 :” تشتمل على الخصوص الأملاك الخصوصية العائدة للدولة على ما يأتي: الأراضي الأميرية (التي تكون رقبة الملك فيها عائدة للدولة، الأراضي المتروكة التي تدعى مرفقة (الأراضي الموضوعة تحت تصرف جماعات)، العقارات المسجلة حتى هذا النهار في سجلات المحلولات (الأملاك الشاغرة وبدون صاحب أو التي لا وارث لها، الأملاك المقيدة باسم الخزينة في سجلات الإدارات العمومية، الأملاك المدورة (الأملاك المحجوزة من قبل الخزينة)، الأملاك المقيدة في سجلات دائرة أملاك الدولة،  العقارات التي ثبت أنها للدولة بعد إجراء عمليات التعريف والتحديد المعينة معاملاتها أدناه، الأملاك التي تشتريها الدولة ولا تكون داخلة في الأملاك العمومية،  القطع المتروكة من الأملاك العمومية،  العقارات المتأتية من تركات شاغرة ومن تركات لا وريث لها والأملاك المتأتية عن إهمال زراعتها والتي يتحقق قانونيا شغورها أو عدم وجود وريث لها،  الأراضي الخالية والأحراج والغابات والجبال غير المزروعة وبالجملة جميع الأملاك غير المنقولة التي تشملها في قانون الأراضي لفظة “الأراضي الموات” بشرط الاحتفاظ بالحقوق العينية او حقوق الاستعمال التي اكتسبها الأفراد وفقا للشرائع والقوانين النافذة.”

[10] عيد، أ. وعيد، ك.  الحقوق العينية العقارية الأصلية. صادر.

[11] مقابلة مع المدير العام السابق المعني

[12] مقابلة مع أحد المحامين العقاريين الذين تابعوا القضية ضمن اللجنة

[13] المفكرة القانونية، المرصد البرلمانيـ، وأستوديو أشغال عامة. ملاحظات على اقتراح قانون بإلغاء نظام الأراضي الأميرية: من يدافع عن حقوق الدولة. 5 تشرين الأول 2021.

[14] Mundy, M., & Smith, R. S. (2007). Governing property, making the modern state: Law, administration and production in Ottoman Syria. I. B. Tauris.

[15] المفكرة القانونية، المرصد البرلمانيـ وأستوديو أشغال عامة. ملاحظات على اقتراح قانون بإلغاء نظام الأراضي الأميرية: من يدافع عن حقوق الدولة. 5 تشرين الأول 2021.

[16] ومصدرها وزارة المالية حسب دراسة أخرى تحت عنوان “ويني أراضي الدولة”، كون المقال المشار إليه أنفاً والذي يناقش مشروع القانون لا يتضمّن مرجعاً لهذه المعلومات.

[17] أشغال عامة، (2022). ويني أراضي الدولة. دليل بحثي في مواجهة خطر الخصخصة. بيروت.

[18] Wehbe, R. (2020, December 4). Être propriétaire et palestinien au Liban: Entre un conflit politique qui perdure et les enjeux d’un marché immobilier excluant. « Les villes dans le monde arabe », journée d’étude, CAREP.