تشريع ضرورة المصالح السياسية
14/12/2023
بعد طول انتظار دعا رئيس مجلس النواب إلى جلسة تشريعية في 14 كانون الأول 2023 لمناقشة جدول أعمال يتألف من 16 بندا لا يتضمن اقتراح ما بات يعرف بالتمديد لقائد الجيش الحالي علما أن ذلك لا يحول دون طرح رئيس المجلس هذا الموضوع من خارج جدول الأعمال بصيغة اقتراح قانون معجل مكرر.
وقد تجدّد عقب هذه الدعوة الجدال ذاته بين مختلف أركان السلطة الحاكمة حول جواز ممارسة مجلس النواب صلاحياته التشريعية في ظلّ الشغور في رئاسة الجمهورية. لكن اللافت هذه المرة كان موقف كتلة "الجمهورية القوية" التي أعلنتْ مشاركتها لأن منع الفراغ في قيادة الجيش هو من الأمور الملحة التي لا تحتمل التأجيل. لا بل أن رئيس الكتلة النائب جورج عدوان غرّد كاتبا بتاريخ 1 كانون الأول المنصرم التالي: "طالبنا بتأخير التسريح لرتبة عماد من منطلق وطني سيادي لتمكين المؤسسة العسكرية وقيادتها الاستمرار بفاعلية بتأدية دورها الوطني في هذا الظرف الدقيق إقليميا ووطنيا، واعتبرنا أن هذا الأمر مرتبط بالمصلحة الوطنية العليا raison d’état وبالأمن القومي".
وقد جاء هذا الموقف المستجدّ بعد سنوات من تذرّع القوات اللبنانية، وغيرها من القوى السياسية، بأن التشريع في ظل شغور رئاسة الجمهورية يشكل مخالفة للدستور كون مجلس النواب يتحوّل إلى هيئة ناخبة تنحصر صلاحيّاتها بانتخاب الرئيس فقط. وكانت كتلة "الجمهورية القوية" قد قاطعت الجلسة التشريعية التي عقدت في 18 نيسان من العام الحالي للتمديد للمجالس البلدية والاختيارية، كما قاطعت أيضا الجلسة التشريعية التي عقدت في 19 حزيران والتي أقرت فتح اعتمادات من أجل تأمين رواتب الموظفين في القطاع العام بذريعة مخالفة تلك الجلسات للدستور.
ولا شك أن التحول المبهر في مواقف القوى السياسية المسيطرة على مجلس النواب يعكس حقيقة النظام السياسي الحاكم في لبنان الذي يجد في الدستور الحجة المثالية من أجل إخفاء مصالحه السلطوية التي يتم تغليفها بغطاء قانوني نبيل كالدفاع عن المؤسسات والدولة واحترام المنطق الدستوري السليم.
وخير دليل على ذلك هو أنّ الخطاب الدستوري المهيمن على الفضاء العامّ تسيطر عليه بشكل كبير القوى السياسية الحاكمة التي تنتج حججها الدستورية وفقا لمصالحها السياسية ومن أجل مقارعة الخصوم الذين يتولون بدورهم إنتاج حجج دستورية مضادة ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تناقل وسائل الإعلام لهذا الخطاب إذ تكتفي بتكرار خطاب السلطة فتتحول كل المبادئ الدستورية إلى مجرّد آراء ويحل الشك مكان اليقين، الأمر الذي يسمح بتبرير كل المواقف.
وهذا تحديدا هو جوهر النظام السياسي الحاكم في لبنان الذي لا يعترف بالمؤسسات ولا يقبل بها إلا في حال كان ذلك يتوافق مع مصالحه. ولعل أبرز مثال على ذلك قرار المجلس الدستوري رقم 6 تاريخ 30 أيار 2023 والمتعلق بالطعن بقانون التمديد للمجالس البلدية والاختيارية الذي وافق في تحليله على ما ذهبت إليه المفكرة القانونية التي اعتبرت في مقال مطول أن مجلس النواب يظل محتفظا بصلاحياته التشريعية في ظل الشغور في رئاسة الجمهورية. فقد أعلن القرار أن تحول مجلس النواب إلى هيئة ناخبة عملا بالمادة 75 من الدستور يقتصر على الجلسة فقط المخصصة لانتخاب الرئيس ولا ينسحب إلى كل الجلسات التي قد يعقدها المجلس: "وحيث إن الغاية من المادة 75 هي إعطاء الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية وحث المجلس على الإسراع في هذا الانتخاب ومنعه من القيام بأي عمل آخر أو مناقشة في الجلسة المخصصة للانتخاب، أما الشؤون العامة الأخرى الداخلة في اختصاص مجلس النواب، فيمكن عرضها في جلسات أخرى لطرحها ومناقشتها واخذ القرارات بشأنها".
وعلى الرغم من أن المجلس الدستوري قد حسم هذه المسألة وأن قراراته هي ملزمة لسائر السلطات في الدولة، تستمر القوى السياسية بتكرار مقولة عدم جواز التشريع قبل انتخاب رئيس الجمهورية وإطلاق المواقف حول هذا الموضوع من أجل الاستهلاك السياسي أو المزايدة التي تأخذ أحيانا طابعا طائفيا لإحراج الخصم.
ولا شك أن تذرع القوات اللبنانية بوجود مصلحة وطنية عليا تبرر مشاركتها في "تشريع الضرورة" هو رأي سياسي بامتياز، إذ أن "الضرورة" مفهوم مبهم يتم تأويله بشكل اعتباطي ويمكن التذرع بها في أي وقت لتبرير أي موقف. فقد أعلن تكتل "لبنان القوي" مشاركته في جلسة التمديد للمجالس البلدية والاختيارية أيضا بحجة مصلحة البلاد العليا وضرورة تفادي الفراغ في البلديات، كذلك أيضا جرى تبرير المشاركة في جلسة إقرار اعتمادات إضافية بضرورة تأمين استمرارية المرافق العامة. فإذا كانت ضرورة منع "الفراغ" في قيادة الجيش هي على هذا القدر من الأهمية فإن الحل يكون بتعيين حكومة تصريف الأعمال لقائد جديد للجيش. فكما أن الضرورة تبرر مخالفة الدستور لعقد جلسة تشريعية في ظل الفراغ الرئاسي فمن الأولى اعتبار أن هذه الضرورة تسمح لصاحب الاختصاص الدستوري الفعلي أي الحكومة من ممارسة صلاحياتها لتعيين قائد جديد حتى لو كانت مستقيلة بينما الذهاب إلى مجلس النواب لتحقيق هذه الغاية يعني حلول السلطة التشريعية عمليا مكان السلطة التنفيذية وهو مخالفة ثانية للدستور تضاف إلى المخالفة الأولى بمنع التشريع وفقا لهذا المنطق.
وإذا كان من المفهوم أن يستمر الجدل بين الفقهاء الذين عادة ما يناقشون قرارات المجلس الدستوري ويبدون اعتراضهم عليها، لكن المنطق الدستوري السليم يفرض التزام المؤسسات بالقرارات التي تصدر عن السلطات الدستورية والقضائية واحترام أحكامها. بينما في لبنان تقوم القوى السياسية على اختلافها بتوجيه تهمة التسييس إلى كل الأحكام القضائية التي تخالف مصالحها. فمن فريق يعتبر أن التحقيق في انفجار المرفأ هو مسيّس إلى من يعتبر أن قرارات الهيئات الرقابية هي مسيسة إلى أخيرا من يقول بأن المجلس الدستوري في قراره حول جواز التشريع هو مسيس أيضا، يتشارك الجميع في تدمير مؤسسات الدولة واستبدال الحقيقة القانونية بالشك الذي يعتبر الوسيلة الأنجع لشرذمة الرأي العام والهيمنة عليه.
والحقيقة أن "تشريع الضرورة" هو مفهوم لا سند دستوري له، والإشارة الوحيدة التي تمكننا من إيجادها عن شيء يشبه هكذا مفهوم يتعلق بعدم جواز التشريع في ظل وجود حكومة مستقيلة وليس في ظل الشغور الرئاسي. إذ يعتبر العلامة "أوجين بيار" ان الحكومة تمتنع عن تقديم مشاريع القوانين عندما تكون مستقيلة باستثناء القوانين الطارئة التي تفرضها الضرورة[1]. وهذا الموقف يتعلق بمشاريع القوانين التي تتقدم بها الحكومة المستقيلة ولا يتعلق باقتراحات القوانين التي يتقدم بها النواب.
ولا شكّ أن المجلس الدستوري يتحمل جزءا من المسؤولية في استمرار الجدل حول هذه المسألة كونه أورد في القرار نفسه الذي أعلن جواز التشريع عند خلو سدة الرئاسة فقرة تعكس تسوية سياسية مفادها وجوب "عدم استسهال التشريع في مرحلة الشغور" نظرا لأهمية موقع رئاسة الجمهورية في الدولة. ومن الواضح أن هذه الفقرة التي تعبّر عن تمنيات لا مكان لها في قرار قضائي ملزم كانت محاولة لإيجاد تسوية بين من يريد تكريس مفهوم "الميثاقية" في قرار المجلس الدستوري، ومن يريد عدم ذكر هذا المفهوم السياسي المبهم في قرار المجلس فجاءت التسوية عبارة عن نص غير ملزم، لكن تداعياته السلبية تظهر اليوم بشكل واضح.
خلاصة القول، لكل جهة سياسية "ضروراتها" التي تستدعيها حينما تشاء لتبرر إما مخالفتها للدستور أو تراجعها عن موقف "دستوري" تعنتت في الدفاع عنه خدمة لمصالحها السياسية، فها هي اليوم تجد نفسها مضطرة للترجّل عن صهوة جوادها الدستوري كي تعلن كما سائر القوى الحاكمة في لبنان إن مصلحتها الذاتية العليا هي المعيار الوحيد لتحديد مصلحة الدولة العليا.
[1] « C’est pourquoi il est de tradition qu’après la démission d’un Cabinet aucun projet de loi ne soit déposé sur le bureau des Chambres (…) Les ministres démissionnaires sont chargés de l’expédition des affaires courantes et l’on ne saurait contester que dans cette catégorie rentre une loi urgente sur laquelle il est indispensable que les Chambres se prononcent avant la formation du nouveau Cabinet » (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, 1919, p.43)