تقاسم العاصمة تحت غطاء اللامركزية (2): 12 مجلساً ل 12 حياً
07/01/2023
برز في الآونة الأخيرة اهتمام متزايد لنواب كتلة لبنان القوي بخصوص بلدية بيروت على مشارف الاستحقاق البلدي الانتخابي الذي من الواجب أن يتم في أيّار 2023 بعد تأجيله سنة كاملة. وقد قدّموا اقتراحيْ قانون في هذا الصدد. نشرْنا أمس تعليقنا على الاقتراح الأول الذي رمى إلى تقسيم بلدية بيروت إلى بلديتين (بيروتين). وننشر هنا تعليقنا على الاقتراح الثاني الذي قدمه النائب هاكوب ترزيان بإنشاء 12 مجلسا ل 12 حيا في بيروت. ويختلف هذا الاقتراح عن الاقتراح السابق لجهة أنه يسمح بمزيد من التحاصص والتقاسم وتاليا من العروش (المحرر).
تقدم النائب هاكوب ترزيان من تكتل لبنان القوي بتاريخ 15 تشرين الثاني 2022 باقتراح قانون يرمي إلى تعديل أحكام نظام انتخاب مجلس بلدية بيروت وإنشاء مجالس منتخبة في أحياء بيروت إلى جانب المجلس البلدي المركزي للمدينة. ولا بد أولا من تسجيل مفارقة قيام نواب من تكتل لبنان القوي الذي ينتمي إليه النائب ترزيان بتقديم اقتراح آخر يتعلق أيضا بتقسيم صراحة بلدية بيروت إلى بلديتين أولى وثانية بينما يتوخى الاقتراح الحالي الوصول إلى النتيجة ذاتها لكن عبر اتباع وسيلة مغايرة[1].
ويتضمن الاقتراح إنشاء مجالس محليّة لكلّ من أحياء بيروت الإثني عشر وهي: الأشرفية والرميل والصيفي والباشورة والمدور والمرفأ ورأس بيروت وميناء الحصن ودار المريسة والمزرعة والمصيطبة وزقاق البلاط، على أن يتكوّن المجلس المركزي لبلدية بيروت من عضوين من كل حيّ من أحياء بيروت ما يشكل مجموع أعضاء المجلس المركزي أي 24 عضواً. ولا بد هنا من التذكير أن هذا التقسيم الجغرافي لبيروت منصوص عليه في الجدول الملحق بالمرسوم الاشتراعي رقم 11 تاريخ 29/12/1954 حول التنظيم الإداري والذي لا يزال نافذا عملا بالمادة 57 من المرسوم الاشتراعي رقم 116 تاريخ 12/6/1959 الذي ألغى المرسوم الاشتراعي رقم 11 لكنه أبقى على الجدول المذكور.
وقد شرحت الأسباب الموجبة غاية هذا الاقتراح إذ اعتبرت النظام الانتخابي المعمول به حاليا "يفتقر إلى تمثيل كافة الأحياء وحسن التواصل المباشر بين كافة القاطنين والناخبين في بيروت مع أعضاء البلدية مع الأخذ بعين الاعتبار أن أبناء الحي يعرفون حاجات الحي بشكل أفضل، نظرا لكبر حجم المدينة وتعدد سكانها". وتضيف الأسباب الموجبة أن كمية الأعمال الهائلة التي تتولاها بلدية بيروت تحتم استحداث هذه المجالس المحلية في الأحياء المذكورة بغية مساعدة المجلس البلدي في القيام بمهامه بالسرعة المطلوبة.
هذا الاقتراح يستدعي الملاحظات الآتية:
المركزية المشددة تحت غطاء اللامركزية
ما نلحظه هو أن المادة الأولى من الاقتراح التي تنص على تشكيل المجلس المركزي تفتقر إلى التفاصيل الكافية لتوضيح آلية اختيار العضوين من كلّ حيّ. وبالرجوع إلى الأسباب الموجبة للاقتراح، يتبيّن أن مقدّمه ينوي اختيار العضوين المذكورين على أساس نيل كلّ منهما أكثر عدد من الأصوات في المجالس المحليّة. لذلك كان من الصواب وضع هذا التوضيح المهم في المادة الأولى المذكورة كي يكتسب قوته الإلزامية وليس فقط في الأسباب الموجبة التي تقتصر قيمتها على تفسير نص موجود وليس على تعويض نص غير موجود، ما يعني أن هذا الاقتراح يفشل في إيجاد نظام قانوني متكامل يضمن فعالية الانتخابات البلدية ونزاهتها كونه عبر الغموض الذي يعتري نصه، يسمح للسلطة التنفيذية بتحديد دقائق تنفيذ القانون بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية. هذا يعني أن الاقتراح يترك للسلطة التنفيذية ليس فقط حرية تحديد كيفية تأليف المجلس المركزي، بل أيضا تعديل ذلك عندما تشاء، إذ لا شيء يفرض عليها القبول بتأليف المجلس البلدي المركزي من العضوين في كل مجلس من المجالس المحلية اللذين نالا أكثر عدد من الأصوات، بل يمكنها اعتبار أن المجالس المحلية تنتخب من يمثلها في المجلس المركزي أو حتى أكثر من ذلك يمكن لمجلس الوزراء أن يقرر أنه يقوم بتعيين أعضاء المجلس المركزي عبر اختيارهم من بين أعضاء المجالس المحلية.
وهكذا يتبن لنا أن هذا الاقتراح بعدم وضوحه يفتح المجال للحد من مبدأ اللامركزية عبر جعل تأليف المجلس البلدي المركزي لمدينة بيروت رهينة قرار السلطة المركزية ممثلة بمجلس الوزراء. وبالمقارنة، فإن قانون الانتخابات الفرنسي ينص على أن أعضاء المجلس البلدي المركزي في بلديات باريس ومرسيليا وليون يحصلون على مقاعدهم في هذا المجلس بنيلهم أكبر عدد أصوات من بين المرشحين الآخرين على لوائحهم[2].
تقسيم الهيئة الناخبة لمجلس بيروت على أساس طائفي
من جهة أخرى، يتبيّن من قراءة الاقتراح أنّه من جهة يهدف إلى إيصال صوت أهالي بيروت بطريقة أكثر فعالية، من خلال إنشاء تمثيل محلّي أقرب إلى سكّان الأحياء وخلق توازن بين هذه الأحياء في المجلس المركزي الذي يحافظ على صلاحياته كما هي عليه حاليًّا في القانون. لكن الاقتراح من جهة ثانية يؤدي عمليا إلى إلغاء وجود هيئة ناخبة واحدة تتولى اختيار كافة أعضاء بلدية مدينة بيروت إذ يعمد إلى تقسيمها على الأحياء المذكورة والتي تغلب عليها بشكل واضح صبغة طائفية معينة لا سيما أحياء الرميل والصيفي والمدور والأشرفية والمرفأ بينما تعتبر أحياء المزرعة والباشورة والمصيطبة وزقاق البلاط ورأس بيروت أكثر اختلاطا رغم غالبيتها المسلمة.
تقسيم غير مبرر من الناحية الإنمائية والإدارية في ظل تداخل الأزمات والحلول
غير أنّ هذا التقسيم بحسب الأحياء قد لا يكون نافعاً من الناحية الإنمائية والإدارية. إذ إن التداخل الكبير بين الأحياء وتقاسمها للبنية التحتية وللموارد يجعل من تقسيمها الجغرافي مجرّد إرث تاريخي لا يشكّل في الوضع الراهن مرتكزاً صالحاً لتكوين إدارات محليّة في العاصمة. فإذا أخذنا مثلاً أحياء الأشرفية والرميل والصيفي والمدور، لا نرى على أرض الواقع أي تقسيم جغرافي أو من أيّ نوع كان فيما بينها إذ كلّها متداخلة وتتشارك نفس المشاكل والأزمات وهي بحاجة إلى نفس الحلول.
مجالس أحياء من دون صلاحيات تقريرية
يبقى أن الاقتراح لا يعطي المجالس المحلية إلّا الصفة الاستشارية. إذ يستشفّ من نص المادة 5 التي تحدد صلاحيات هذه المجالس أن نتائج استشارات وآراء المجالس المحليّة غير ملزمة للمجلس المركزي. فبحسب البند الأول من المادة الخامسة، فإن المجلس المحلي يعطي آراء استشارية في المشاريع الواقعة ضمن نطاقه، من دون أن يذكر صراحة ما هي الجهة التي يتوجب عليها طلب رأي المجالس المحلية لكن يمكن استنتاجها في البند الثاني من المادة الخامسة الذي ينص على أنّ المجالس المحلية يتوجب استشارتها في كل مشروع ينوي المجلس البلدي المركزي تنفيذه ضمن النطاق الجغرافي لهذه الأخيرة، ما يعني منطقيا أن المجلس المركزي هو الذي يتوجب عليه طلب الاستشارة. أمّا البند الثالث، فيعطي الحق للمجالس المحليّة بتقديم اقتراحات عفوا دون أن يوضح البند ماهيتها، على أن يناقشها ويبتّ بها المجلس المركزي إلزاميًّا في أوّل جلسة له تلي تاريخ تسجيل الاقتراحات.
ولا شك أن المادة الخامسة تتسم بعدم الوضوح إذ تغيب عنها المهل التي يتوجب خلالها على المجالس المحلية إبداء رأيها في الاستشارات التي تردها من المجلس المركزي، كما لا تحدد ما هي النتائج القانونية المترتبة في حال امتنعت المجالس المحلية عن إبداء رأيها ضمن مهل معقولة ما من شأنه شل حركة المجلس المركزي الذي يتوجب عليه الانتظار إلى ما لا نهاية.
بالمقارنة مع التجربة الفرنسية في الموضوع، نجد أن القانون الصادر في فرنسا سنة 1982 (.loi dite P.M.L) الذي يرعى المجالس المحليّة في كلّ من باريس ومرسيليا وليون يعطي أيضاً صفة استشارية للمجالس المحليّة ويترك القرار للمجلس المركزي، كما يحصر صلاحية تقرير الموازنة والإيرادات والنفقات بالمجلس المركزي ويعطيها السلطة على الموظفين العموميين. غير أنّ هذا القانون كما التعديل الذي حصل عليه سنة 2002 قد أعطى المجلس المحلي صلاحيات في إدارة الحضانات والمساحات الخضراء ما دون الهكتار والمنشآت الرياضية.
أمّا الاقتراح المقدّم فلم يخصص المجالس المحليّة بأي صلاحيات على أي نطاق ضمن حدود الحيّ الممثل في المجلس المحلي، ما يضعف جدًّا دور هذا المجلس وما قد يؤدّي إلى جعله ملحقاً للمجلس المركزي، يشكّل عمله أمراً روتينيًّا لا قيمة فعليّة له ولا قوّة في تغيير مسار القرارات في المجلس البلدي.
وهكذا يظهر أن الغاية الفعلية من هذا الاقتراح ليس تعزيز اللامركزية بل ايجاد تقسيم معين لمدينة بيروت يسمح بانتخاب أعضاء المجلس المركزي من قبل الطوائف التي تتشكل منها غالبية كل حي من هذه الأحياء التاريخية. فبدل اقتراح تقسيم مدينة بيروت إلى بلديتين بشكل صريح ومباشر يعمد هذا الاقتراح إلى تحقيق النتيجة ذاتها عبر اتباع وسيلة مغايرة بينما الهدف المرجو واقعيا منه هو "تحرير الصوت المسيحي" من الغالبية الإسلامية التي تطغى على مدينة بيروت.
[1] في هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن اقتراح النائب ترزيان مشابه لمشروع القانون الذي تقدمت به اللجنة الخاصة باللامركزية الإدارية الصادر سنة 2014. وقد نصّ هذا المشروع على انتخاب 6 أعضاء من قبل أبناء وسكان الأحياء ال12 في بيروت، على أن يكوّن المنتخبون هؤلاء جميعهم الهيئة العامة لمجلس مدينة بيروت التي ينبثق عنها مجلس إدارة يتألف من العضو الذي نال العدد الأكبر من الأصوات من بين المنتخبين المسجلين في دوائر النفوس من كلّ حي من أحياء بيروت.
[2] مراجعة المواد L. 262 (السارية المفعول منذ تاريخ 13 آذار 1983) وL272-5 (السارية المفعول منذ تاريخ الأول من كانون الثاني 1983) من قانون الإنتخابات الفرنسي.