توجّه لتجميد العمل بالطوابع المالية: الدّولة تستسلم مجددا أمام شبكات الاحتكار

إيلي الفرزلي

27/05/2024

انشر المقال

بعد 5 سنوات من الإذلال اليومي الذي يتعرّض له المواطنون للحصول على طوابع مالية لإنجاز معاملاتهم، لم يجد أي من المعنيين حلّاً سوى تجميد العمل بالطوابع الورقية تماماً. وهذا الحل إنما يُعلن ببساطة أن الحكومة غير قادرة على وقف عمليات احتكار الطوابع، وغير قادرة على تنفيذ أي خيار بديل لهذه الطوابع الورقيّة. وهنا، لا يمكن إعفاء وزارة المالية من تهمة التواطؤ مع المحتكرين، أو حتى تعبيد الطريق أمامهم لتحقيق أرباح طائلة على حساب الخزينة العامة. يكفي أنها تمتنع عن البدء بإجراءات استبدال الطابع الورقي بآخر إلكتروني، بالرغم من مرور سنتين على إقرار قانون موازنة 2022 الذي تضمن بنداً يفرض على الوزارة التحضير لإطلاق مناقصة خاصة بالطوابع الإلكترونية. وحتى مع مثول ممثليها أمام ديوان المحاسبة أولاً، وأمام لجنة والمال الموازنة ثانياً، فإن أحداً لم يُقدّم مبرّراً مقنعاً لهذا التلكؤ. علماً أن الديوان، في التقرير الذي أصدره 24/4/2024 وتناول فيه أزمة الطوابع بشكل مفصّل، كان واضحاً في الإشارة إلى تواطؤ موظفين في المالية مع الحاصلين على ترخيص توزيع الطوابع، الذين لا يتردّدون في بيع الطوابع في السوق السوداء وبأسعار تزيد بمائتي ضعف عن السعر الفعلي أحياناً، من دون أيّ إجراءات جدية من وزارة المالية للجم هذه الظاهرة. 

ديوان المحاسبة وبنتيجة الاستقصاءات التي بدأتها الغرفة المعنية برئاسة القاضية نيللي أبي يونس وعضوية المستشارتين رانيا اللقيس ونجوى خوري، في 11/4/2023، كان أنهى تقريره بعدد من التوصيات، أبرزها: 

  • وقف العمل بالرخص المخالفة حالاً.
  • ملاحقة المرخّصين الذين خالفوا القانون جزائياً.
  • إحالة الموظّفين المخالفين على القضاء وتوقيفهم عن العمل.
  • الاستيفاء النقدي لما يتجاوز 500 ألف ليرة من الطوابع.
  • الإعلان عن مناقصة لتلزيم الطابع الإلكتروني.
  • عدم تصديق أيّ مناقصة لطباعة الطوابع الورقيّة.

هذه التوصيات التي يؤكد الديوان أنها ملزمة وأن الوزارة ستُلاحق في حال عدم تنفيذها، يكررها رئيس الديوان محمد بدران مع تأكيده لـ"المفكرة القانونية" على التوصية الأخيرة، جازماً أن الديوان لن يوافق على أيّ مناقصة لطباعة الطوابع الورقية قد ترده بعد الآن. ويأتي هذا الموقف رداً على اقتراحات نوقشت في الاجتماع الأخير للجنة المال والموازنة (23/5/2024)، واعتبرت أن الحلّ يكمن في إغراق السوق بالطوابع لمواجهة الاحتكار. في الجلسة، تعددت الآراء وتراوحت بين الدعوة إلى إغراق السوق والدعوة إلى وقف العمل بالطوابع إلى حين إنجاز مناقصة الطابع الالكتروني. وفي حين رُفض اقتراح إغراق السوق حيث تبين أنه يمكن أن يُفاقم المشكلة انطلاقاً من أنه مهما كان عدد هذه الطوابع، وحتى لو فاق الطلب المُقدّر ب5 مليون طابع شهرياً، فسيتمّ احتكارها ثم بيعها في السوق السوداء. ولذلك، تبنّى أغلب النواب مسألة وقف العمل بالطوابع الورقية، مع التذكير بأن هذه الطوابع تتعلق بالرسوم التي تقل عن 500 ألف ليرة فقط، أضف إلى أن عائداتها محدودة ولا تتجاوز 1.8 مليون دولار شهرياً. كما أكد بدران لـ"المفكرة" تأييده لهذا الاقتراح، بالرغم من أنه لم يكن من بين توصيات الديوان. 

1.8 مليون دولار للخزينة و300 مليون دولار للمحتكرين 

وبالنتيجة، أعلن رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان أنّ أول الخيارات المطروحة هو تقديم اقتراح قانون معجّل لتعليق التعامل بالطابع المالي لحين إيجاد حلّ جذري". وبرّر كنعان هذه الخطوة بأنها "مش حرزانة اللبكة إذا كانت إيراداته مليون و800 ألف دولار فقط في السنة، وعمرن ما يعملو 300 مليون دولار في السوق السوداء من ورائه". 

وهذه الأرقام كانت وردت في تقرير الديوان الذي أظهر أن دخل الخزينة في العام 2023، كان 1.8 مليون دولار، في مقابل 20 إلى 300 مليون دولار في السوق السوداء "للمحتكرين والحرامية"، كما قال كنعان، الذي اعتبر أنه "أمام هذا الواقع، هناك إذلال للناس وانتهاك لكراماتها، إذ بات المواطن يستجدي الطابع من أناس يبيعونه في الطرقات بعشرة إلى عشرين ضعف سعره. والطابع الذي سعره 2000 ليرة يباع ب300 و400 ألف ليرة، وعلى عينك يا تاجر. وسأل: أين الأجهزة الأمنية؟ 

في المقابل، تحفّظ عدد من النواب على فكرة حرمان الخزينة من عائدات الطابع المالي، فاعتبر النائب أمين شرّي في حديثه لـ"المفكرة" أن العائدات قد ترتفع إلى 14 مليون دولار بعد التعديلات التي وردت في موازنة العام 2024، وبالتالي الأولى هو الاستمرار بنظام الطوابع على أن يتم في الفترة الانتقالية الموافقة على تسديد الطابع المالي نقداً كما يحصل حالياً في "العقارية" و"النافعة".

توقّع ازدياد العائدات بعد تعديل قيمة الطوابع في موازنة 2024 أكدته وزارة المالية أيضاً خلال الجلسة. ولذلك طلبت اللجنة منها تزويدها، خلال مهلة أسبوع، بالإيرادات المحققة حتى الآن من رسم الطابع المالي والتوقعات للأشهر المتبقية من السنة، بحسب ما دخل الى الخزينة، للبناء عليها".
 

ما الغاية من الطوابع؟

من جهته، بعد توقفه عند عدم مناقشة اللجنة لمسألة الفساد، أبلغ النائب ابراهيم منينة "المفكرة" أن المسألة تدور في حلقة مفرغة، بخاصّة أن النقاش نفسه الذي شهدته لجنة المال سبق أن حصل أثناء مناقشة الموازنة، من دون أي نتيجة. ويذهب منيمنة إلى الأصل، سائلاً عن الهدف من وجود الطوابع أساساً، ولماذا لا نزال مستمرين باعتماد هذا النظام الذي يعود إلى الحقبة العثمانية، مشيراً إلى أن المردود منه ليس ضخماً ويمكن تعويضه من خلال ضرائب أو رسوم تجبى من أماكن أخرى. 

تجدر الإشارة إلى أن لجنة الدفاع الوطني النيابية كانت أول من أثار الموضوع (19/12/2022) طالبة من وزارة المالية موافاتها بكل ما يتعلق بالمشكلة وطالبة توقيف العمل بالوكالات القديمة التي تسمح ببيع الطوابع. كذلك كان وزير العدل أحال إلى النائب العام التمييزي بتاريخ 27/2/2024، الكتاب المُحال إليه من النائب ابراهيم كنعان ويطلب فيه إجراء التعقّبات ضد كل من أقدم على احتكار الطوابع والمتاجرة بها خلافاً للقانون. لكن على ما تؤكد المعلومات، فإن الملف لم يتحرك بالرغم من صدور تقرير ديوان المحاسبة، الذي سُلّم إلى كل من وزير العدل والنيابة العامة التمييزية، التي يفترض أن تلاحق أصحاب التراخيص (لا سلطة للديوان على القطاع الخاص) بالتوازي مع بدء الديوان تحقيقاته القضائية في الملف، تمهيداً لمحاسبة كل من تواطأ وسهّل وساهم في فقدان الطوابع من السوق، وبالتالى تشريع أبواب احتكارها.

 

5 سنوات الإذلال بتغطية من وزارة المالية

كانت الأزمة قد بدأت في بداية العام 2019، حيث جفّت السوق من الطوابع من دون سبب واضح، فلا تظهر إلا لمن يدفع أضعاف ثمنها الأصلي. وقد تبيّن لاحقاً أن العملية هذه كانت منظمة، وبدأت بشراء بعض الأشخاص الحائزين على رخص لبيع الطوابع كميات كبيرة واحتكارها ثم بيعها بأضعاف سعرها في السوق السوداء (يوجد 1345 رخصة، 1002 منها جُمّدت مؤقتاً أو ألغيت في العام 2023، مقابل 343 ما تزال صالحة). وتخفيض العدد هذا بالرغم من أنه قد يُعبّر عن توجّه لتطبيق القانون وتوقيف من لم يعد يملك شروط الترخيص، إلا أن النائب شرّي يعتبر أن هذه الخطوة كانت جزءاً من السعي إلى تعزيز الاحتكار وحصره في يد فئة محدودة من الشركات.   

وخلال هذه الفترة الطويلة لم يكترث أحد لما يواجهه الناس من إذلال أو استغلال لتأمين الطوابع لإنجاز معاملاتهم، بالتوازي مع حرمان الخزينة من جزء كبير من مواردها المتأتية من المعاملات الرسمية. 

تجدر الإشارة هنا إلى المشكلة الفعلية تتعلق برسوم الطابع المالي التي تقلّ قيمتها عن 500 ألف ليرة، إذ أن المبالغ الأكبر يمكن تسديدها بطرق مختلفة مثل: 

  • نقداً أو بموجب شيك مصرفي في صناديق المالية.
  • بموجب أوامر قبض صادرة عن الدوائر المالية في المحافظات أو عن الدوائر العقارية.
  • بموجب إشعارات تسديد يتم اعتمادها من جانب وزارة المالية (اعتمدت ما يسمى النموذج "ص 14"، وهو عبارة عن طلب يملؤه صاحب العلاقة لشراء طوابع حسب الحاجة لكل معاملة). 
  • بواسطة آلات الوسم لدى الأشخاص المرخّص لهم باستخدامها.

وعلى ما ظهر فقد أنجزت الوزارة مسألة الإشعارات التي يمكن شراؤها ودفعها في كل مراكز الدفع المعتمدة لتحصيل الرسوم، لكنها كانت مشروطة بامتلاك العميل رقما ماليا (أوصى الديوان بإلغاء هذا الشرط). كما أنجز العمل بآلات الوسم في عدد من مراكز المحافظات والإدارات لكنها ظلت محدودة بسبب عدم توزيع عدد كاف من هذه الآلات. 

لكن هذه الإجراءات ظلّت عاجزة عن مواجهة الاحتكار الذي تشهده الطوابع الورقية المطلوبة لتسديد قيمة الرسوم التي تقل قيمتها عن 500 ألف ليرة، بحيث يمكن لأي جهة تُدفع فيها الرسوم، بخاصة أن الوزارة لم تحرك ساكناً لبدء العمل بالطابع الإلكتروني. إذ كان يفترض بها، بحسب المادة 46 من موازنة 2022، اعتماد الآليات الضرورية للعمل بهذا الطابع (الترخيص بتركيب آلات خاصة لإصدار الطوابع وتحديد أصول استخدامها وشكل الطوابع ومواصفاتها…). وفي مسعى لإنهاء هذا التلكؤ طلبت اللجنة من الوزارة تزويدها بالتكلفة المتوقعة والفترة الزمنية المطلوبة للانتقال إلى الطابع الالكتروني والانتهاء من الطابع الورقي، خلال مهلة أسبوع.

 

تلكؤ وتواطؤ يُعزّز الاحتكارات

بحسب المناقشات التي جرت في لجنة المال، فإن "المالية" لم تتحرك لوضع دفتر شروط أو لإطلاق مناقصة منذ ذلك الحين، ولو فعلت لحلّت المشكلة، وعادت الأمور إلى الانتظام، بما يضمن حقوق الخزينة المهدورة وبما يضمن التوقف عن إذلال الناس للحصول على الطوابع، وبما يضمن إنهاء حالة الإثراء غير المشروع الناتجة عن احتكار الطوابع. علماً أن هؤلاء معروفون لوزارة المالية، التي تعطيهم ترخيصاً ببيع الطوابع، بعد توقيع تعهّد خطي يلتزمون فيه باحترام القوانين والأنظمة، لاسيما عدم بيعها بمبالغ تزيد عن قيمتها الإسمية المدونة عليها. والمخالفات هذه يفترض أن يتولى الموظفون إثباتها بموجب محاضر ضبط حيث يتمتعون لهذه الجهة بصفة الضابطة العدلية. 

ما حصل كان العكس. المرخصون بدلاً من أن يرتدعوا، اعترضوا على طلب "المالية" منهم عدم تسليم الطوابع لوكلائهم (بناء على توصية من لجنة الدفاع النيابية في 19/12/2022)، والأهم أنهم رفضوا الالتزام بالسعر الرسمي بحجة أن الجعالة المحددة ب 5% غير كافية. كما أعربوا عن عدم قبولهم تحديد كميات الطوابع الموزّعة بشكل متساوٍ بين المرخّصين. هؤلاء الذين لا تزال وزارة المالية تفاوضهم وتزودهم بالطوابع، يطالب شرّي بإدخالهم إلى السجون، والكفّ عن الإيحاء بالبحث عن السارقين، مشيراً إلى أنهم معروفون ويكفي أن يُعرف رقم الطابع ليُعرف بائعه ويحاسب. وقد يشكل استخدام التراخيص على النحو الذي تقدم سببا لملاحقتهم بجرم الإثراء غير المشروع. 

الأغرب أن السلطة لم تكتفِ بعدم محاسبة هؤلاء الذين حققوا أرباحاً طائلة من جراء مخالفة القانون وأصول الترخيص، بل أبدت الحرص على مصالحهم. إذ تشير المادة 47 من قانون موازنة 2022 إلى حفظ حقوق باعة الطوابع الورقية الحاصلين على ترخيص بيع الطوابع عبر حصولهم على نسبة من قيمة الطوابع التي يحصل عليها باعة الطوابع الرقمية لمدة 5 سنوات.