جلسة مجلس النواب لنقاش الهبة الأوروبيّة: تفعيل المؤسسات الدستورية فقط لخدمة السلطة
08/05/2024
استجاب رئيس مجلس النواب نبيه بري لتمني رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي ودعا لجلسة نقاش عام بتاريخ 15 أيار 2024 من أجل التباحث في موضوع الهبة الأوروبيّة المتعلقة بالنازحين السوريين والتي أثارت جدلا محتدما بين أركان السلطة الحاكمة حول أبعاد هذه الهبة والغاية الحقيقية منها.
ولا شكّ أن جلسة 15 أيار المرتقبة هي فريدة، كونها الجلسة الفعلية الأولى التي يعقدها مجلس النواب الحالي والمخصصة حصرا للتباحث في سياسة الحكومة. فمنذ انتخاب مجلس النواب في أيار 2022، لم يعقد هذا الأخير سوى جلسات تشريعيّة من أجل إقرار القوانين التي تتوافق عليها الكتل المهيمنة على البرلمان، أو جلسات من أجل انتخاب رئيس للجمهورية تكون نتيجتها دائما فقدان النصاب وتعطيل الجلسة.
ولا بدّ من التذكير هنا أنّ مجلس النواب عقد أيضا جلستيْن تشريعيتيْن بتاريخ 14 أيلول 2022 و24 كانون الثاني 2024 من أجل إقرار موادّ وبنود الموازنة علمًا أنّ التّصويت على الموازنة يسبقه دائما جلسة نقاش تدافع خلالها الحكومة عن أرقام الموازنة، ما يسمح للنواب بتوجيه الأسئلة إلى الوزراء والتباحث في السياسة العامة التي تتبعها الحكومة والمشاريع التي تنوي تنفيذها في المستقبل. لكن هذا النقاش العامّ يكون مرتبطًا بوجود الموازنة، أي أنّ مجلس النواب ملزم قبل التصويت على الموازنة التي أعدّتها الحكومة من عقد جلسة نقاش عامّ إذ لا يعقل الانتقال مباشرة إلى إقرار بنود الموازنة من دون التباحث في حالة البلاد السياسية والاقتصادية نظرًا للارتباط الوثيق بين موازنة الدولة السنوية وواقع المجتمع.
وهكذا يتبين أن جلسة 15 أيار هي الجلسة الأولى في ولايته التي سيعقدها مجلس النواب لبحث مسألة تتعلق بالشأن العام من دون وجود موجب دستوري يفرض عليه ذلك كانتخاب رئيس للجمهورية وإقرار الموازنة، أو من دون وجود ضرورة تشريعية تحتم إقرار قوانين تم التوافق عليها مسبقا من أجل حماية مصالح السلطة الحاكمة، كتأجيل الانتخابات البلدية والاختيارية أو تمديد سن التقاعد لقائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية والعسكرية.
يعكس تحديد جلسة للنقاش العامّ بعد طول غياب فقدان مجلس النواب لدوره الدستوري كمساحة مفتوحة للتداول في الشؤون التي تهمّ الدولة والمجتمع واختفاء وظيفته الرقابية التي تسمح للمواطنين عبر النواب من محاسبة الحكومة والاطّلاع على كيفية اتخاذ القرارات التي تتعلق بالصالح العام وحياتهم اليومية.
وتظهر أهمية دور مجلس النواب الرقابي في المادة 136 من النظام الداخلي التي تنص صراحة على التالي: “بعد كلّ ثلاث جلسات عمل على الأكثر في العقود العادية والاستثنائية تخصص جلسة للأسئلة والأجوبة أو جلسة للاستجوابات أو للمناقشة العامة مسبوقة ببيان من الحكومة”، ما يعني أن البرلمان ملزم بعقد جلسات للتباحث في الأوضاع العامة التي تمرّ بها البلاد بشكل دوري، وأن الحكومة ملزمة بتحضير بيان تطلع عبره النواب والجمهور بكل الإشكاليات التي يتوجب معالجتها. فالوظيفة السياسية لمجلس النواب في النظام البرلماني تتجلى بشكل أساسي في الرقابة التي يمارسها النواب على الحكومة إن كان عبر طرح الثقة بها، أو عبر توجيه الأسئلة إليها والتباحث معها علنا وأمام الرأي العام كي تتمكن من تبرير سياستها والدفاع عن خياراتها في شتى المجالات. فجلسة 15 أيار اليتيمة هي تأكيد على أن مجلس النواب دأب على مخالفة نظامه الداخلي جراء امتناعه على عقد جلسات مناقشة عامة بعد كل ثلاث جلسات عمل، أي في الظروف الحالية بعد كل ثلاث جلسات تشريعية.
وإذا كان انعقاد مجلس النواب في جلسة مخصصة فقط للنقاش العام هي خطوة جيدة تنسجم مع المنطق الدستوري السليم ومتوافقة مع بديهيات النظام البرلماني لكن الكيفية التي تمت بها هذه الدعوة تطرح تساؤلات عديدة حول حقيقتها الفعلية. إذ أنّ مجلس النواب لم يعقد أيّ جلسة للتباحث في أهمّ التحدّيات التي يمرّ بها لبنان في ظلّ الانهيار الشامل الذي ضرب كل مؤسسات الدولة وفاقم من هشاشة أوضاع اللبنانيين الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. كذلك فشل مجلس النواب في عقد جلسة مخصصة لبحث تداعيات العدوان الإسرائيلي على مناطق مختلفة من لبنان. فالمسائل التي تهمّ المجتمع لم تعدْ تجد منفذا لها إلى المؤسسات الدستورية كي يتم طرحها ومعالجتها وفقا لما تفرضه المصلحة العامة. حتى مسألة النزوح السوري لم يتم تخصيص جلسة للتناقش حولها إلا بعد ارتفاع وتيرة الخلاف بين أركان السلطة الحاكمة ومن أجل تحقيق مكاسب سياسية، ما يعني أن أحزاب السلطة هي وحدها من يحدد جدول أعمال المؤسسات الدستورية ويفرضه على الجميع بحيث لم تعد هذه الأخيرة في خدمة المجتمع بل على العكس من ذلك باتت المؤسسات الدستورية في خدمة السلطة ومصالحها.
والأغرب أن رئيس الحكومة الذي “تمنى” على رئيس مجلس النواب عقد تلك الجلسة لم يذكر من قريب أو بعيد المادة 137 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تنص على التالي:” تعين جلسة لمناقشة الحكومة في سياستها العامة بطلب من الحكومة أو بطلب من عشرة نواب على الأقل وموافقة المجلس”. فالحكومة تملك صلاحية واضحة تسمح لها بطلب عقد هكذا جلسات، لا بل فرض تلك الجلسات كون رئيس مجلس النواب ملزمًا بتعيين موعد لها عندما تمارس الحكومة هذه الصلاحية. فلماذا يتمنى رئيس الحكومة بينما كان بمقدوره دعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع من أجل التقدّم بطلب رسميّ لعقد جلسة نقاش عامّ؟ وهل هذا التمنّي كان تمنيّا فرديّا صادرا عن رئيس الحكومة بصفته الشخصيّة ما جعل رئيس مجلس النواب يظهر بشكل المرجع الذي وافق على هذا التمنّي وسمح بعقد تلك الجلسة؟ إن هذه الأسئلة تظهر الطبيعة الاستثنائية لهذه الجلسة التي لا تندرج من ضمن السياق الطبيعي والمتوقع والمطلوب لعمل البرلمان.
وعلى الرغم من أهمية تفعيل دور مجلس النواب كسلطة دستورية مكتملة الصلاحيات لكن جلسة 15 أيار تعقد في ظل وجود حكومة مستقيلة تتولى تصريف الأعمال، ما يعني أن الحكومة لا يحق لها في المبدأ اتخاذ قرارات سياسية كبرى والالتزام بتعهدات دولية ستكون لديها تداعيات مستقبلية أكيدة على لبنان. لكن طول فترة تصريف الأعمال والشغور في رئاسة الجمهورية سمح عمليا لهذه الحكومة من ممارسة جميع صلاحيات التي تعود لحكومة عادية ما يشكل حقيقة “حالة دستورية شاذة” كون الحكومة التي ستمثل أمام المجلس لا يمكن محاسبتها سياسيا إذ لا يمكن سحب الثقة من حكومة مستقيلة ما يطرح إشكالية دستورية تتعلق بإمكانية توجيه الاسئلة إلى الوزراء في مثل هكذا حالة.
وكانت المفكرة القانونية قد سبق وأن عالجت في ورقة بحثية حول تصريف الأعمال مسالة دور مجلس النواب خلال وجود حكومة مستقيلة بعد المقارنة مع التجربة البلجيكية التي شهدت على أوضاع دستورية مشابهة إذ تبين أن البرلمان البلجيكي بات يقبل مع طول فترات تصريف الأعمال بتوجيه الأسئلة المكتوبة والشفهية[1] إلى الحكومة المستقيلة من أجل السماح للمواطنين بالاطلاع على العمل الحكومي والإبقاء على حد أدنى من الرقابة البرلمانية، وهو الوضع نفسه الذي ينطبق على لبنان الذي يعني إمكانية عقد مثل تلك الجلسات حتى لو كانت الحكومة مستقيلة.
خلاصة القول، لا تدخل جلسة 15 أيار في المنطق الطبيعي للنظام البرلماني كون النواب لن يتمكنوا من محاسبة الحكومة إذ سيقتصر الأمر على جولات من الخطب والشعارات حول النازحين السوريين وتحقيق المكاسب السياسية أمام الرأي العام الذي يسهل تحريضه في هذه المسألة التي تثير هواجس طائفية وأمنية واقتصادية واضحة. فتخصيص جلسة للنقاش العام هو واجب دستوري بديهي يجب أن يتم بصورة دورية لمعالجة مشاكل المجتمع لكن جلسة 15 أيار وإن كانت تدخل شكليا ضمن هذا الإطار الدستوري الطبيعي، لكنها في حقيقة الأمر جولة جديدة من جولات التناحر السياسي بين أركان السلطة التي تستخدم المؤسسات الدستورية للدفاع عن مصالحها بدل الدفاع عن الخير العام.
[1] “Il est admis que des questions écrites soient posées au gouvernement en période d’affaires courantes, si la Conférence des présidents le décide. Dans ce cas, le gouvernement n’est cependant pas tenu de répondre dans le délai réglementaire. Les Chambres ont toujours été réticentes d’accepter que des questions orales soient posées en séance plénière à des ministres d’un gouvernement démissionnaire. Avec l’allongement des crises gouvernementales et donc des délais pour la formation d’un gouvernement, la Chambre des représentants a ajusté sa pratique. A partir de janvier 2011, la décision a été prise de permettre aux parlementaires de poser des questions orales au gouvernement en séance plénière. Et ceux-ci ne s’en sont d’ailleurs pas privés. Au total, plus de 600 questions orales d’actualité ont été posées en séance plénière” (X. Baeselen, S. Toussaint, J.B. Pilet, N. Brack, Quelles activités parlementaires en période d’affaires courantes ? Les cahiers de l’ULB et du PFWB, Fédération Wallonie-Bruxelles le Parlement, 2014, p. 25).