جلسة مصارعة المرشحيْن لرئاسة الجمهورية: تمدّد الاعتباطية
14/06/2023
شهدت جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي عقدت بتاريخ 14 حزيران الحالي تطورات خطيرة تضاف إلى المخالفات الاعتباطية التي حدثت في الجلسات السابقة، ما يفاقم الشكّ في نزاهة العملية الانتخابية ومصداقيتها. وفي حال وضعنا كلّ الملاحظات التي شرحناها مطوّلا في مقالات سابقة نشرتها المفكرة القانونية حول كيفية احتساب الغالبية والنصاب والأوراق البيضاء والملغاة، لا بدّ من مناقشة أولا مخالفة خطيرة جدا نظرا لتداعياتها على النظام الدستوري اللبناني برمّته تتعلق بتصرف رئيس مجلس النواب نبيه بري الأحادي القاضي باعتبار ورقة الاقتراع التي تحمل اسم جهاد العرب ملغاة، وثانيا معالجة مسألة الخلاف الذي ظهر بعد إعلان النتائج المتمثل بالفرق الحاصل بين عدد أوراق الاقتراع (128) وعدد الأصوات التي تم احتسابها فعليا (127).
توسع اعتباطية رئيس مجلس النواب
تنص المادة 12 من النظام الداخلي الحالي لمجلس النواب على أن أوراق الاقتراع تعتبر ملغاة في الحالات التالية: "أسماء يفوق عددها المراكز المحدّدة في النظام، أو تحتوي على علامة تعريف أو تمييز من أيّ نوع كانت، أو تتضمن غير الاسم والشهرة مجرّدين".
وهكذا يتبيّن أنّ هذه المادة تحدّد تلك الحالات بشكل حصريّ ولا يمكن بأي حال من الأحوال التوسّع في تفسيرها أو إضافة حالة لا وجود لها كون ذلك يشكل مخالفة مباشرة للنظام الداخلي ويؤدي إلى القضاء على صدقية الانتخابات كون النائب لن يتمكن من معرفة مسبقا نتيجة اقتراعه. إذ قد يكتشف أن ورقته باتت ملغاة علما أنه لو علم بهذه النتيجة قبل الإدلاء بصوته لربما كان قد قرر الاقتراع بشكل مختلف.
وقد تفرد رئيس مجلس النواب باعتبار الورقة ملغاة من دون أي تبرير أو شرح ودون وجود أي اعتراض من قبل النواب. لكن الخطورة في هذا الأمر لا تكمن فقط في اعتباطية رئيس المجلس بل في السبب المضمر الذي يمكن الركون إليه من أجل تبرير قرار هذا الأخير.
فجهاد العرب، بغضّ النظر طبعا عن الشخص نفسه والطبيعة التهكمية التي تكمن خلف هذا الاقتراع، لا ينتمي إلى الطائفة المارونية ما قد يدفع البعض إلى الاعتقاد أن إلغاء الصوت مردّه لأسباب طائفية كونه لا يجوز الاقتراع إلا لمرشحين من هذه الطائفة.
وبالحقيقة ليست المرة الأولى التي يتم فيها هذه الأمر. ففي جلسة 31 تشرين الأول 2016 المخصصة لانتخاب رئيس الجمهورية، وجدت ورقة تحمل اسم ميريام كلينك. فما كان من النائب مروان حمادة الذي كان يتولى حينها فرز الأوراق سوى اعتبار الورقة بحكم الملغاة وسط عاصفة من الضحك. وقد تنبّه النائب سامي الجميل للأمر فاعترض موجّها سؤالا لرئيس المجلس حول سبب إلغاء الورقة الذي اكتفى بإطلاق نكات ذكورية خلقت لدى النواب جوّا من الهزال والتهكّم دون حسم المسألة كون رئيس المجلس لم يكن الذي أعلن إلغاء الورقة. ولم يقدم أي شرح لهذا الموقف الذي اتخذه النائب مروان حمادة بمفرده. فقط النائب نبيل نقولا اجتهد من تلقاء نفسه معلنا أن ميريم كلينك تنتمي إلى طائفة الروم الأرثوذكس ما يفهم منه أن سبب الإلغاء هو طائفي كونها ليست مارونية.
تشكل هذه السابقة المبهمة التي أظهرت ذكورية العديد من النواب وتحقيرهم لمواطنة لبنانية علنا بسبب حياتها الخاصة وحرمانها من حقوقها السياسية نموذجا على خطورة سيطرة القوى غير الديمقراطية على المؤسسات الدستورية وتداعيات هكذا تصرف على البناء القانوني للدولة الذي يصبح أكثر فأكثر خاضعا لاعتبارات تنتجها السلطة السياسية وتحرص على تطبيقها كي تحافظ على مصالحها.
لا بل أكثر من ذلك، يمكن اعتبار تصرّف رئيس مجلس النواب اعتداءً على الاختصاص القضائي للمجلس الدستوري الذي منحته المادة 19 من الدستور حصرية البت في النزاعات الناشئة عن الانتخابات الرئاسية. إذ أن إلغاء ورقة اقتراع تحتوي على تصويت صحيح هو في صلب اختصاص السلطة القضائية التي تسهر على احترام الحريات العامة وفي طليعتها نزاهة العملية الانتخابية. لذلك يكون رئيس المجلس بقراره هذا قد أحلّ نفسه بدل المجلس الدستوري وصادر صلاحياته وأعلن إلغاء ورقة بشكلٍ مخالف للنظام الداخلي من دون أيّ مسوغ قانوني.
ولا يردّ على ذلك بالقول أن طائفة رئيس الجمهورية هي عرف يجب احترامه. إذ أن العرف كي يأخذ مفاعيله القانونية يتوجب إعلانه من قبل السلطة القضائية وفي حالتنا هذه من قبل المجلس الدستوري الذي يعود له في حال الطعن بالانتخابات الرئاسية أن يعلن ما إذا كان الاقتراع لفرد لا ينتمي إلى الطائفة المارونية (أو الطائفة الشيعية في حالة انتخاب رئيس مجلس النواب) يعتبر مخالفة لعرف دستوري، وعندها فقط يمكن القبول بمثل تلك الحجة.
وما يثبت هذا الأمر هي جلسة الانتخاب في 23 أيلول 1952 والتي خلصتْ إلى انتخاب كميل شمعون كرئيس للجمهورية. فقد حصل النائب عبد الله الحاج في هذه الجلسة، وهو من الطائفة الشيعية، على صوت واحد ولم يتمّ اعتبار الورقة التي تحمل اسمه ملغاة. فطائفة رئيس الجمهورية غير منصوص عليها في الدستور ولا في أيّ نص وضعي، ويستحيل منح رئيس مجلس النواب من تلقاء نفسه صلاحية إلغاء أوراق اقتراع صحيحة كون ذلك يفتح الباب لاعتباطية سياسية لا تتوافق مع أي نظام دستوري سليم.
الفرق عند إعلان النتائج
شهدت الجلسة على نقاش بين النواب عقب إعلان النتائج. إذ تبيّن وجود 127 صوتا بينما عدد النواب الذين شاركوا في الجلسة بلغ 128 نائبا. وكان رئيس مجلس النواب قد أعلن بعد الانتهاء من الاقتراع وقبل فرز الأصوات أن عدد الأوراق هو 128 ما يعني وجود ورقة واحدة ضائعة. فهل كان يتوجب إلغاء نتيجة الانتخاب وإعادة الدورة أو كان من الجائز القبول بالنتيجة كما فعل رئيس المجلس وسط اعتراضات صدرت عن مجموعة من النواب؟
بالحقيقة، طرحت هذه المسألة تحديدا في فرنسا سنة 1898 بمناسبة انتخاب رئيس مجلس النواب وكانت أكثر تعقيدا بسبب التنافس الشديد بين المرشحين إذ فاز أحدهم بفرق صوت واحد لكن تبين أن 557 نائبا شاركوا في الاقتراع بينما عدد الأوراق التي تم فرزها بلغ 556 فقط. وبعد نقاش مستفيض بين النواب، قرر مكتب المجلس إلغاء الدورة وعدم القبول بنتائجها كون الفارق كان ضئيلا جدا. وقد تحول هذا الاجتهاد إلى القاعدة المتبعة وفقا لما لاحظه العلامة "أوجين بيار" إذ كتب أنه يمكن الوصول إلى المبدأ التالي ومفاده أنّ وجود اختلاف بين عدد الأوراق وعدد الأصوات النهائي بعد إتمام عملية الفرز لا يلغي نتيجة الدورة إلا إذا كان الفرق بين المرشحين مساويا للفرق بين عدد الأوراق والأصوات.
« Lorsque le nombre de bulletin trouvés dans l’urne est inférieur à celui des boules de contrôle[1], il y a lieu de procéder à un nouveau tour de scrutin si l’écart entre les bulletins et les boules se trouve égal à l’écart des voix entre les candidats … »[2].
وبما أن الفرق بين جهاد أزعور وسليمان فرنجية كان ثمانية أصوات، وأصلا النتيجة لم تكن حاسمة كون أحدهما لم يحصل على 86 صوتا وفقا للممارسة السائدة، يمكن الاستنتاج أن نتائج الدورة صحيحة وليس من الضروري إعادتها. وكان رئيس المجلس قد أعلن أن هذا الفرق لا تأثير له على النتيجة. لكن أن يتخذ رئيس مجلس النواب الموقف الصحيح في هذه الحالة لا يمنع أنه اتخذه من دون استشارة مكتب المجلس أو دون القبول بمناقشة الأمر في مجلس النواب بل فرضه فرضا مسارعا إلى رفع الجلسة دون إعطاء الأمر أي حيّز من النقاش والتداول وفقا لما تقتضيه الأصول البرلمانية.
ويظهر الاختلاف جليا بين أحادية رئيس مجلس النواب الحالي وتصرف رئيس السن النائب يوسف الزين في جلسة 20 تشرين الأول سنة 1959 المخصصة لانتخاب رئيس لمجلس النواب. فبعد الانتهاء من الانتخاب، تبين وجود 62 مقترعا بينما عدد الأوراق هو 63. لذلك، وبما أن الاختلاف ظهر قبل فرز الأصوات وليس بعدها، فتح الرئيس باب النقاش لجميع النواب الذين تحدثوا بالأمر بحرية تامة ومن ثم طرح رئيس السن الأمر على مجلس النواب الذي صوت بضرورة إعادة الانتخاب وهذا ما تم فعلا.
في الخلاصة، يتبيّن أن جلسة انتخاب رئيس الجمهورية باتتْ تتسم بشكل متزايد بالاعتباطية والسلطوية في اتخاذ القرارات. فعلاوة على افتقار هذه الجلسات لأدنى معايير التنافس الديمقراطي وتكبيلها بشروط يقال أنها دستورية من أجل عرقلة عمل المؤسسات وتأمين سيطرة التوافق بين الزعماء على كل اعتبار آخر، باتت الممارسة تتّجه أكثر فأكثر نحو مزيد من الجمود والحدّ من حرية الخيار داخل مجلس النواب. إذ أن إلغاء صوت جهاد العرب[3] هو بالحقيقة قرار سياسي بالغ الخطورة يشكل انقلابا مكتمل الأوصاف على النظام الدستوري اللبناني.
[1] في فرنسا خلال الجمهورية الثالثة كان على النائب الذي يريد الانتخاب قبل الاقتراع أن يضع كرة صغيرة في صندوقة خاصة ويشكل عدد الكرات عدد النواب الذين انتخبوا.
[2] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, cinquième édition, Paris, p. 465.
[3] لا بد هنا من تسجيل مفارقة عدم إلغاء الصوت الممنوح لقائد الجيش جوزيف عون علما أن الاقتراع له يشكل مخالفة مباشرة وصريحة للفقرة الأخير من المادة 49 من الدستور.