عن بطاركة المجلس النيابي وجنودهم
29/07/2022
ما حصل مع النائبة حليمة قعقور ليس تفصيلاً أو خطأً. هو سياق بدأ مع انضمام نواب الكتلة التغييرية إلى البرلمان. هم، بغضّ النّظر عن رأي الناس فيهم، إن كان مؤيداً أو معارضاً، مُرحّباً أو مُشكّكاً، شكّلوا نموذجاً مختلفاً للفكرة السائدة عن النائب. هؤلاء لم يأتوا من عائلات سياسية ولا من خلفيات حزبية، ولم يكونوا جزءاً من الأحزاب التي لطالما تناوبتْ على السلطة وتعايشتْ معها. لم تحمِ منازلهم أسوار عالية ولا تظلَّلوا بهالة زعيم. هم أتوا من العمل العام ومن الشارع، الشارع المطلبي، إلى البرلمان… بلا عراضات ولا بهورة. وبهذا المعنى، هم الأكثر قدرة على التعبير عن وجع الناس، لأنهم يشبهونهم، مهما حاول مَن في السلطة ادّعاء تماسه مع المواطنين ومطالبهم. في الأساس، لا يمكن هكذا كذبة أن تمرّ، طالما أنّ هؤلاء أنفسهم، إضافة إلى كونهم يتحملون مسؤولية مباشرة عن الأزمة ونتائجها، لم يفعلوا شيئاً للخروج منها. وبالتالي، ليس واضحاً بأيّ عين يواجهون هؤلاء النواب، الذين - إن لم يرغب زملاؤهم في التعامل معهم بالسوية، فعلى الأقل وجب عليهم احترامهم لأنه لا شبهة عليهم.
بعيداً عن غباء من اعترض على عبارة "الطريقة البطريركية"، فإنه ليس سهلاً التغاضي عمّا تعرّضت له النائبة حليمة القعقور بعد ذلك، من النائب علي خريس أولاً، ثم من النائب قبلان قبلان. النائب الفذّ الذي لم يُسمَع صوته في المجلس بعد. والنائب الذي يعتقد أنه ربح الانتخابات مستفيداً من عطاءاته في محمية مجلس الجنوب، لا من أصوات حزب الله، سيُسجّل تاريخ المجلس أنه أول ما نطق، نطق كفراً. النائب الجليل انهارتْ دفاعاته الأخلاقية، بمجرد أن تعرّضت زميلته، والتي صودف أنها متساوية معه في كل الحقوق والواجبات، لسيدّه. صار كالجندي الحريص على إثبات ولائه أمام ضابطه. وهو بذلك أعطى لنفسه الحقّ بإظهار غضبه الشديد، فبدأ بالصراخ كوحش حُبس في قفص. الصراخ لم يكن وسيلته الوحيدة للدفاع عن قائده، الذي لم يكنْ يوماً بحاجة لدفاع. وفي الحالة تلك، لم يكن هنالك ما يستدعي الدفاع أصلاً. فالنائبة القعقور لم تتعرّض لرئيس المجلس بالشخصي ولم تتعرّض لمكانته كرئيس للمجلس، لكنها سجّلت اعتراضاً، بالنظام، أولاً على عدم وضوح توجّهات التصويت، وثانياً على توجّهه لها بالقول "سكتي وقعدي". النواب العتيقون قد لا يجدون في إسكات رئيس المجلس لأحدهم قضية تستأهل التعليق. وهذا مفهوم ربما، بالنظر إلى أنها ليست المرة الأولى. لكن هذا لا يعني أيضاً أن السكوت واجب أو دليل احترام لرئيس المجلس. بالنسبة لقعقور، ولكُثُر أيضاً، ما قاله بري ليس مزحة ولا بسيطاً ولا عرفاً وجب احترامه أو التطبيع معه. من حقها أن تعترض وهذا ما فعلته، باحترام. اعتبرت أسلوب بري بطريركياً. وهو كذلك، بغض النظر عن عبقرية الاعتراض على التعرّض لمقام البطريرك. ولحسن حظّ هؤلاء أمام الغوغاء، إن الاعتراض الأعمى بيّيع في سوق الولاءات والحصانات والصراعات الطائفية. لو قالت القعقور الأسلوب الأبوي أو السلطوي أو الذكوري، لكان خسر هؤلاء فرصتهم. هي فرصة لأنهم حتى عندما ظهر جهلهم، لم يتراجعوا، فكرر فريد الخازن موقفه من على منبر بكركي بأعلى صوته: "ممنوع الإتيان على سيرة البطريرك في المجلس النيابي! الجوقة انتشرتْ. أحد المطبّلين قال أيضاً إن مَن يريد أن يأتي على سيرة البطريركية "بدو يطهر نيعو".
لا يختلف قبلان عن الخازن كثيراً. القعقور تجرأت على بطريرك المجلس، وهو بمنطق قبلي ربما يعتبر أن الدفاع عن البطريرك يرفعه. للأسف، الرئيس نبيه بري لم يؤنّب نائبه، وهو غالباً ما يفعل عندما يُبادر أي من أبناء كتلته إلى الدفاع عنه أو حتى إلى دعم موقفه. هذه المرة، ذهب بعيداً في نظرية المؤامرة، معتبراً أن ثمة قراراً بتطيير الجلسة. حتى عندما تنمّر قبلان على النائبة سينتيا زرازير ناعتاً إياها بالصراصير مثنى وثلاث ورباع بأعلى صوته، لم يُسكتْه بري، ولم يهدّده بالطرد من الجلسة كما فعل مع القعقور، لمجرد أن وصّفت الواقع. عادة، مع ملاحظة كتلك، غالباً ما يكون رد فعل بري فكاهياً ويستدعي ضحك من في المجلس، لكنه هذه المرة، انفعل لمجرد أن قالت إن تصويت النواب غير واضح.
ما حصل قد حصل. وكان يُفترض أن ينتهي هذا الاعتراض مع التعليق الفذّ من الخازن، لكن كان لقبلان رأيٌ آخر. لكثرة ما يفيض من عزّ، كان يُوزّع التهمة على كل من يقف بطريقه، فنالت النائبة بولا يعقوبيان نصيبها من "الصرصرة" أيضاً.
ثمة سؤال بديهي يطرح نفسه: هل كان قبلان أو خريس لينفعلا على أيّ زميل آخر كما فعلا مع أعضاء الكتلة التغييرية، وتحديداً مع سيدة في هذه الكتلة؟ الإجابة بـ "لا" لن تكون ضرباً بالرمل. فثمّة سياق بدأ في 28 أيار، يوم عُقدت الجلسة الأولى للمجلس النيابي الجديد، عنوانه إخضاع الكتلة الضالّة لقواعد اللعبة، التي لا تمتّ إلى التشريع أو المجلس النيابي بشيء. في المجلس، جرت العادة أن تكون الجلسات التي تعقدها اللجان أو الهيئة العامة، مجرّد واجهة لتسويّات خيطت خارجَه بين الكتل الكبرى. لا تُحصى الشواهد على هذه التسويات، لكن قد يكون قانون السرية المصرفية أحدثها، ولاسيما في ما يتعلق بتضييق صلاحية القضاء.
النواب الـ13 تحوّلوا سريعاً إلى أعداء زملائهم. الترهيب لا يتوقف يوماً. كل المواقف مقبولة إلا تلك التي تصدر عن هؤلاء. الرفض يكون للشخص قبل الفكرة التي يقولها، بغضّ النظر عن مضمونها. في الجلسة التشريعية، ظهر استثناء بسيط. صحيح أن نواب حزب الله لا يختلفون عن أقرانهم في اعتبار أغلب زملائهم الجدد هواةً لا يميّزون بين الشارع والمجلس، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهورهم صفاً واحداً معهم في مواجهة مساعي ضرب قانون السرية المصرفية من قبل حركة أمل والتيار الوطني الحر والقوات وبعض المستقلين.
هذا الاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها. ثمة استخفاف مفرط في التعامل مع النواب الـ13، مقروناً بذكورية مقيتة في حال كان النائب امرأة. وهذه الذكورية لا تميّز، بطبيعة الحال، بين صحافية ومساعدة ونائبة، طالما أنّ هذه النائبة قد أتت من خارج المنظومة الذكورية. فلا هي زوجة زعيم أو ابنته ولا هي بيدق في يد رئيس الكتلة أو زعيمها. هي ذكوريّة تتّقد بمجرد أن تكون الضحية أضعف منهم. هل الصدفة أوجدت الواقيات الذكرية والمجلات الجنسية في مكتب سينتيا زرازير؟ وهل الصدفة هي التي جعلتها بلا موقف سيارة، أسوة بزملائها وزميلاتها؟
الشعور بالقوة يبيح المحظورات. تخيّلوا أن نواباً يلطّشون زميلة لهم أثناء صعودها إلى مكانها في القاعة العامة. يحدث ذلك فعلاً تحت قبة البرلمان، على ما أكدت عليه النائبتان سينتيا زرازير والقعقور.
مَن يتابع الجلسات بحكم وظيفته، تعلّم أنّ احترام المكان واجب، إلى درجة أن صحافياً يجلس لساعات متابعاً مجريات الجلسة سيكون ممنوعاً من وضع رجل على أخرى طيلة الوقت، على اعتبار أن في ذلك انتقاص من هيبة المجلس. طبعاً هذا لم ينطبق على السفيرة الأميركية التي لم تُنزل رجلاً عن الأخرى طيلة فترة متابعتها للجلسة، فيما كان رجل الأمن لا يتردّد في تنبيه الصحافيين إلى جانبها بضرورة إنزال أرجلهم.
للمناسبة، كان البعض في الخارج، يتناقل ساخراً أن السفيرة الأميركية ستحضر الجلسة لمراقبة "صيصانها". لم يقل أحد أنها كانت في ضيافة رئيس المجلس شخصياً، وأن مستشاره علي حمدان هو الذي جالسها طيلة فترة وجودها وكان دليلها إلى مجريات الجلسة.
قبلان لم يكتفِ بفعلته. بل افترض أن مَن يرى مَن في الأعلى، يدرك ما حصل في الأسفل، موحياً أن القعقور افتعلت مشكلة بسبب وجود السفيرة الأميركية في الطابق العلوي. علماً أنّ أحداً حتى من معارضي أميركا ودورها في لبنان، لم يقف ليُسجّل موقفاً مبدئياً رافضاً لوجود سفيرة في جلسة تشريعية كانت فيها أشبه براعٍ أعلى لعمل المجلس. ما حصل كان العكس. الكثير من النواب سعوا إلى نظرة أو تحية أو ابتسامة من السفيرة.
بالنتيجة، ليست النظرة الدونية تلك خاصة بالنساء في كتلة التغيير. الأغلبية لا تتعامل مع أي موقف يقال من هؤلاء بجدّية. يتعاملون معهم كمتظاهرين أو كمخرّبين في المجلس. ولذلك، يكونون على الزناد بمجرّد أن يتنفس أحدهم. وإن كان قد ظهر بعض من ذلك في الجلسة التشريعية العلنية، فإن الجلسات السرية للجان النيابية تحفل بالكثير من الاستفزاز والاستخفاف. القعقور قالت عبر "ميغافون" إن ما يحدث في اللجان يؤكد أن ثمة من يريد إرهاب الوافدين الجدد إلى ساحة النجمة.
في ذلك، لا تمييز بين النساء والذكور من النواب "الضالّين". في جلسة انتخاب رئيس المجلس، توجّه علي حسن خليل للنائب فراس حمدان بعبارة "يا ابني". مَن سمعها، يدرك أنها لم تكن تعبيراً عن احتضان النائب المخضرم للنائب الجديد. كانت استخفافاً. ولذلك ردّ عليه حمدان بالقول: أنا لست ابنك بل زميلك.
هكذا هو مستوى تعامل السلطة مع النواب الجدد. هكذا ببساطة يتّضح أن الصراعات داخل السلطة ليست سوى صراعات على النفوذ والمصالح. ومتى انقسمت الجبنة بما يرضي مختلف الأطراف عمّ الوئام، وذابت الاختلافات.
لكن، ما يعرفه أولاد السلطة جيداً أن من يريدون إسكاتَهم، سيبقون معهم لأربع سنوات. وعلى الأرجح، بغضّ النظر عما إذا كانوا سيقدّمون تجربة ناجحة أم لا، فمن المؤكد أنّهم لن يكونوا كما كثر من نواب الغفلة الذين يُسجلون الحضور في الجلسة لا أكثر… ولكم في ميشال الياس ميشال المر وعشرات النواب الذين لم يُسمع اسمهم إلا بالمناداة أثناء التصويت دليل.
للمناسبة، ثمة من بين النواب من يراهن على أن بعض الزملاء لن يُسمع صوته طيلة السنوات الأربع. هذا هو النموذج الذي ترتاح له السلطة وتعتبره أهلاً لتبوؤ المقعد النيابي.