قضم "الشراء العام" بقوّة الأزمة وفي ظلّها

إيلي الفرزلي

28/02/2023

انشر المقال

حلّت هيئة الشراء العام محلّ إدارة المناقصات في 29/7/2022، أي فور دخول قانون الشراء العام حيّز التنفيذ. تمّ إبراز القانون على أنّه أحد أهم المساعي للحدّ من هدر المال العام، على أساس أنه يشمل أي شخص من أشخاص القانون العام ينفق مالًا عامًا فضلًا عن الشركات التي تملك الدولة حصّة فيها وتعمل في بيئة احتكارية، أو أيّ مرافق عامّة تديرها شركات خاصة لصالح الدولة وأنّه مبنيّ على مبادئ الشفافية والمنافسة المتعارف بها دوليًا. 

لم يتأخّر ظهور العقبات أمام تطبيقه بنتيجة الأزمة وشحّ الموارد لدى عموم أشخاص القانون العام. وليس أدلّ على ذلك من فشل مزايدات عدّة لنقص عدد العارضين أو حصولها على أساس العملة الوطنية المتغيرة، ومن أهمها مزايدة البريد ومزايدة المنطقة الحرّة في المطار. وهذا ما شدّد عليه رئيس هيئة الشراء العام جان العلية في حديثه إلى "المفكرة" حيث أوضح أنّ أغلب الإشكالات ناتجة عن الظروف التي استجدّت بعد الأزمة، والتي تعيق عمليات الشراء، لا سيّما منها عدم ثبات سعر الصرف، والشحّ في ميزانيات الإدارات، إضافة إلى عدم انتظام العمل في الإدارات والمؤسّسات والمصارف (التي يجدر إجراء الكفالات من خلالها).

ولكن فضلًا عن هذه العقبات الواقعية والتي يؤمل أن تكون ظرفية، برزت عقبات قانونية عدّة وأبرزها استحالة تشكيل لجان التلزيم أو الاستلام في الكثير من الجهات الشارية، وبخاصة البلديات الصغيرة. ففيما ينصّ القانون على وجوب أن تتشكّل هذه اللجان من ثلاثة أعضاء ينتمون إلى الفئة الثالثة، في حين يصعب توفير ولو موظف واحد في عدد من هذه البلديات فضلًا عن أنّه يتمّ تصنيف الموظفين وفق أنظمة مختلفة لدى عدد من الجهات الشارية، مثل الجيش وأوجيرو والقوى الأمنية والهيئة العليا للإغاثة. 

فضلًا عن هذه العقبات، برزت ممانعة جهات عدّة حيال انطباق القيود القانونية عليها. وقد تجلّى ذلك في تواتر العديد من الاعتراضات في هذا الخصوص والتي يرشّح أن تزداد على ضوء الدعوة التي وجهتها رئاسة الوزراء إلى الجهات الشارية إلى إبداء ملاحظاتها على القانون. 

مساعٍ لمعالجة الثغرات القانونية

إذ رمى قانون الموازنة العامة لسنة 2022 إلى معالجة التفاوت بين القانون والواقع جزئيًا وبخاصة لجهة كيفية تشكيل لجان الاستلام، أبطل المجلس الدستوري الأحكام الواردة فيه في هذا الخصوص في قراره الصادر في 5/1/2023، معتبراً أنّها من فرسان الموازنة وينبغي أن تُقرّ بشكل مستقلّ. 

وعليه، عاد عدد من النوّاب جهاد الصمد، آلان عون وعلي حسن خليل ليقدّموا اقتراح قانون معجّل مكرّر لمعالجة العقبات القانونية. ومن أهم ما ورد فيه أنّه "يتمّ تأليف لجان التلزيم والاستلام لدى الجهات الشارية من أهل الخبرة والاختصاص وفقاً لأسس تضعها هيئة الشراء العام، على أن تكون الأولوية في تشكيل هذه اللجان للأشخاص المدرّبين على الشراء العام". كذلك أُضيف إمكان استبدال الفاتورة ببيان (فاتورة غير رسمية) في حال التعاقد مع جهة لا تملك رقماً مالياً مع الإبقاء على السقف المالي نفسه (100 مليون ليرة). وقد أُضيفت هذه الفقرة بعدما تبيّن أنّ الجهات الشارية ذات الموازنات الصغيرة، كأغلب البلديات، تستعين بعمّال أجانب لتأمين خدمة التنظيف اليومي للطرقات والصيانة يستحيل عليها الاستحصال من هؤلاء على فاتورة رسمية. ولتفادي إمكانية توقّف عملية الشراء بالفاتورة بسبب اشتراط وجود عرضين، أُضيف إلى الفقرة نفسها عبارة: "كما يمكن الاكتفاء بالفاتورة عند تعذّر الحصول على عرضين". بالإضافة إلى ذلك، رمى الاقتراح إلى إدخال تعديلات أخرى تتّصل بشروط مشاركة الشركات الأجنبية تنفيذًا لأحكام قانون مقاطعة إسرائيل وأيضًا بتعديل مواعيد إرسال خطط الشراء العام من قبل الجهات الشارية إلى هيئة الشراء العام (خلال شهرين من بدء السنة المالية بدلاً من 10 أيام من تاريخ إقرار الموازنة). 

وفيما أكد رئيس هيئة الشراء العام جان العلية لـ "المفكرة" أنّ هذه التعديلات مهمّة لتسيير عمل الجهات الشارية، أشّر إلى العمل على إدخال تعديلات أخرى لا تتمتع بصفة العجلة. 

يُذكر أنّه سبق وأن قدّم عدد من نواب كتلة الجمهورية القوية اقتراحا معجّلا مكرّرا يتعلّق بالمعضلة نفسها، يرمي إلى تعديل آلية تعيين أعضاء لجان الاستلام، بحيث يكون الاختيار من بين الواردة أسماؤهم في اللائحة الموحدة على أن يكون على الأقل أحدهم من خارج الإدارة المعنية، في حين أنّ القانون الحالي يُفيد بأنّ هؤلاء يجب أن يكونوا كلهم من داخلها. ويأتي السماح بالاختيار من اللائحة الموحدة لدى هيئة الشراء العام للسماح بحل مسألة افتقار معظم البلديات الصغرى للعدد الكافي من موظفي الفئة الثالثة.

وقد برز بالمقابل توجّه تشريعيّ مغاير من قبل النائب هادي أبو الحسن، يرمي ليس إلى تسهيل خضوع البلديات للقانون بل إلى استثنائهم منه ولو إلى حين. تمثل هذا التوجه في اقتراحه الرامي إلى إرجاء تطبيق قانون الشراء العام على البلديات باستثناء مراكز المحافظات لمدّة سنتيْن بحجة عدم امتلاك البلديات للمؤهلات والقدرات اللازمة لتطبيقه، وذلك تجنّبا للوقوع في مخالفته.

ممانعة الخضوع لقواعد الشراء العام

كانت الحاجة إلى تعديلات بسيطة على القانون كافية لإطلاق حملة متناغمة من الاعتراضات يسوّق لها المتضرّرون من القيود التي يفرضها على الجهات الشارية بعدما كان أغلبها مطلق اليديْن في هدر المال العام. وكان من اللافت في هذا الإطار أنْ بادرتْ رئاسة مجلس الوزراء، في بداية شباط الماضي، بناء على اقتراح اللجنة التي أنشأتها للبحث في التعديلات، إلى طلب ملاحظات من كلّ الجهات الشارية على القانون، بما يظهّره بمثابة قانون قيد التجربة ويفتح الباب لمزيد من الاعتراضات عليه ومن احتمالات قضمه أو تعطيله. 

وعليه، نبّهت مديرة معهد باسل فليحان لميا مبيّض إلى سوء نيّة البعض في تكبير حجر التعديلات، معتبرةً أنّ المشاكل التي تواجه التطبيق لا تتعلّق بنص القانون نفسه بل بالظروف المحيطة به والتي تؤثر على إجراءات عمليات الشراء. ولذلك، هي ترى أنّ المشكلة الفعلية تتعلّق برفض التأقلم مع نمط جديد من العمل. إذ ليس سهلًا الانتقال من آلية غير مهنية إلى درجة عالية من المهنية واحترام المبادئ المعترف بها محليًا ودوليًا، وأوّلها الشفافية والحرص على المال العام. وتذكّر أنّ الشراء العام هي وظيفة، ومن يتولّاها يُفترض أن يخضع لتدريب متخصّص، بما يسمح له بالتخطيط السنوي وربط عمليات الشراء بالموازنة المتوفرة له. وتشير مبيّض إلى أنّه بالرغم من الدعوات المستمرة من قبل المعهد لدورات تدريب على تطبيق القانون ومن تعميم رئيس الحكومة للمشاركة فيها، إلّا أنّ قلّة هي التي استجابت في ظلّ إشاعة أجواء من اللامبالاة انطلاقًا من افتراض أن القانون لن يُطبق وسيتم تعديله.

في المقابل، يُطمئن العلية، وهو عضو في اللجنة أنّ اللجنة كلّفت الهيئة وديوان المحاسبة بجمع هذه الاقتراحات وصياغة مشروع قانون تعديلي، مؤكداً بالتالي أنّ الهيئة لن تكون مع أي تعديل يتجاوز الإطار التقني ويصل إلى حدّ المسّ بمبادئ القانون القائمة على مبادئ الشفافية والمنافسة وتكافؤ الفرص.

مجلس النواب وطيران الشرق الأوسط والريجي: نحن خارج الدولة

ما أن دخل القانون حيّز التنفيذ حتى سعى عدد من الجهات إلى استصدار فتاوى تبرّئها من خضوعها له بحجج مختلفة. أوّل الجهات كان مصرف لبنان، الذي اعتبر أنّ استقلاليته تتيح له التفلّت من الخضوع للقانون. إلّا أنّ ذلك لم يطلْ، حيث تراجع عن هذا الموقف تبعًا للمراسلات بينه وبين هيئة الشراء العام.  

أما الجهات الأخرى فهي طيران الشرق الأوسط وإدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية (الريجي): الأولى تعتبر أنّها غير مملوكة من الدولة بل من مصرف لبنان، كما أنّها لا تعمل في بيئة احتكارية. والثانية تستند إلى استشارة قانونية سابقة من هيئة التشريع والاستشارات تفيد أنّها ليست من أشخاص القانون العام. وفيما لم تردّ هيئة الشراء رسمياً على الطرفين، إلّا أن وضوح القانون في إخضاع كلّ من يتقاضى مالًا عامًا لأحكامه يفترض أن يزيل الالتباس. 

فضلًا عن ذلك، سجلت اعتراضات أوجيرو ومجلس الإنماء والإعمار على خضوعِهما للقانون. إلّا أنّ الطرفين عادا وتراجعا عن هذه الاعتراضات، علماً أنّ مجلس الإنماء والإعمار يستفيد من "استثناء الصفقات المموّلة بهبات خارجية مشروطة بشروط الواهب" الوارد في القانون. وإذ مانع كازينو لبنان انطباق القانون عليه، أكدت الهيئة أنّه أبلغها التزامه به، لكن من دون أن ينشر أيّ صفقة بعد على موقع الهيئة.

جهة أخرى تعتبر نفسها غير معنيّة بالقانون هي مجلس النواب نفسه الذي لم ينشر أي صفقة على موقع الهيئة. وهو يتناسى أنّه هو من وضع النصّ الذي يشير إلى تطبيق أحكام قانون الشراء العام على "كافة إدارات ومؤسسات وهيئات الدولة التي تنفق المال العام لتأمين حاجاتها". أما الحجج للتنصّل من القانون فهي استقلالية المجلس التي جعلته غير خاضع لقانون المناقصات وغير خاضع للرقابة المسبقة لديوان المحاسبة، فهي مردودة بحسب مبيّض، ببساطة لأنّ المجلس النيابي هو في النهاية إدارة رسمية تنفق من المال العام وأنه سبق للمجلس أن أقرّ قانون اعتماد استثنائي أقرّ فيه موازنة مجلس النواب حتى قبل إقرار الموازنة العامة. 

هيئة الشراء تدقّق في عقود التّراضي 

المشكلة أنّ من يخالف القانون هو نفسه المولج بتنفيذه. فمجلس الوزراء وافق في جلسة 6/2/2023 على التعاقد بالتراضي مع شركة هايكون بقيمة 376 ألف دولار و1.17 مليار ليرة لتنفيذ أعمال التشغيل والصيانة في المبنى المركزي لوزارة التربية، من دون مراعاة أصول الاتفاق بالتراضي. وقد برّر مجلس الوزراء قراره بأنّ مديرية المباني في وزارة الأشغال لم تجرِِ أي مناقصة رغم تكليفها منذ 2019 بذلك وأنّ العديد من المناقصات لا تسفر أصلًا عن أيّ نتيجة بسبب تسعيرها بالليرة وأنّ التوقّف عن أعمال الصيانة سيسبّب تداعيات على المنشآت وعلى الخدمة العامة. وكانت مبادرة "غربال" سجّلت أيضاً الإعلان عن اتفاقات رضائية عدّة على موقع الهيئة أبرزها اتفاق لتأمين أعمال الصيانة وتأمين حاجة السراي الكبير والمقرات التابعة له. 

وإذ يقع في صلب مهام الهيئة أن تقوم بالتدقيق في كلّ العقود، فقد أكد رئيسها أنّه تقدّم بطلب معلومات إلى وزارة التربية لدرس مدى انطباق هذه الحالة مع أيّ من الحالات الست التي تضمنتها المادة 46. وفي حال عدم انطباقها، تصدر الهيئة تقريرًا خاصًا بذلك. وفي حال أصرّت الإدارة على التعاقد، يتعيّن على الهيئة الاعتراض أمام مجلس شورى الدولة طالما أنّ هيئة الاعتراضات لم تتشكّل بعد. 

بقي أن نذكر أنّه حتى اللحظة، لا تزال الهيئة تدار من رئيسها الذي يعاونه خمسة موظفين فقط، يفترض أن يراقبوا ويضعوا النصوص التنظيمية والخطط لأكثر من 1500 جهة شارية (لا تملك الهيئة إحصاءً دقيقًا عن عدد هذه الجهات). في المقابل، لم تتخذ الحكومة حتى الآن أي إجراء لتعيين أعضاء الهيئة أو أعضاء هيئة الاعتراضات، علمًا أنّها كانت تحوّلت إلى حكومة تصريف أعمال منذ بدء نفاذ القانون.