لا غاز في البلوك رقم 9: مؤامرة أم حقيقة علمية؟
27/10/2023
خبرٌ عاجل تناقلتْه وسائل الإعلام في 13 تشرين الأول الحالي مفاده إبلاغ شركة "توتال" كلّا من هيئة إدارة النفط ووزارة الطاقة بتوقّفها عن الحفر من دون العثور على الغاز بكميات تجارية. ذلك خبر أُسقط كالصاعقة على من ينتظرون الفرج من البحر. فالتفاؤل كان وصل إلى حدّ عدم انتظار نتيجة الحفر، وبثّ أخبار تعزّز الآمال بوجود الغاز، وما يمكن أن يشكّله من فرصة ذهبية لخروج لبنان من أزمته. كثيرون ساهموا في بثّ هذا الاعتقاد، من وزير الطاقة إلى أحزاب سياسية، على رأسها حزب الله. في المقابل، بقيت أصوات قليلة بالكاد تُسمع من متخصّصين ومن أعضاء في هيئة إدارة البترول، تُحذّر من الإفراط في التفاؤل، انطلاقاً من مبدأ أن الإحداثيات تُرجّح وجود الغاز لكن هذا لا يعني أن الغاز موجود حكماً. مع ذلك، لم يسمع أحد عبارة "لكن" التي ظلت تُسمع بخجل. كانت الأنظار شاخصة نحو الاكتشاف الذي سيُغيّر وجه لبنان.
تزامن خبر عدم العثور على الغاز بكميات تجارية مع حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة أدّى إلى مضاعفة الشكوك. هل ثمّة علاقة بين الأمرين أم أن التوقيت محض صدفة؟ مصدر في هيئة إدارة البترول كان أبلغ "المفكرة القانونية" في 4 تشرين الأول، أي قبل 4 أيام من عملية طوفان الأقصى، أن الحفر كان وصل إلى 3500 متراً وأن أياماً تفصل عن الدخول إلى الطبقة المستهدفة أي "تمار C". المصدر كان أوضح أيضاً أن الحفر لن يصل إلى 4400 لأنه تبيّن أن تلك الطبقات أقلّ عمقاً مما كان متوقعاً. عند هذا الحدّ، انتهى الحلم النفطي، أو على الأقل أُجّل مرّة جديدة كما حصل عندما كُشف أن البئر الاستكشافية في البلوك رقم 4 كانت جافّة.
"الغاز كان موجوداً هنا"
في التفاصيل، تبيّن أن الحفر وصل إلى عمق 3905 أمتار تحت سطح البحر، وقد توقف بعد اختراق طبقة "تمار C" بكاملها و135 متراً من طبقة "تمار D"، وهما الطبقتين اللتين كان يرجح وجود الغاز فيهما. وبحسب مصادر في هيئة إدارة النفط فضّلت عدم الكشف عن اسمها، تشير المعطيات المستقاة من الحفر إلى أن هذه الطبقة كانت تحتوي بالفعل على الغاز لكن لأسباب جيولوجية قديمة لم تستطع حصر الغاز لعدم تكوّن طبقة عازلة ما أدّى إلى تسربه. وجود آثار للغاز تعامل معه المعنيّون بإيجابية مطلقة تشبه توفر الغاز فعلاً. وفي بيان لها، أشارت الهيئة إلى أن البيانات والعينات التي تمّ الاستحصال عليها من داخل البئر ستشكل أملا جديدا ومعطيات إيجابية لاستمرار عمليات الاستكشاف في البلوك 9 والبلوكات الأخرى، وبالأخصّ تلك المحيطة بالبلوك 9، كما أنها تعطي قوة دفع إضافية للاستكشاف في البحر اللبناني". وأكّدت الهيئة أن العمل سيتركز في الفترة المقبلة على "نمذَجة أدقّ لحوض قانا، بهدف تحديد الامتداد الجغرافي للمكامن المكتشفة داخله وفي المناطق المحيطة به، ورفع نسبة النجاح لتحقيق اكتشافات غازية مستقبلاً".
هل يمكن حفر بئر ثانية؟
صحيح أن العقد مع الائتلاف الذي تقوده "توتال" ويضم شركتي "إيني" و"قطر للبترول" يشير إلى ضرورة حفر بئر ثانية، لكن هذا الحفر لن يكون قريباً. أولاً لأن دراسة المعطيات والمعلومات التي استقيت من البئر ستحتاج إلى أشهر، وثانياً لأن الحفارة ما أن تم إغلاق البئر حتى انتقلت إلى قبرص حيث ستكون على موعد مع حفر بئر استكشافية في المياه القبرصية.
في مطلق الأحوال، فإن الشركة غير مقيدة بتاريخ قريب لحفر بئر ثانية. فالعقد يشير إلى افتراض حفر بئر ثانية قبل أيار 2025. مع ذلك، أعلن وزير الطاقة وليد فياض لوكالة "رويترز" أنه سيتم التفاوض مع "توتال" لحضّها على حفر البئر الثانية مع بداية العام الجديد. مع الإشارة إلى أن الالتزام بحفر البئر الثانية هو التزام نظري يمكن للشركة تخطيه بحيث ستخسر عندها مبلغ الضمان الذي لا يزيد عن 500 ألف دولار.
هيئة البترول: لا مجال للتشكيك بنتيجة الحفر
قبل الانتقال إلى مرحلة التسليم بالنتائج والبحث في الخطوة التالية، هل فعلاً كانت البئر فارغة؟
بالنسبة لوزير الطاقة، كما هيئة النفط، لا إمكانية للتشكيك في نتيجة الحفر، لأسباب عديدة منها:
- إنّ الفريق التقني في الوزارة وفي هيئة ادارة قطاع البترول يراقب 24 على مدار الساعة، عبر البثّ المباشر، كل المعطيات وبنفس التوقيت مع الحفّارة. كما أن لديهما القدرات والطاقات البشرية اللبنانية الكافية الكفيلة بمواكبة النتائج.
- الكلفة العالية للاستكشاف والتي وصلت إلى 120 مليون دولار، والتي لا يمكن أن تكون شركات بحجم توتال وإيني وقطر للبترول قادرة على التضحية بها، على معطيات لا ترجح وجود مكامن غازية.
- كما حصل في البلوك رقم 4، فإن تخلي توتال عن البلوك (أعادته إلى الدولة في 22 تشرين الأول الحالي)، يعني خسارة المبلغ الذي دفعته للاسكتشاف من دون فرصة لتعويضه، والأهم أنه سيعني إمكانية التعاقد مع شركات أخرى لن يكون صعباً عليها اكتشاف عدم صحة ما سبق إعلانه.
Serravallian: طبقة جيولوجية خاصة بلبنان
وكانت الهيئة قد أصدرت بياناً أوضحت فيه أنه تمّ من خلال الحفر اختراق الطبقات الجيولوجية المستهدفة وتأكيد وجود مكمن بنوعية جيدة يحتوي على الغاز في الطبقة الخاصة بلبنان، والتي لم يتم اكتشاف مكامن فيها في الحوض المشرقي بعد (طبقة Serravallian، وهي تلي طبقة الملح التي يبلغ عمقها نحو ألف متر وتقع على عمق 3248 متراً، كما تسبق الطبقات التي كانت مستهدفة منذ البداية أي تمار A وB وC وD). أضاف: إن اكتشاف هذا المكمن في حوض قانا يوجب إجراء دراسة موسّعة لفهم أعمق يسمح برسم خارطة لهذا النوع من المكامن في هذا الحوض وعلى امتداد البلوك 9 والبلوكات المحيطة بهدف تحديد أماكن المكامن التي يمكن أن تحتوي موادّ هيدروكاربونية بكميات تجارية.
هل تعرض لبنان لخديعة؟
هذه المعطيات التي يعتبرها البعض متينة وتؤكد صدق ما أعلنت عنه توتال لا يقنع كثراً في المقابل. لكن أولاً لا بد من الإشارة إلى اعتراف مصادر الهيئة أن الدراسات الجيولوجية والنموذج الذي اعتمدته توتال لدراسة هذه الجيولوجيا لم يكن سليماً. فتقديرها لعمق الطبقات كان مخالفاً للواقع (لهذا أشارت في بيانها إلى أن العمل سيتركز في الفترة المقبلة علي "نمذَجة أدقّ لحوض قانا").
في الجلسة التي عقدتها لجنة الأشغال العامة، في 19 تشرين الأول الجاري، كان جلياً الانقسام حيال تقرير الشركة. الانقسام والشكوك منطقية لكن ما لم يكن منطقياً كان مساعي عدد من النواب لتقديم نصائح للشركة عن طريقة الحفر والآليات التي يجب أن تتّبع. في ختام الجلسة لم يستقر أعضاؤها على رأي واحد.
عدم المقتنعين بما أعلن يمكن تقسيمهم إلى فئتين:
- الفئة الأولى هي التي تجاهر بقناعتها أنه منذ البدء كانت "توتال" تدرك أن لا غاز في البلوك رقم 9. وهي لذلك كانت استبعدت الحفر فيه، لكن ما غيّر كل المعطيات كان الترسيم الحدودي. ببساطة يسأل النائب ميشال ضاهر عبر "المفكرة القانونية": لماذا بدأ الحفر في البلوك 9 وليس 8 أو 10، ليجيب بنفسه لأن الترسيم كان هو الهدف. ويضيف: إذا كانت ال 120 مليون دولار كلفة الترسيم فهي كلفة زهيدة. ومع استبعاده أن تكون "توتال" قد دفعت المبلغ، فهو يسأل من دفعه إذاً؟ ليخلص إلى أن الحفر كان بغاية الترسيم لا بهدف اكتشاف الغاز. ولا يكتفي بالتشكيك بأسباب الحفر بل يذهب إلى التشكيك أيضاً بتوقيت الإعلان عن عدم وجود الغاز. فهو يعتبر أن تزامن الإعلان مع الحرب على غزة والتهديدات للبنان هو جزء من المعركة، وإلا كان بالإمكان تأجيل الإعلان عن الاكتشاف أو الاكتفاء بالإعلان عن بوادر إيجابية منعاً لاتهامها بالخديعة قبل إعلان خلو المكمن من الغاز لكن "توتال" لم تهتم.
- الفئة الثانية هي التي تبدو متأكدة من وجود الغاز وتشكك في خلفيات إعلان الشركة، ومن هؤلاء النائب حسين الحاج حسن، الذي كان أكثر من طرح الأسئلة في جلسة "الأشغال العامة". ومن هذه الأسئلة: كم مرة لم تتطابق الدراسات مع الواقع؟ كم مرة توقف الحفر قبل 300 متر العمق المنشود؟ وكم مرة أعلنت "توتال" في العالم أنّ الأمور واعدة قبل أن يتبيّن وجود أي اكتشاف؟ لماذا هذه الأمور تحصل في لبنان فقط؟ أليس صحيحاً أن الشركة طلبت قبل أسبوع واحد من إعلانها التوقف عن العمل تسهيلات لعملها والتنقل جواً وبحراً إلى موقع الحفر مع طلبها زيادة عدد الموظفين، فما الذي حصل بعد أسبوع؟ هل صحيح أنه حتى اليوم لم يؤكد تقرير الشركة عن أعمال الحفر في البلوك رقم 4 أو ينفي وجود الغاز في المكمن؟
هذه الأسئلة وغيرها طُلب من هيئة إدارة البترول الإجابة عليها في الاجتماع الذي عقدته لجنة الأشغال النيابية أمس، حيث عمدت الهيئة إلى تقديم عرض عام عن مسار الاستكشاف في منطقة الحوض الشرقي للبحر المتوسط. كما أكّدت على عدم إمكانية التلاعب بالمعطيات التي تصل بشكل لحظوي إلى الهيئة، مع الإشارة، في الوقت نفسه، على وجوب إعادة النظر بنموذج الحفر الذي سبق أن اعتمدته "توتال" (يختلف عمق الطبقات بين الدراسات والواقع بنحو 100 متر). كما أعادت التعميم أن دورة التراخيص الثانية كانت تهدف إلى تكثيف أعمال الاستكشاف في المياه البحريّة اللبنانيّة ورفع عامل الجذب وزيادة عنصر التنافس بين الشركات. بما يعيد الإيحاء بأن اكتشاف الغاز لم يكن أولوية بالنسبة للمعنيين، وهو ما يتناقض مع واقع أن الكثير من المسؤولين لطالما باعوا الأمل للبنانيين بأن البلوك رقم 9 تحديداً هو الكنز الموعود. وهذا الأمل كان تجدد أمس على لسان رئيس لجنة الأشغال سجيع عطية الذي أكد أن الدلائل العلمية التي قدمتها الهيئة تؤكد أن كل المعطيات التقنية كانت تخضع لمتابعة جدية من قبلها. أضاف: "خرجنا بنتائج جيولوجية جيدة، المخزون لم يكن مناسباً ليكون تجارياً، ولكن أصبح لدينا داتا كافية للانطلاق بحفر آبار جديدة سواء في البلوك رقم 9 أو 8 أو 10".