لجنة المال تراوغ: ملاحظات رئيس الجمهورية أُقرّت… لم تُقرّ

إيلي الفرزلي

12/10/2022

انشر المقال

انتظر مجلس النواب 40 يوماً ليناقش ردّ رئيس الجمهورية ميشال عون لمشروع قانون السرية المصرفية (31 آب 2022). إذ عقدت لجنة المال النيابية أمس جلسة انتهت بإقرار تعديلات مُبهمة على النصّ الذي أقرّته الهيئة العامة في 26 تموز 2022، على أن تُعرض مجدداً على الهيئة العامة للبتّ بها. فأيّ من النواب المشاركين في الجلسة لم يكن قادراً على حصر كل التعديلات أو توضيح ما آلت إليه التعديلات النهائية، مكتفياً بالإشارة إلى أنها ستُبتّ في التقرير الذي يحيله رئيس اللجنة ابراهيم كنعان إلى الهيئة العامة، بناء على ملاحظات النواب.

اللافت أن هذه الآلية بدأت تتحول إلى نهج يعتمده المجلس النيابي إن كان في اللجان أو في الهيئة العامة. يجتمع النواب ساعات طويلة ثم يخرجون من دون أن يعرفوا ماذا أقروا أو على ماذا صوتوا، تاركين الصياغة لرئاسة اللجنة أو المجلس كما حصل أثناء إقرار الموازنة العامة.

بالنتيجة، سيُعرض مشروع قانون السرية المصرفية مع التعديلات الجديدة على الهيئة العامة للمرة الثالثة. فالمجلس سبق أن أقرّ اقتراحا بهذا الشأن في أيار 2020، لكن رئيس الجمهورية ردّه في حزيران من العام نفسه، على خلفية تفريغه من محتواه بفعل تجريد النيابات العامة من صلاحية رفع السرية المصرفية. بعدها انتظرت لجنة المال والموازنة سنة و4 أشهر، انتهت من درس مرسوم الردّ (تشرين الأول 2021) وقد تخلل عملها مسعى لإظهار تجاوب وهمي مع ملاحظات رئيس الجمهورية، لكن القانون لم يصل إلى الهيئة العامة قبل تموز 2022، حيث تمّ دمجه بمشروع قانون تقدمت به الحكومة في الإطار نفسه بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي، وخضع هو الآخر لتعديلات هامة في لجنة المال والموازنة. وقد عادت الهيئة العامة لتقرّ مشروع القانون بعد تفريغه من الكثير من مضمونه الأصلي في جلسة تموز 2022. وقد عاد هنا أيضا رئيس الجمهورية ليردّ في مرسوم الردّ. وقد نشر في الآن نفسه رأي قانوني لصندوق النقد الدولي. 

خسارة سنتين ونصف لم يكن بريئاً. فالممانعة النيابية إزاء إحراز أيّ تقدّم حقيقي في هذا المجال كانت جلية، وتمثلت في الإصرار على تفخيخ نص القانون في كل مرة أقرّ فيها، بما يؤدي إلى تفريغه من مضمونه، فكانت النتيجة رفضه مرتين من قبل صندوق النقد، وردّه مرتين من قبل رئيس الجمهورية. 

هذه المحاولات لم تتوقف أمس. بدا النقاش كما لو أنه استمرار لنقاشات طويلة حصلت سابقاً في اللجنة كما في الهيئة العامة. لكنها هذه المرة، يفترض أنها كانت محاصرة بحدّين كرّسهما ردّ رئيس الجمهورية ورسالة صندوق النقد الدولي اللذين رفضا الصيغة التي أقر بها القانون. وهما حدّان يصعّبان محاولات تفريغ القانون من مضمونه نظرياً، لكن مع ذلك لم تتوقف هذه المحاولات في اللجنة، تارة بحجة أن الصندوق ليس مطّلعاً كفاية على القوانين اللبنانية، وتارة أخرى بالإشارة إلى أن رئيس الجمهورية تبنّى ملاحظات الصندوق من دون تدقيق. علماً أن كنعان أبلغ أعضاء اللجنة، في بداية الجلسة، أنه بقي حتى منتصف الليل على تواصل مع ممثلي الصندوق للاتفاق على التعديلات.

هذا التفسير بالرغم من أنه لم يشهد اعتراضاً في اللجنة، إلا أنه يؤكد مرة جديدة السعي المستمر لتضييق صلاحية القضاء. وكانت المفكرة القانونية قد تطرقت إلى مسألة الرد في مقال مفصّل، مشيرة إلى أن عبارة "القضاء المختص في دعاوى التحقيق" تعني أن اختصاص القضاء لا ينعقد إلا في حال وجود دعوى، مما قد يقصي صلاحية النيابات العامة في إطار الاستقصاء عن الجرائم تمهيدا للادعاء عند الاقتضاء. علماً أنه أثناء المناقشات النيابية تمّ ربط الصلاحية القضائية بالجرائم المالية المعددة في المادة 19 من أصول المحاكمات الجزائية والتي يعود اختصاص الادعاء بشأنها للنيابة العامة المالية. ومن شأن هذه الإحالة أن تفتح باباً واسعاً لحصر المرجعية القضائية في تحريك دعاوى الحق العام بالنائب العام المالي طالما أن هذه المادة تنصّ على أنه المرجع الصالح لملاحقة هذه الجرائم. 

أمام هذا الواقع، كان رد الرئيس واضحاً في التأكيد على أن "ثمة ضرورة بأن يتمّ تمكين النيابة العامة من الوصول إلى المعلومات التي تسمح لها بتكوين الملفّ قبل إحالته إلى قضاء التحقيق، طالما أن المحاكمات الجزائية تبدأ بالادعاء العام". لكن يبدو أنه كان لدى اللجنة رأي آخر.

رئيس الجمهورية كان طلب أيضاً إضافة كل من: لجنة الرقابة على المصارف، مؤسسة ضمان الودائع ومصرف لبنان إلى الجهات التي يحق لها طلب رفع السرية المصرفية (كان يحقّ لها طلب رفع السرية بموجب مشروع القانون الحكومي الذي تبنى مطالب صندوق الدولي، لكن اللجنة أصرت في حينه على إلغاء هذا الحق وهو ما أيدته الهيئة العامة، بالرغم من محاولات نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي التأكيد على أهمية شمولها). واعتبر عون أن ذلك ضروري للتمكن من القيام بمهامها، لاسيما أن مسببات الأزمة الاقتصادية والمالية لا تنحصر بالجرائم المالية بل تشمل أيضاً مخالفات متعددة ومتمادية للأحكام القانونية. 

وكي لا يستغل الغموض في النص لعرقلة تطبيق القانون ("صوغ نصوص القانون بصورة واضحة تأميناً لتطبيقه بصورة سليمة وتلقائية") طلب عون تمكين هذه المراجع طلب المعلومات إلى المصارف مباشرة ومن دون المرور بأي مرجع قضائي أو إداري". وهذا الطلب يؤكد على ما ذهبت إليه المفكرة من أن نص القانون يحيل بطريقة مواربة معظم الطلبات إلى هيئة التحقيق الخاصة. إلا أن هذه النقطة ظلت عالقة، في ظل إضاءة البعض على إمكانية استغلال أي موظف للطلب التلقائي للمعلومات بصورة مسيئة للأشخاص، متغاضين عن حقيقة أنه لا يمكن لأي إدارة أن تطلب رفع السرية إلا ضمن اختصاصها. ولذلك، ترك أمر البت بها إلى الهيئة العامة، على أن تعرض أمام النواب ثلاثة اقتراحات: إما ترك الأمر على حاله بحيث يحقّ لهذه الجهات طلب المعلومات من دون قيود، أو ربط طلب المعلومات بعملية إعادة هيكلة المصارف، أو أن يتم الطلب عبر قضاء العجلة، مع اقتراح آلية اعتراض للمتضررين أمام مجلس شورى الدولة.  

الإشارة إلى المفعول الرجعي هو الوحيد الذي سلك طريقه من دون اعتراض، بالرغم من أنه لزوم ما لا يلزم، إذ سبق أن أكّدت المفكرة أنه مطبّق فعلاً ومن دون الحاجة إلى ذكره. علماً أن رئيس اللجنة كان من الموقّعين على اقتراح قانون بهذا الصدد. هذا مع العلم أن الصياغة النهائية لم تعلن بعد وهي تحتاج إلى تدقيق خشية أن يكون إعلان المفعول الرجعي قد ترافق مع وضع ضوابط من شأنها تكريس عدم الرجعية تحت غطاء إعلان الرجعية. وهذا ما يجدر التدقيق فيه فور وضع النص النهائي قيد التداول.