لجنة المال والموازنة أو الحارس الأمين للسرية المصرفية: سوء النية في التشريع نموذجا
16/10/2022
دعا رئيس مجلس النواب الهيئة العامة إلى جلسة تشريعية يوم الثلاثاء القادم، تعقب جلسة انتخاب أعضاء اللجان النيابية. ومن أهم البنود التشريعية الواردة على جدول أعمال الهيئة مشروع قانون السرية المصرفية كما عدّلته لجنة المال والموازنة تبعا لردّه من رئيس الجمهورية ميشال عون ولملاحظات صندوق النقد الدولي عليه. إلا أن التدقيق في النسخة المنجزة من اللجنة يبيّن بوضوح أنّها تسعى من خلالها إلى معالجة الاتهامات الموجهة إليها بوضع صياغات معقّدة ومبهمة من خلال اقتراح صياغات أكثر تعقيدا وإبهاما، مؤداها تكريس السّرية المصرفية أو على الأقل إبقاؤها محمية بدرجة كبيرة تحت شعارات رفعها. وبكلمة أخرى، أجابت لجنة المال والموازنة على اتهامها بسوء النية بمزيد من سوء النية، غير عابئة بما قد يستتبع سلوكها ذاك من نتائج كارثية على صعيد عدالة التشريع وملاءمته والعدالة الاجتماعية، هذا من دون الحديث عن انعكاسه السلبي على صعيد حظوظ لبنان في إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وقبل المضي في تبيان تفاصيل هذه الصياغة، يجدر التذكير بأربعة أمور:
- إن السرية المصرفية طالما شكّلت ما يشبه البئر العميق التي تتوارى في عمقها جرائم الفساد والإثراء غير المشروع الحاصلة خلال عقود ما بعد الحرب. ولهذا السبب، فإنّ المسّ بها ما يزال يشهد ممانعة قويّة من العديد من النواب والكتل النيابية. وأعيد وأكرّر هنا أن رفع السريّة المصرفيّة إنما بات يوازي من حيث رمزيّته الكشف عن المقابر الجماعيّة التي ما تزال تخفي جرائم حرب ال 15 سنة وهو الأمر الذي نجحت القوى السياسية المتورطة في الحرب حتى اليوم في منع حصوله. وما التأخير الحاصل في إنجاز التدقيق الجنائي على حسابات مصرف لبنان إلا دليلٌ آخر على حساسية هذه الأسرار وما تخفيه.
- منذ أقرّ لبنان اتفاقية مكافحة الفساد في 2008، وجد نفسه أمام استحقاق وضع آلية للحؤول دون تحول السرية المصرفية إلى عائق أمام مكافحة الفساد (المادتين 24 و40 من الاتفاقية). وعليه، منذ ذلك الحين، لم يعد من الممكن الدفاع عن حماية مطلقة للسرية المصرفية، الأمر الذي دفع المتضررين من رفعها إلى اعتماد أسلوب المخادعة والمواربة. فكأنما الخدعة باتت الطريقة الوحيدة لحماية السرية المصرفية بعدما فقد الدفاع عنها حججه ومقوّماته. وقد تجسدت المخادعة آنذاك في منح هيئة التحقيق الخاصة المنشأة داخل مصرف لبنان والتي يرأسها الحاكم احتكارا في رفع السرية في قضايا تبييض الأموال، بحيث أصبح الحاكم هو سيّد الأسرار المصرفية له وحده أن يرفعها أو يحجبها من دون أي رقيب أو حسيب. وقد زاد هذا النهج حدّة بعد الانهيار وبخاصّة أمام تشبّث صندوق النقد الدولي في اعتبار رفع السرية المصرفية جزءا لا يتجزأ من أي برنامج إصلاحي جدّي وموثوق، ليتأكد في سلسلة من التشريعات الصادرة بعد الانهيار، ومنها مشروع القانون الذي أعاده رئيس الجمهورية، انتهت كلها إلى تكريس احتكار هيئة التحقيق الخاصة بصور مختلفة غالبها مستتر ومخادع.
- أن الإجابة المعطاة من لجنة المال والموازنة ليست الأولى من نوعها، طالما أن رئيس الجمهورية كان أرسل في حزيران 2020 مرسوم إعادة لأول اقتراح قانون أقره المجلس النيابي احتجاجا على إنكار صلاحية النيابات العامة في رفع السرية المصرفية. آنذاك، أجابت لجنة المال والموازنة على مرسوم الإعادة بعد 16 شهرا بصياغة لا تخلو من سوء النية والتحايل ومؤداها إبقاء النيابات العامة مجردة من أي صلاحية فعلية في هذا الخصوص.
- إنّ النظر في هذا المشروع يتزامن مع انتخاب أعضاء اللجان النيابية للسنة القادمة، وهو استحقاق يجدر أن يأخذ بعين الاعتبار سلوكيات هذه اللجنة ورئاستها وانخراطها التامّ في مواجهة أي مسار أو مسعى من شأنه ضمان الحد الأدنى من العدالة في توزيع الخسائر.
انحياز وضبابية وتعتيم في عملية التشريع
في سياق درسها لملاحظات رئيس الجمهورية، لم تجدْ لجنة المال والموازنة حرجا في تظهير انحيازها لوجهات نظر جمعية المصارف ومصرف لبنان واللذين لا يفوّتان فرصة لإعلان تمسّكهما بالسرية المصرفية والحدّ من أي مسعى لتضييق مداها. وقد برز هذا الانحياز أولا في لائحة المدعوين لجلسة مناقشة الملاحظات بحيث اكتفت اللجنة في حصرها بوزارة المالية وجمعية المصارف، بالإضافة إلى هيئة التحقيق الخاصة داخل مصرف لبنان والتي يرأسها رياض سلامة نفسه. بالمقابل، تمّ تغييب نقابة المحامين في بيروت التي كانت شاركتْ بشخص رئيس لجنة حماية حقوق المودعين لديها كريم ضاهر والذي أدّى دورا هاما في لفت النظر إلى ثغرات المشروع وفي مواجهة المقترحات الهادفة إلى تفريغه من مضمونه.
فضلا عن ذلك، لم تحسم اللجنة إجاباتها على ملاحظات رئاسة الجمهورية إنما اكتفت في تسجيل آراء النواب والمدعوين حولها تاركةً لرئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان والمقرّبين منه هامشا واسعا في تحديدها وصياغتها. وبذلك، وعلى غرار ما حصل في مشروع موازنة سنة 2022، تضمنت الصيغة المقترحة خيارات عدّة، وبخاصة بما يتصل بأحقية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع طلب معلومات مصرفية وهي خيارات تُرك للهيئة العامة حسمها.
أسوأ من ذلك، يُسجّل أن اللجنة أغفلتْ عمدا أهمّ الملاحظات الرئاسية الواردة على مشروع القانون، لتركّز بالمقابل على الملاحظات الأقل الأهمية أو التي يمكنها صياغة إجابات مبهمة بشأنها. ومن أهم الملاحظات التي شملها التعتيم، الملاحظات المتصلة بمنح هيئات النيابات العامة والقضاء المختص مرجعية رفع السرية المصرفية، من دون المرور بأي مرجع قضائي أو إداري آخر. وهذا ما سنتوسع فيه أدناه.
وبالطبع، ما كان أمكن اللجنة أن تنحو هذا المنحى لولا مبدأ سرية مداولاتها.
اتجاه لتكريس احتكار هيئة التحقيق الخاصة لصلاحية رفع السرية المصرفية
كما سبق بيانه، استمرت اللجنة في نفس النهج في اتجاه تكريس احتكار هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها حاكم مصرف لبنان في رفع السرية المصرفية. وقد تمّ ذلك بطرق مختلفة أهمها تجاهل العديد من مطالب رئيس الجمهورية وصندوق النقد الدولي أو الالتفاف حولها كما نبيّن أدناه,
تجاهل مرجعية النيابات العامة في رفع السرية المصرفية في إطار الاستقصاء عن المعلومات
أكّد مرسوم الإعادة على وجوب تخويل النيابات العامة طلب المعلومات المصرفية في معرض استقصائها عن الجرائم. وهذا ما نقرأه بوضوح في مرسوم الإعادة حيث جاء أنّ "ثمة ضرورة بأن يتمّ تمكين النيابة العامة من الوصول إلى المعلومات التي تسمح لها بتكوين الملفّ قبل إحالته إلى قضاء التحقيق، طالما أن المحاكمات الجزائية تبدأ بالادّعاء العامّ". وقد جاء الردّ هنا اعتراضا على حصر مشروع القانون المُعاد سلطة القضاء في طلب معلومات مصرفية في "دعاوى التحقيق". فهذا المفهوم الغريب الذي لا نجد مثيلا له في قانون أصول المحاكمات الجزائية إنما يُشير إلى عدم إمكانية القضاء طلب معلومات إلا في حال وجود "دعوى تحقيق"، بمعنى أنه يمكنه ذلك فقط بعد إقامة الدعوى وليس في سياق الاستقصاء أو السعي لتكوين دعوى. وخطورة هذا الأمر تكمن في أنه يجرّد النيابات العامة من الحصول على معلومات تخولها مباشرة دعاوى الحق العام في الكثير من الجرائم المالية فضلا عن أنه يجعل النفاذ إلى الأسرار المصرفية المتصلة بالموظفين العامين وقفا على الحصول على إذن مسبق بالملاحقة من رئيسهم الإداري، طالما أن الدعوى لا تعدّ منعقدة أصولا إلا بعد الحصول على هذا الإذن.
ورغم أهمية هذه المسألة، لا نجد في تقرير لجنة المال والموازنة أيّ إشارة أو حتى تلميح إليها، مما يؤشّر إلى إرادة متعمدة بتهميشها. وهذا ما يتأكّد من الفقرة المُضافة إلى الأسباب المُوجبة للقانون التي عادت وأغفلتها في سياق تعداد أسباب إعادة القانون في خاتمتها.
تجاهل مرجعية الهيئات القضائية المختصة في الحصول على معلومات مصرفية من دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة
الأمر الثاني الذي تعمّدت لجنة المال والموازنة تجاهله هو تخويل القضاء طلب المعلومات المصرفية من دون الحاجة للمرور بأيّ مرجع قضائيّ أو إداريّ آخر. وقد جاءت ملاحظات رئيس الجمهورية والصندوق هنا ردّا على فرض هيئة التحقيق الخاصّة كمعبر ضروري للقضاء في الكثير من الحالات. وقد تحقّق ذلك بشكل خاص من خلال ربط صلاحية القضاء في طلب المعلومات المصرفية في قضايا الإثراء غير المشروع بالإجراءات المحددة في قانون الإثراء غير المشروع ومنها أن أصول الاستقصاء تتم وفق الأصول المحددة في قانون مكافحة الفساد في القطاع العام، والتي تفرض توجيه طلبات المعلومات المصرفية إلى المصارف من خلال هيئة التحقيق الخاصة. وقد أبدى مرسوم الإعادة تبرّمه من هذه الحيل من خلال تأكيده على ضرورة “صوغ نصوص القانون بصورة واضحة تأمينا لتطبيقه بصورة سليمة وتلقائية، وذلك من خلال تمكين هذه المراجع صلاحية طلب المعلومات إلى المصارف مباشرة ومن دون المرور بأي مرجع قضائي أو إداري". وهذا أيضا ما ذهب إليه صندوق النقد الدولي الذي أكّد على أهمية تضمين القانون بندًا صريحًا يخوّل صراحة السلطات القضائية المختصة (نيابات عامة وقضاة تحقيق) طلب المعلومات المصرفية مباشرة. وقد اعتبر الصندوق أن إضافة نصّ صريح في هذا الشأن يشكل ضمانة أساسية لتطبيق القانون فعليا.
ورغم أهمية هذه المسألة، لا نجد في تقرير لجنة المال والموازنة أيّ إشارة أو حتى تلميح إليها، تماما كما أوضحنا بشأن مرجعية النيابة العامة.
الالتفاف حول مرجعية الهيئات المصرفية
فضلا عن ذلك، نصّ مرسوم الإعادة على ضرورة منح الصلاحية نفسها للهيئات المصرفية المعينة (لجنة الرقابة على المصارف، مصرف لبنان، المؤسسة الوطنية لضمان الودائع) طالما أن الأزمة لم تنشأ فقط عن الجرائم المالية إنما أيضا عن مخالفات مصرفية متعدّدة ومزمنة. وهذا ما أثنى عليه صندوق النقد الدولي.
وفي حين ورد سبب الردّ هذا في مرسوم الإعادة بعد السبب المتّصل بإنكار صلاحيات النيابة العامة، فإن التقرير أفرد له حيزا واسعا معتبرا إياه السبب الأساسي للإعادة. إلا أنه ورغم ذلك، ورغم كون هذه الهيئات في غالبها مرتبطة بمصرف لبنان وجمعية المصارف، فإن اللجنة بقيت حذرة ومترددة في منحها صلاحية غير مقيدة لرفع السرية المصرفية. وقد عمدت هنا اللجنة إلى تقييد هذا الحق من زوايا ثلاث:
- ربطه بحاجات إعادة هيكلة المصارف. ويفهم من ذلك أن الصلاحية لا تتصل بالمخالفات المصرفية إنما فقط بالحاجات الآنية لإعادة هيكلة المصارف. كما يفهم منها أن هذه الهيئات تفقد هذه الصلاحية فور الانتهاء من عملية إعادة الهيكلة،
- جعل المعلومات المطلوبة معلومات عامة لا تتصل بحساب أو عميل معين،
- فتح باب الاعتراض على الطلب الوارد من هذه الهيئات من قبل الأشخاص المعنيين أمام القضاء المستعجل مع الإشارة إلى أن الاعتراض يوقف نفاذ الطلب. وقد وضعت اللجنة هذا الضابط ضمن التعديلات المقترحة منها على أنه اختياري فقط. واللافت هنا أن اللجنة التي عمدت إلى تهميش دور القضاء في طلب المعلومات، أعادت للقضاء دوره في وقف طلبات المعلومات، فكأنها تتصور القضاء على أنه مرجع لحماية السرية المصرفية أكثر مما هو مرجع للتحقيق في الجرائم التي تخفيها. كما من اللافت أن لجنة المال والموازنة نصت على وقف نفاذ الطلبات في حال الاعتراض وذلك خلافا لمبادئ القانون الإداري التي تعدّ القرارات الإدارية نافذة ما لم يقرّر القضاء وقف تنفيذها.
وفي مقابل تضييق مرجعية هذه الهيئات، استبعدت اللجنة توجّهين آخرين تمّ الإدلاء بهما أثناء مداولاتها وهما الوحيدين اللذين يمنحان هذه الهيئات صلاحيات فعلية في هذا الشأن. هذان التوجهان يقومان إما على إعطاء هذه الهيئات صلاحية مطلقة غير مقيدة بطلب معلومات مصرفية وإما على إعطائها صلاحية غير مقيدة تشمل الحسابات الشخصية إنما فقط لحاجات إعادة هيكلة المصارف. وفي حين استبعدت اللجنة التوجه المطلقة مبررة ذلك بأن إلغاء قانون السرية المصرفية أفضل من هذا الخيار، فإنها استبعدت التوجه الثاني من دون هنا أيضا أي شرح أو تفسير.
يضاف إلى ذلك تجاهل مرجعية السلطات الضريبية. ففي حين انتقد صندوق النقد الدولي ربط صلاحية السلطات الضريبية بقضايا مكافحة التهرب الضريبي، معتبرا أن مهمة تحصيل الضرائب تتطلب توسيع صلاحيات هذه السلطات لتشمل المعلومات المصرفية والتدقيق فيها، وضمنا المعلومات التي لا توجد بشأنها أي شبهة تهرب ضريبي. إلا أن اللجنة تجاهلت تماما هذه الملاحظة.
رجعية القانون
في هذا الخصوص، نصّ مرسوم الإعادة على وجوب الرجوع بتاريخ بدء تطبيق أحكام القانون إلى فترة تغطّي على الأقلّ المدى الزمني المسبّب للأزمة. وقد ذهب المرسوم أبعد من ذلك في ما يتّصل بالعاملين في الشأن العام، حيث أكّد على وجوب الرجوع بالنسبة إلى هؤلاء في تطبيق القانون ليشمل فترة ممارسة مهامّهم من بدايتها إلى ما بعد تاريخ استقالتهم أو انتهاء خدماتهم أو إحالتهم إلى التقاعد. وتجدر الإشارة إلى أن اعتراض الرئيس بدا هنا، وبخلاف اعتراضاته السابقة، مبنيًا على تشخيص خاطئ أو توجّس مبالغ به، مفاده أن القانون لا يطبق على الحسابات القديمة إلا في حال نص صراحة على ذلك. فتطبيق مبدأ عدم رجعية القوانين ينحصر في الحالات التي تنشئ جرائم جديدة أو تشدّد عقوبات على جرائم سابقة، في حين أنّ القانون الآيل إلى إلغاء جرم أو تضييق حالاته (جرم إفشاء السرية) أو المتصل بوسائل الإثبات أو الاطلاع على مستندات، ينطبق فور صدوره وبصورة رجعية ومن دون الحاجة لذكر ذلك صراحة. فمثلا، إذا نص قانون جديد على أصول لتفتيش المنازل من دون ورود نصّ صريح على رجعيته، لا يتخيّل أنه يطبّق فقط على تفتيش المنازل التي يتمّ تشييدها بعد صدوره بل يطبّق فور نفاذه على جميع المنازل بمعزل عن تاريخ إنشائها ويكون أي قول معاكس مجرّد عبث. وهذا تحديدًا ما ذهب إليه الرأي القانونيّ الصادر عن صندوق النقد الدولي الذي ذكر أن القانون يكون من حيث المبدأ قابلا للتطبيق على الحسابات والقيود السابقة أبضا طالما أنه لا يرتّب أي التزامات عن الماضي، حتى ولو لم يتضمن نصّا صريحا بهذا الشأن وإن انتهى إلى الترحيب بوضع نص صريح بهذا الشأن منعا لمزيد من اللغط.
إلا أنه هنا أيضا برز سوء النية لدى اللجنة. فبدل أن تنصّ على ذلك صراحة، عمدت إلى خلط هذه المسألة (أي مسألة المفعول الرجعي) بالمسألة الثانية الواردة في مرسوم الإعادة وهي وجوب رفع السرية عن حسابات الموظفين العامين منذ بدء ممارسة مهامهم وحتى لسنوات بعد إنهائها. وعليه، وبدل أن تؤكد اللجنة على رجعية تطبيق هذا القانون على جميع القيود المصرفية، فإنها على العكس من ذلك أفتت بعدم سريان مبدأ عدم رجعية القوانبن على الموظفين العامبن ورؤساء الجمعيات السياسية والمرشحين للانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية حصرا. وكأنها تعلن عن طريق الاستدلال العكسي أن مجمل الفئات الأخرى تستفيد من مبدأ عدم الرجعية خلافا للمنطق والمبادئ القانونية. وما يزيد من قابلية توجّهها للانتقاد هو 4 أمور: (1) أنها أبقت اللغط قائما بشأن إمكانية تطبيق المفعول الرجعي على أصحاب المصارف ومدرائها وهي الفئة التي يجدر إخضاع حساباتها لأقصى درجات الشفافية أكثر من أي فئة أخرى وذلك على غرار ما كانت فعلته في 2020، و(2) أنها بعدما رفعت السرية المصرفية عن هؤلاء، عادت لتربطها بفعل صياغة معقدة بقوانين الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال ومكافحة الفساد في القطاع العام، لننتهي مجددا إلى تكريس وجوب المرور من خلال هيئة التحقيق الخاصة، و(3) أنها وسعت مدى تطبيق هذه المادة ليشمل أفرادا من عوائل رؤساء الجمعيات السياسية من دون أن يشمل مجمل الموظفين العامين أو المرشحين لنيل وكالة عامة، و(4) أنها أوضحت أن رفع السرية المصرفية ينطبق ليس فقط على الأشخاص الذين هم حاليا موظفون عامون أو رؤساء جمعيات سياسية ولكن أيضا على مجمل الذين تولوا مسؤوليات فيها منذ تاريخ 22 تشرين الثاني 1989. وما يثير الانتقاد هنا هو التاريخ الذي تمّ اختياره، وهو تاريخ اغتيال رئيس الجمهورية الراحل رينيه معوض. فكأنما اللجنة تعلن ضمنا ومن دون أي تفسير أن أسباب الأزمة المالية تعود من وجهة نظرها إلى هذا التاريخ.
إبقاء عقوبة السجن على إفشاء السرية المصرفية
أخيرا، عمدت اللجنة إلى تخفيض العقوبة المترتبة على جرم إفشاء الأسرار المصرفية ضمن التعديلات المقترحة منها، في سياق ردّها على ملاحظات صندوق النقد الدولي. وفي حين أن الصندوق رأى أن اعتماد عقوبة حبس تصل إلى سنة لمن يفشي الأسرار المصرفية إنما يشكل عاملا رادعا ومعطلا للقانون الذي يرمي على العكس من ذلك إلى توسيع حالات الكشف عن المعلومات المصرفية، أبدت اللجنة هنا أيضا ترددها في قبول هذه الملاحظة من خلال تخفيف عقوبة الحبس القصوى من سنة إلى 3 أشهر، من دون أن تلغيها بالكامل.
خلاصة
مما تقدّم، يتبدّى بوضوح أنّ لجنة المال والموازنة تواصل نهجها السابق في تفريغ مشروع قانون السرية المصرفية من مضمونه وأنها لا تتردّد لهذه الغاية عن اعتماد أساليب التعمية والتعتيم وسوء النية، في مواجهة رئيس الجمهورية كما في مواجهة صندوق النقد الدولي والأهم في تنكر التامّ لمصالح المجتمع. يبقى أن نـأمل أن تلقى هذه اللجنة من يردعها عن غيّها أو يسائلها عنه من داخل المجلس أو من خارجه. فلنراقب ما تحمله جلسة الهيئة العامة للمجلس الثلاثاء القادم إلينا.
للاطلاع على مشروع القانون اضغط/ي هنا