مجلس النواب يقرّ قانون المفقودين والمخفيين قسرا: منعطف أساسي في ذاكرة الحرب اللبنانية
12/11/2018
"
أمس، أقرّ المجلس النيابي اللبناني بعد نقاش استمرّ زهاء ساعة ونصف اقتراح القانون حول المفقودين والمخفيين قسرا. وبذلك، تكون جمعية أهالي المخطوفين والمفقودين خطت خطوة إضافية في مسيرتها الطويلة التي وصفتها "المفكرة" في عددها الخاص بهذا الشأن، بالمقاومة الأصيلة. بمعزل عن المراحل التي قطعها هذا الاقتراح والنقاشات التي دارت أمس والتي سننشر عنها تباعا مقالات كثيرة، اقتضى الإسراع في تسجيل أربع ملاحظات أساسية:
- أن هذا القانون يكرس صراحة حقا أساسيا جديدا هو "حق المعرفة" لذوي المفقودين والمخفيين قسرا. وهو يشكل من هذه الزاوية وثيقة بالغة الأهمية على أساس إعلان الحقوق الأساسية أو إنشائها. وكان مجلس شورى الدولة قد كرس في حكمه الشهير الصادر في 4 آذار 2014 هذا الحق، بعدما استنبطه من مجموعة من الحقوق، أبرزها حقوق الإنسان بالحياة والحياة الكريمة وبمدفن لائق، وحق العائلة باحترام الأسس العائلية وجمع شملها، وحق الطفل بالرعاية الأسرية والعاطفية والحياة المستقرة، وهي حقوق كرّستها المواثيق والشرائع الدولية التي انضم اليها لبنان. وقد وصل المجلس آنذاك إلى اعتبار هذا الحق حقا طبيعيا. ومؤدى هذا الحق هو تحميل كل شخص يعرف مسؤولية الإفصاح عما يعرفه للهيئة المستقلة المنشأة بموجب هذا القانون، تحت طائلة المساءلة.
- أن هذا القانون يشكل تصحيحا هاما ذات رمزية هائلة بالنسبة إلى التشريعات المتصلة بجرائم الحرب. فالخيار المتخذ غداة الحرب تمثل ليس فقط في طمس المسؤوليات الجزائية من خلال العفو (وهذا أمر يمكن فهمه) إنما قبل كل شيء في طمس الحقائق والذاكرة وحقوق الضحايا. وعليه، تمّ منح العفو للمرتكبين من دون اتخاذ أي تدبير لتكريس الحقيقة أو تصحيح حقوق الضحايا وجبر ضررهم. وهكذا استفاد المسؤولون عن جرائم الحرب من العفو من دون تكليفهم أو حتى مطالبتهم بالإسهام في حل قضايا المفقودين أو في التعريف عن مصائرهم. وقد جاء القانون الجديد بمثابة تصحيح لهذا الاتجاه: فمن دون المس بالعفو (وهو شرط يمكن فهمه للمصالحة وتجاوز الماضي)، تم إقرار حقوق الضحايا ووضع آليات لجبر أضرارهم. وعليه، وبعدما اختار مشرع 1991 أن يعالج مخلفات الحرب بالنسيان من دون الاحتكام إلى أدنى شروط العدالة، أتى مشرع 2018 ليكرس العدالة القائمة على ترميم الضحايا وإن أبقى قانون العفو بما يعكسه من تنازل عن العدالة الجزائية قائما.
ولا يرد على ذلك بأن المادة 37 الجدلية منه التي تجرم الاختفاء القسري، تعيد النظر بقانون العفو أو تعيد فتح ملفات جرائم الحرب. فعدا عن أن المادة لا تضيف شيئا إلى القانون الحالي الذي يعتبر جرائم الإخفاء مستمرة وتاليا غير خاضعة لعفو 1991، فإن بإمكان أي من الأشخاص الملاحقين بهذا الجرم إبطال التعقبات بحقه على أساس قانون العفو (قبل كما بعد إقرار المادة 37)، في حال وفقط في حال أثبت وفاة المخفي قسرا قبل صدور هذا القانون. من هذه الزاوية، تظهر المادة 37 على أنها ضمانة إضافية لحق المعرفة لضحايا الحرب (الذين قضوا قبل صدور قانون العفو)، أكثر مما هي باب لمحاسبة جرائم الحرب.
- أن هذا القانون يبرز، من خلال التعريف بمصائر المفقودين، وجها منسيا تم طمسه من وجوه الحرب، وجه الضحايا الذين قضوا فيها. وهو من هذا المنطلق، يشكل خارطة طريق لتنقية ذاكرتنا وتوحيدها. ففيما تكاد تكون اليوم ذاكرة اللبنانيين ذاكرة أبطال (ذاكرة أمراء الحرب الذين تحولوا في غالبهم إلى زعماء السلم)، ذاكرة طائفية وانتقائية بما يزيد الانقسام والاستقطاب، يؤمل أن يقودنا هذا القانون في حال حسن تطبيقه، في اتجاه معاكس تماما، أي في اتجاه تذكّر معاناة الضحايا ومآسيهم. وعليه، وبدل أن يكون عمل التذكر هذا مدعاة خوف من تجدد الحزازيات الطائفية، يؤمل أن يقودنا بما يثيره من اضطراب ضميري ومشاعر انسانية، إلى التلاقي والتعاطف المتبادل، في اتجاه صوغ ذاكرة توحيدية وطنية جامعة.
- أن هذا القانون يؤدي إلى تكريس القرار القضائي الصادر عن مجلس شورى الدولة في 2014 والمشار إليه أعلاه. وهو من هذه الزاوية، يشكل دليلا بليغا على دور القضاء في تصحيح العمل التشريعي وإنضاجه وترشيده، وخاصة في القضايا التي ترشح عن حساسية معينة.
فهنيئا لأهالي المفقودين، للبنان إقرار هذا القانون. وتبقى "المفكرة" على موعد مع بدء معركة تنفيذه.
"