فدرلة إنتاج الكهرباء؟ أو التطبيع مع اللادولة وموتورات الموت

رين ابراهيم

14/05/2025

انشر المقال

تقدّم عددٌ من نواب كتلة “الجمهورية القوية” (أنطوان حبشي، جورج عدوان، غادة أيوب، فادي كرم، رازي الحاج، وغسّان حاصباني) في 5/9/2024 باقتراح قانون معجّل مكرر يُجيز الترخيص لشركات خاصة بإنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية. وبعد أيام، عاد النائبان غياث يزبك وجهاد بقرادوني ليقدّما نفس الاقتراح من دون صفة العجلة، وذلك في توجه بات متكررا وذلك ضمانا لإحالة الاقتراح لدراسة اللجنة المختصة.  

يشمل الاقتراح جميع الأراضي اللبنانية، وتحدد الشركة في طلب الترخيص النطاق الجغرافي الذي ترغب العمل فيه، على أن لا تحصل الشركة الواحدة على ترخيص للعمل بأكثر من ستّة نطاقات جغرافية. وفي حال تقدّمت أكثر من شركة بطلب ترخيص للعمل في القطاع الجغرافي نفسه، تجري مناقصة أمام هيئة الشراء العام التي تضع تقريرها وترفعه لمجلس الوزراء لتفوز إحدى الشركات بالترخيص. لا يوضح الاقتراح كيفية تقسيم المناطق إلى نطاقات جغرافية، إنما يفرض على الشركة جهدا متوسطا بقدرة 10 ميجاوات وما فوق. ويفهم من ذلك أن الاقتراح يفترض وجود 300 نطاقا جغرافيا على الأكثر. وقد أناط صلاحية النظر في طلبات التراخيص بمجلس الوزراء بعد وضع هيئة الشراء العام تقريرها، وذلك وفقاً لعقود نموذجية ودفاتر شروط تعدّها مؤسسة كهرباء لبنان وتبدي هيئة الشراء العام ملاحظاتها عليها. وتكون مدة هذه التراخيص 10 سنوات.

فضلا عن ذلك، يحدد الاقتراح سقفا للتعرفة التي يمكن أن تتقاضاها الشركة من المشتركين ويتمثّل بتعرفة مؤسسة كهرباء لبنان. كما يجيز للشركات أن تستعمل أو تعدّل شبكات التوزيع العائدة لمؤسسة كهرباء لبنان بالتنسيق معها مقابل رسوم عبور (wheeling charges). أما الاستثمارات التي تقوم بها على شبكات التوزيع العامّ فتعود ملكيتها لمؤسسة كهرباء لبنان بعد انتهاء مدة الترخيص. ويشترط أن تؤمن هذه الشركات ضمن نطاقها الجغرافي 16 ساعة من التغذيّة الكهربائيّة على الأقلّ، بشكل تكميلي لقدرات مؤسسة كهرباء لبنان.

وقد برّر النواب المذكورون اقتراحهم وصفته العاجلة بمحورية الطاقة الكهربائية في النشاط اليومي للمواطنين ولكافة القطاعات الاقتصادية، ما يجعل توفرها بشكل آمن ونظيف وبكلفة معقولة حقّا من حقوق الفرد. كما أن يعاني لبنان من أزمة كهرباء حادّة منذ سنوات طويلة تفرض على المواطنين اللجوء إلى حلول جزئية مكلفة وتخضعه لاستبداد أصحاب المولدات من دون أي رقابة عليهم. وجاء أيضاً في الأسباب الموجبة أن أزمة الكهرباء تتفاقم من دون أي حلول جذرية في ظل عجز المالية العامة عن تمويل إنتاجها وأن الخطة الوطنية للنهوض المستدام بقطاع الكهرباء التي تتناول الطاقة المتجددة من مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تؤمّن في أحسن حال 30% من الكهرباء المستهلكة في 2030 وأن تطبيق أي خطة يتطلب على الأقلّ 8 سنوات، مسلطين الضوء على ضرورة تأمين الكهرباء بشكل سريع وبكلفة معقولة، ما يتطلب إشراك القطاع الخاصّ.

ويأتي هذا الاقتراح بالتزامن مع التحذير من العتمة الشاملة، بفعل قطع تحميل الفيول العراقي الى لبنان. إلا أنه ليس الأول من نوعه، بل سبقه اقتراح النائب وضاح الصادق الذي يقارب الأمر بالطريقة نفسها وإن كان ينحصر في النطاق الجغرافي لمدينة بيروت. كما وردت اقتراحات لتقديم حلول مجتزأة لمشكلة قطاع الكهرباء مثل اقتراح النائب فؤاد المخزومي الذي يعنى فقط بتأمين كهرباء مطار بيروت، او اقتراح النائب بلال عبدالله الذي يطمح الى إنشاء شركة جديدة ومنحها امتياز توليد الكهرباء في بيروت وضواحيها. وفيما تستند هذه الاقتراحات عموما على نجاح القطاع الخاص في تأمين الكهرباء في زحلة، فهي كلها لا يمكن تصور تنفيذها وبخاصّة في المدن إلا من خلال موتيرات ضخمة شديدة التلويث في قلب المدينة، وهذا ما تقوم عليه التجربة الناجحة في زحلة. 

وعليه، يستدعي هذا الاقتراح الملاحظات التالية:

اقتراح منسلخ عن أي خطة 

يشترك هذا الاقتراح مع الاقتراحات المذكورة آنفاً بمحاولة إيجاد حلول سريعة لقطاع الكهرباء. ولكن من المسلّم به أنّ حلّ أزمة الكهرباء التي استمرّت لعقود طويلة لا يمكن أن يتمّ إلا على أساس خطة متكاملة تنظّم هذا القطاع، وهي خطّة يفترض أن تضعها الحكومة بحيث تأتي مشاريع واقتراحات القوانين لتضع إطارا قانونيا يوفّر مقتضيات هذه المشاريع. أما أن يأتي الاقتراح منسلخا عن أي خطّة متكاملة لتوفير الكهرباء، فهو يأتي بمثابة موقف أو خطاب سياسي غالبه شعبويّ أكثر مما هو حلّ عملي لمشكلة العتمة. 

منح امتيازات خلافا للدستور 

من البين أن الاقتراح يؤدي في حال إقراره إلى منح الشركات المعنية ترخيص مدته 10 سنوات لانتاج وتوزيع الكهرباء بشكل حصري في نطاق جغرافي محدد، على أن يتم ذلك بقرار من مجلس الوزراء. ومن هذه الزاوية، يبدو أن الاقتراح عملياً يمنح امتياز أكثر مما هو ترخيص، ما يجعله مناقضا للمادة 89 من الدستور التي تحصر صلاحية منح الامتيازات بمجلس النواب. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للنقد هو أن الاقتراح لم يفرض حتى صدور قرار صريح عن مجلس الوزراء، بحيث اعتبر أن انقضاء مهلة شهرين من تاريخ تقديم الطلب إلى الامانة العامة للمجلس بعد احالتها الى هيئة الشراء العام لوضع تقريرها، من دون إصدار قرار فيه، يشكّل قبولا ضمنيا له.  

تفتيت قطاع الكهرباء

ثاني ما نسجله بشأن هذا الاقتراح هو أنه يسلّم عمليا بعجز مؤسسة كهرباء لبنان وسوء إدارتها، ويتخلّى عن إمكانية حلّ أصل المشكلة مثل صيانة معامل الكهرباء الموجودة أساساً وإمكانية إدارة شركة كهرباء لبنان بشكل سليم. ليبادر من ثمّ إلى الدعوة لابتكار حلول ارتجالية ومجتزأة لإنتاج الكهرباء والاستعاضة عنها بشركات منتجة للكهرباء ضمن مناطق جغرافية محددة. ولعل المعيار الوحيد لقياس درجة التفتيت هو الحدّ الأدنى لإنتاج الكهرباء والذي يفترض بالشركة طلبة الترخيص أن تؤمنه (وهو 10 ميغاواط بالساعة). وعليه، فإن تصور الاقتراح يكون انبنى على إمكانية إنشاء 300 نطاق جغرافي على الأكثر. 

وفيما لم يحدد الاقتراح طريقة إنتاج الكهرباء، فإنه استبعد أن يكون ذلك عبر الطاقة المتجددة (النظيفة) لأنها كما ذكر في أسبابه الموجبة، لا يمكن أن تؤمن سوى 30% كحد أقصى من حاجة لبنان من انتاج الطاقة في عام 2030. كما شدد الاقتراح على ضرورة تأمين حل سريع للأزمة الحالية. ويفهم تاليا من ذلك أنّ إنتاج الكهرباء الذي ستقوم فيه هذه الشركات لن يكون سوى عن طريق المولدات الكهربائية الموجودة أساساً، خصوصاً في المدن الكبرى التي لا مساحة فيها لقيام مشاريع إنتاج الطاقة بغير هذه الطريقة. ويقوم الاقتراح بشكل خاص على إيلاء إنتاج الكهرباء وتوزيعها في كل منطقة – أو نطاق جغرافي كما أسماها – إلى شركة خاصة، من دون أن يحدّد حتى كيفية تقسيم كل منطقة أو أكثر إلى نطاق جغرافي. ويوحي لنا ذلك بأننا أمام نشوء ما يشبه فدرلة قطاع الكهرباء، بحيث نتحوّل من نظام إنتاج كهرباء من مؤسسة واحدة مركزية إلى نظام إنتاج الكهرباء من شركات محلية يرجّح أن يكون مجال عملها مطابقا لمناطق النفوذ السياسي.

احتكارات الأحياء موسعةً

علاوة على ما تقدم، يمهد هذا الاقتراح إلى منح تراخيص لشركات خاصة تتمتع كل منها في احتكار على المنطقة التي تعمل بها، بحيث إنه يمنع وجود أي منافسة في إنتاج أو توزيع الكهرباء في أي من المناطق. وينتظر تاليا وبالنظر إلى اتخاذ قرارات الترخيص داخل مجلس الوزراء أن يتم توزيع التراخيص على قاعدة المحاصصة الطائفية والسياسية. 

وما يفاقم من ترسيخ هذا الاحتكار هو عدم وضع أيّ ضوابط لمنع تعسف هذه الشركات في استغلال نفوذها، سوى إلزامها باعتماد تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان كسقف للبدل الذي يمكن أن تتقاضاه. فلا نفهم مثلا إذا كانت الشركات ملزمة بوضع عدادات أو بمنح الاشتراك لكل من يرغب من دون تعسّف أو أيضا بإجراء التصليحات اللازمة أو الخضوع لأي رقابة خارجيّة… إلخ. 

وما يخشى منه في ظل نظام المحاصصة، ليس فقط أن تستغلّ هذه الشركات نفوذها لأسباب تجارية، بل أيضا أن يأخذ استغلال النفوذ طابعا سياسيا أو طائفيا مع ما قد يستتبع ذلك من فرز واقعي للسكان أو تهجير لفئات منهم. 

فضلا عن ذلك، فإن مآل الاقتراح عمليا هو تشريع ممارسة مخلة بالمنافسة محظورة قوامها “تقاسم الأسواق أو مصادر التوريد” بمفهوم قانون المنافسة (المادة 7). 

حلول غير مستدامة تعيق الوصول إلى إصلاحات مستدامة 

يجعل هذا الاقتراح عملياً قطاع الكهرباء قائما على المولّدات الكهربائية المزروعة في الأحياء وبين البيوت كما سبق بيانه، بما يمأسس الوضع الراهن ويضمن تواجده لعقد إضافي في موازاة مفاقمة مخاطره. وعليه، يكون مجلس النواب في حال القبول به في معرض مأسسة نظام مؤداه مفاقمة التلوث وتهديد صحة المواطنين بفعل انبعاثات المولدات الكهربائية وتاليا في معرض مأسسة نظام هو في طبيعته غير مستدام ومناقض لحقوق دستورية أهمها الحق بالصحة. فكأنما واضعي الاقتراح وصلوا إلى استنتاج مفاده أن لا إمكانية لإنتاج الكهرباء إلا بنسبة عالية من التلوث وإن غلبوا الحصول على الكهرباء على الحق بالبيئة السليمة والصحة، من دون أي مسعى للتوفيق بينهما. 

وبالتالي، وإن درج نقاش الفيدرالية السياسية في البلد في السنوات الأخيرة كشكل مختلف وممكن لإدارة شؤون لبنان، وإن أصبح التقسيم الفدرالي محطا للأخذ والردّ في الأوساط الإعلامية والسياسية والاجتماعية، ترشح فدرلة الكهرباء بالصيغة المقترحة هنا عن إشكاليات إضافية كونها تقوم أصلا على نسف الحقوق الدستورية للمواطنين.