مقايضة نيابية انتهت بالتمديد لقادة الجيش والأجهزة الأمنية
15/01/2024
كثيرة هي الرسائل التي خرجت بها الجلسة التشريعية التي عُقدت في تاريخ 14/12/2023؛ أوّلها التأكيد أنّ لا ثوابت في السياسة ولا مبادئ، وثانيها أنّ المصالح السياسية تعلو على المصلحة العامة، وثالثها أنّ لا أحدًا من الكتل النيابية يعارض التشريع في ظلّ الفراغ الرئاسي بل إنّ المقاطعة ليست سوى فعل سياسي مرتبط بمصالح ضيّقة. فبعد أن أسهم التيّار الوطني الحرّ في تأمين نصاب جلسة التمديد للمجالس البلدية، ها هما القوّات والكتائب، يؤمّنان نصاب التمديد لقائد الجيش. اللافت أنّ المقاطعة كُسِرت في الحالتَين لأسباب تزيد من الشرخ الديمقراطي وتؤكّد عجز الطبقة السياسية عن تجديد نفسها، ودائمًا ما تتلطّى خلف حجج ومبرّرات كبيرة كالحرص على الأمن القومي والخوف من الفراغ في المؤسّسة العسكرية ومنع خراب الجيش.
منح التشريع العادي مقابل التمديد لقائد الجيش
شعارات كثيرة رُفعت لتبرير التراجع عن المقاطعة، لكنّ أيًّا منها لم يتطرّق إلى المبرّر الدستوري الذي أكّد عليه المجلس الدستوري في قراره رقم 6 في تاريخ 30 أيّار 2023، والذي اعتبر فيه أنّ مجلس النوّاب يظلّ محتفظًا بصلاحياته التشريعية في ظلّ شغور رئاسة الجمهورية. هنا يسارع المقاطعون إلى تبرير رفضهم القرار الدستوري بتسييس القضاء، متناسين أنّ من شأن استخدام هذه الحجّة للتنكُّر للقرارات المُلزِمة أن يدمّر دولة المؤسّسات وفصل السلطات، وهي الحجة نفسها التي رفضها هؤلاء أنفسهم عندما اتّهمت كتل أخرى القاضي العدلي طارق البيطار بالتسييس. فكأنّما ثمّة اتفاقًا بين الجميع على أنّ القضاء مسيّس متى كان لغير مصلحته، وعادل عندما تكون قراراته لمصلحته، من دون أيّ التزام بمرجعية القضاء. كلّ ذلك يقود إلى إلقاء ظلال الشكّ على أيّ موقف يصدر عن هذه الكتلة أو تلك، طالما أنّه مرتبط بظرف أو مصلحة معيّنة ويمكن أن يتبدّل مع تبدّل الظرف أو المصلحة.
هكذا اعتبر نوّاب القوّات والكتائب وعدد من النوّاب المستقلّين أنّ التمديد لقائد الجيش هو عملية فدائية وافقوا عليها على مضض منعًا لانهيار الجيش وانهيار الوطن، لكنّهم لم يذكروا شيئًا عن التدخّلات والضغوط الخارجية التي تعرّضوا لها للسَير بالتمديد. كما تجاهلوا أنّ الهدف من التمديد هو المحافظة على الحيثية الرئاسية التي يملكها قائد الجيش، علمًا أنّ تقاعد قائد الجيش وحده، من الناحية الدستورية، يخوّله الترشُّح لمنصب رئاسة الجمهورية عملًا بالمادّة 49 من الدستور التي تنصّ على أنّه لا يحقّ لقائد الجيش الترشُّح لرئاسة الجمهورية إلّا بعد سنتَين من تقاعده. بمعنى آخر، كشف موقفهم هذا عن استهتار بالدستور.
في الجلسة النيابية، برز مشهدان متوازيان يعبّران عمّا وصلت إليه المؤسّسات من خلل: مشهد الكتلة الصامتة ومشهد النوّاب المتفرّجين. كتلة القوّات كانت تثير السخرية في أدائها؛ فبالرغم من حضورها بكلّ أعضائها لتأمين النصاب، إلّا أنّها لاذتْ بالصمت، ظنًّا منها أنّه يحرّرها من ثقل الحضور ويحفظ لها ماء الوجه بنتيجة تخلّيها عن مبدأ عدم التشريع في ظلّ الفراغ الرئاسي. والأهمّ من ذلك نسيانها أنّها، بحضورها السلبي، سمحت بإقرار قوانين تعتبرها عادية في ظلّ هذا الفراغ، من دون أن تمارس واجبها في مناقشتها عملًا بالتفويض الشعبي المعطى لها. وكانت النتيجة إقرار 14 قانونًا، بتغطية كاملة منها، بالرغم من حرص أعضائها على التعامل بسلبية مع النقاشات. فلا دافع رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان عن مقترحات القوانين المصدّقة منها، بما فيها اقتراح قانون استقلالية القضاء الذي تقرّر سحبه من الجلسة، وكأنّما التمديد لقائد الجيش أهمّ من استقلالية القضاء؛ ولا دافع نائب البترون غيّاث يزبك عن مشروع تنموي يخصّ منطقته، معلنًا أنّه ممتنع عن الكلام عندما سُئِل عن أهمّيته، فأنقذه نائب حزب الله حسن فضل الله الذي دافع عن المشروع مانعًا رئيس الحكومة من سحبه.
قبل ذلك، تكسّر كلّ ما قيل عن أنّ تأخير التسريح سيتمّ في مجلس الوزراء، على أن يعلن الرئيس نبيه برّي في مجلس النوّاب عن انتفاء الحاجة إلى تولّي المهمّة، طالما أنّ الحكومة قامت بواجبها، على أبواب السرايا الحكومي؛ إذ أغلق العسكريّون المتقاعدون الطرقات المؤدّية إلى السرايا من الخارج، فيما تكفّل ميقاتي بإقفال مجلس الوزراء من الداخل، في سبيل إعطاء قائد الجيش تمديدًا صريحًا تكون له قوّة القانون من مجلس النوّاب.
وما إن وصل النقاش في الهيئة العامة إلى البند 14 من جدول أعمال الجلسة، حتّى بدأت معالم الحضور تتغيّر. بدأ نوّاب حزب الله بمغادرة القاعة العامة مقابل انتقال النوّاب أديب عبد المسيح، ميشال معوّض، أشرف ريفي، فؤاد مخزومي، ميشال الدويهي، مارك ضو، وضّاح الصادق من شرفة المجلس المخصّصة للصحافيين والزوّار، إلى القاعة. كما انضمّ إليهم نائبا الكتائب سامي الجميّل وسليم الصايغ. في حين بقي النوّاب: فراس حمدان، بولا يعقوبيان، ملحم خلف، ياسين ياسين في أماكنهم على الشرفة بين الصحافيين، مصرّين على عدم المشاركة في الجلسة، التي وصفها خلف بأنّها صفعة للديموقرطية والمؤسّسات. خروج حزب الله لم يقترن بخروج حلفائه، على نحوٍ أبقى النصاب قائمًا، وهو ما يتماشى مع ما كان الحزب قد أعلنه عن رفض الفراغ في قيادة الجيش، والذي كان سيعبّر عنه حضورًا في مجلس الوزراء من دون التصويت لصالح التمديد. وفي المقابل، كان واضحًا أنّ الاتّفاق بين الرئيس نبيه برّي والقوّات اللبنانية مصاغ بدقّة: أيّ تلكّؤ في مجلس الوزراء ستكون نتيجته التمديد في مجلس النوّاب. أمّا كلّ ما قيل عن الإخراج المنتظر للتمديد عبر الحكومة فكان في ناحية، والواقع والاتّفاقات التي جرت من تحت الطاولة كانت في ناحية أخرى.
تمديد بالتوافق التامّ
بالنتيجة، جرت بسلاسة مراسم التمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون في مجلس النوّاب. تراجع عدد من الكتل عن الاقتراحات التي كانت قدّمتها مقابل تأييد اقتراح كتلة الاعتدال الوطني، الذي يراعي التوازن الطائفي في التمديد، لشموله المدير العام لقوى الأمن الداخلي إلى جانب قائد الجيش والمديرين العامّين لأمن الدولة والأمن العام. وهكذا انتهت "المسرحية"، كما وصفها نائب رئيس مجلس النوّاب الياس أبو صعب، بالتصفيق وتبادل التهاني والقبلات، في مشهد بدا مستغربًا لمجلس لم ينجحْ في انتخاب رئيس منذ سنتَين، لمجلسٍ يعيق إقرار أيّ قانون إصلاحي، بخاصّة أنّ أغلب الذين يرفضون التشريع في ظلّ الفراغ سارعوا إلى تأمين نصاب جلسة تشريعية، قايض فيها رئيس المجلس نبيه برّي التشريع العادي بالتمديد لقائد الجيش.
لذلك، لم يتمّ التطرّق حتّى إلى مسألة النصاب الذي كان واضحًا أنّه مؤمّن. وكذلك، سرعان ما عرض الرئيس نبيه برّي اقتراحات القوانين المعجّلة المقدّمة من عدد من الكتل للبحث في الاتّفاق على أحدها. هنا، تحرّر النائب جورج عدوان من الصمت الذي تسلّح به ليومَين، رافعًا يدَيه الاثنتَين إلى الأعلى طالبًا الكلام. وهو ما بادره برّي بالقول، "إلنا يومَين نطلب منك تحكي طوّل بالك". برّي نفسه أراد تسجيل موقف بدا غير متناسق مع الواقع، فقال "مش شغل سياسة هون في شغل تشريعي"، خصوصًا أنّه لا يمكن فصل التمديد لقائد الجيش عن معركة رئاسة الجمهورية.
وعندما أعطى برّي عدوان الإذن بالكلام، أعلن هذا الأخير سحب الاقتراح المقدّم من القوّات والذي يقضي بالتمديد لقائد الجيش وحده متبنّيًا الاقتراح المقدّم من الاعتدال الوطني والذي يقضي أنّه، وبصورة استثنائية، "يمدّد سنّ تقاعد قادة الأجهزة الأمنية العسكريين منهم والذين يمارسون مهامّهم بالأصالة أو بالوكالة أو بالإنابة والذين يحملون رتبة عماد أو لواء والذين لا يزالون في وظائفهم في تاريخ صدور هذا القانون وذلك لمدّة سنة من تاريخ إحالتهم على التقاعد". وكذلك فعل كلّ من النائب بلال عبد الله الذي أعلن سحب الاشتراكي الاقتراح المقدّم من قبله وتأييد اقتراح الاعتدال، والنائب أديب عبد المسيح الذي سحب اقتراحه. أمّا النائب جميل السيّد، فأسف للمماحكات السياسية التي أدخلت قيادة الجيش نفسها فيها. وسأل: إن كان لا بدّ من أن يصدر القانون عن المجلس، فلمَ لا يشمل كلّ الرتب من ملازم حتّى عماد؟ وإذ قدّم اقتراحًا بهذا المضمون، إلّا أنّه سرعان ما سقط، لتُفتح الطريق أمام الاتّفاق المسبق على تبنّي اقتراح "الاعتدال الوطني"، الذي لم يتردّد الرئيس نجيب ميقاتي في إبداء تأييده له أيضًا، على قاعدة أنّه يشمل الموقع السنّي الأوّل في الأجهزة الأمنية.
وبعد مزايدات من هنا وهناك لتبرير التمديد بالسعي إلى حماية الأمن القومي ووحدة الجيش، أُقِرّ القانون مع إصرار النائب جهاد الصمد على تسجيل اعتراضه عليه في المحضر.
وبذلك انتهى النهار على نتيجة محسوبة سلفًا لم يعكّر صفوها إلّا إعلان النائب جبران باسيل أنّ الطعن بدستورية القانون أمام المجلس الدستوري بات جاهزًا، على قاعدة أنّ القانون يخالف مبدأ عدم جواز التشريع لمصلحة أشخاص.
نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان