هزلية "المقام" في المجلس النيابي: جلسات انتخاب رئيس الجمهورية نموذجًا
27/02/2023
شكّل نقل جلسات انتخاب رئيس الجمهورية عبر وسائل الإعلام فرصة ثمينة لمراقبة كيفية إدارة مجلس النوّاب والدور المحوري الذي يضطلع به رئيس المجلس من خلال ترؤّسه لتلك الجلسات. وبات من الواضح أنّ رئيس مجلس النوّاب الحالي نبيه بري لا يكتفي بأداء الدور المألوف الذي يقوم به أيّ رئيس هيئة تتّخذ قراراتها بعد التداول، بل هو تخطّى هذا الجانب الإداري بأشواط، مجيزًا لنفسه في كثير من الأحيان الحلول محلّ مجلس النوّاب للفصل اعتباطيًا في المواضيع الإشكالية التي يثيرها تطبيق الدستور أو النظام الداخلي من دون حتى تبرير موقفه أو تقديم المسوّغات القانونية الضرورية.
لذلك، سنحاول في هذا المقال التركيز على اعتباطية رئيس المجلس الحالي في إدارة الجلسات المخصّصة لانتخاب رئيس الجمهورية والأساليب السلطوية التي لجأ إليها من أجل فرض تفسيرات للدستور والنظام الداخلي تصبّ في خدمة مصالحه الذاتية وتؤدّي في نهاية المطاف إلى تعزيز هيمنة النظام السياسي الحاكم على مؤسسات الدولة. ومن أبرز هذه القرارات الاعتباطية، الآتية:
الازدواجية في تحديد الأوراق الملغاة
خلال الجلسات المتعدّدة التي عقدها مجلس النوّاب من أجل انتخاب رئيس الجمهورية، عبّر بعض النوّاب عن موقفهم السياسي من خلال الاقتراع بأوراق تحمل تعابير مثل "لبنان الجديد" أو "التوافق" أو "الميثاق" أو "نهج الرئيس رشيد كرامي" أو "الأولويات الرئاسية" إضافة إلى أوراق كتب عليها عبارات تتعلّق بانفجار المرفأ. ولا شكّ أنّ النائب حرّ في إبداء رأيه عبر اتّباع هذه الوسيلة، لكنّ رئيس المجلس ملزم في المقابل باحترام الأصول التي يفرضها النظام الداخلي من أجل معرفة مدى جواز احتساب مثل هذه الأوراق التي لم تقترع لمرشّح محدّد.
وبالفعل تنصّ المادة 12 من النظام الداخلي الحالي لمجلس النوّاب على الآتي: "تعتبر ملغاة كلّ ورقة تتضمّن: (1) أسماء يفوق عددها المراكز المحددة في النظام، أو (2) تحتوي على علامة تعريف أو تمييز من أي نوع كانت، أو (3) تتضمّن غير الاسم والشهرة مجرّدين". وعليه، كان يتوجّب على رئيس المجلس اعتبار جميع التعابير التي ذكرناها أعلاه بحكم الملغاة. لكن بري لم يقم فقط بمخالفة النظام الداخلي عندما رفض اعتبار الأوراق التي تحمل تعبير "لبنان الجديد" ملغاة، بل رفض أيضًا تبرير موقفه رغم إثارة المسألة علنًا واعتراض أكثر من نائب على تصرّفه.
ففي جلسة 24 تشرين الثاني 2022، قرأ نائب رئيس المجلس إلياس أبو صعب في مستهل الجلسة المادة 12 من النظام الداخلي مبديًا استغرابه حول احتساب الأوراق التي تحمل عبارة "لبنان الجديد" لكن رئيس المجلس اكتفى بالقول إنّها ليست ملغاة من دون أي شرح أو تفسير. وفي جلسة 15 كانون الأول 2022، تساءل النائب نديم الجميل حول الفرق الذي يدفع برئيس المجلس إلى إلغاء الأوراق التي تحمل عبارة "التوافق" أو غيرها من التعابير المشابهة بينما يستمرّ في احتساب "لبنان الجديد". لكنّ رئيس المجلس لم يكترث بهذا الاعتراض واستمرّ في اتّباع النهج نفسه. ولا شكّ أنّ هذه المسألة بالغة الخطورة نظرًا لتداعياتها حول كيفية احتساب الأغلبية ليس فقط في انتخاب رئيس الجمهورية بل في كلّ الانتخابات التي قد يجريها مجلس النوّاب، ما يعني أنّ رئيس المجلس من خلال احتكاره تفسير ما هي الأوراق التي تعتبر ملغاة سيتمكّن من التلاعب اعتباطيًا بنتائج الانتخابات وفقًا لمصالحه السياسية المتقلّبة، ما يؤدّي إلى ضرب مبدأ نزاهة الانتخابات وصدقيّتها كلّيًا.
الدورة الأولى الأبدية
من الملاحظ أنّ رئيس مجلس النوّاب يعتبر أنّ كلّ جلسة جديدة لانتخاب رئيس للجمهورية يجب أن تتمّ إعادتها من الدورة الأولى من دون الأخذ في الاعتبار الجلسة السابقة التي فقدتْ نصابها مباشرة بعد الاقتراع في دورة أولى. وقد سبق لـ "المفكرة القانونية" أن نشرت مقالًا خاصًا بهذا الموضوع أظهرت فيه أنّ الجلسة الثانيّة يجب أن تعتبر مكمّلة للجلسة الأولى وبالتالي يتوجّب الانتقال مباشرة إلى الدورة الثانية عندما يتمّ عقد جلسة انتخابية جديدة. لكن بغضّ النظر عن مدى دستورية موقف رئيس المجلس، كان من الواضح أنّ مجلس النوّاب لم يناقش هذه المسألة بل هو سلّم بها من دون التفكير في نتائجها الخطيرة كونها تؤدّي إلى تجميد انتخاب رئيس الجمهورية في دورة أولى أبدية تخضع بالكامل لمزاجية الأحزاب التي تجد في تعطيل النصاب وسيلة لتحقيق مصالحها السياسية. فاعتباطية رئيس مجلس النوّاب هنا لا يجب أن تحجب مسؤولية النواب الذين لم يثيروا إطلاقًا هذه المسألة إمّا تواطؤًا أو جهلًا، ما أدّى إلى مفاقمة هشاشة المؤسسة الدستورية التي باتت عملًا بهذا التفسير، أكثر تبعية للتوافق السلطوي بين الزعماء.
مسألة النصاب في الدورة الثانية بين الهزل والسلطوية
في جلسة 10 تشرين الثاني 2022، وجّه النائب سامي الجميل سؤالًا مباشرًا إلى رئيس مجلس النوّاب طالبًا منه تحديد المادة الدستورية التي تفرض دائمًا وجود نصاب يتألّف من ثلثيْ مجموع النوّاب في كلّ الدورات من أجل انتخاب رئيس الجمهورية. وقد جاء جواب رئيس المجلس صاعقًا لجهة مدى استهتاره بالمنطق الدستوري وجدية عمل المؤسسات ليقول جملته الشهيرة إنّها "مادّة إجرها من الشباك". وإذا كانت هزلية هذا الجواب تعكس تسفيه رئيس المجلس للعمل النيابي، فإنّ الحقيقة الكاملة لموقف بري ستظهر في جلسة 17 تشرين الثاني 2022 عندما سيطرح النائب سامي الجميل مجددًا المسألة نفسها مع توجيه انتقاد مباشر إلى رئيس المجلس على جوابه في الجلسة السابقة: "ما حصل في الأسبوع الماضي لا يليق بالمجلس ولا يليق بك دولة الرئيس". إذّاك، قرّر برّي شطب هذا الكلام من المحضر وسط هتافات من السخط والتهويل أطلقها النوّاب الذين ينتمون إلى كتلة الرئيس نبيه بري. تظهر هذه الواقعة أنّ الانتقاد الذي يوجّهه النائب لا ينظر إليه من زاوية مدى صوابيّته أو طرحه لنقاط دستورية محقة، بل من زاوية مدى تعرّضه لمقام رئيس مجلس النوّاب الذي وجد في شطب الكلام من المحضر الوسيلة السلطوية من أجل الحفاظ على هيبته الشخصية. لا بل أنّ رئيس المجلس لم يشرح السند القانوني الذي يجيز له شطب هذا الكلام كون النظام الداخلي لا يعطيه هذا الحقّ إلّا في المادة 50 منه التي تنص على أنّ رئيس المجلس "يأذن بالكلام ويمنعه وفاقًا للنظام ويأمر بتدوين أقوال النوّاب في المحضر ويحذف أقوال من لم يأذن له منهم" بمعنى أنّه ليس لرئيس المجلس حذف أقوال النوّاب الذين تكلّموا بإذن مثلما فعل النائب الجميّل.
وهكذا يظهر جليًا أنّ رئيس المجلس يردّ على النوّاب المعترضين على كيفية إدارته للجلسة من خلال طريقتين: الأولى، تقوم على السخرية والهزال من أجل إفقاد المسألة أهميتها والحطّ من موقف النائب المعترض الذي يجد نفسه وسط عاصفة من الضحك عليه والتنمّر على شخصه. أما الثانية فتقوم على استخدام "مقام" رئيس المجلس بما يمثله لقمع أي تعرّض له.
رئيس المجلس وتفسير الدستور
شكّلت مسألة حقّ مجلس النوّاب في تفسير الدستور نقطة بالغة الأهمية في خطاب رئيس مجلس النوّاب الذي اعتبر دائمًا أنّ مجلس النوّاب يمتلك السلطة الحصرية في تفسير الدستور. وبغضّ النظر عن صوابية هذا الموقف ومراميه السياسية الحقيقية، لا بدّ لنا من ملاحظة أنّ الجدل الدستوريّ الذي دار في جلسة 17 تشرين الأول بشأن النّصاب الواجب توفّره لانتخاب رئيس الجمهورية شهد تطوّرًا مهمًّا في موقف الرئيس بري. فخلال كلّ السنوات الماضية، دافع رئيس المجلس دائمًا عن حقّ المجلس في تفسير الدستور لكنّه لم يكن يشير إلى أيّ شرط خاصّ من أجل ممارسة مجلس النوّاب لصلاحيته المفترضة تلك. لا بل عندما عقد رئيس المجلس جلسة في 29 آذار سنة 2000 لتفسير المواد الدستورية المتعلّقة بطبيعة قرارات مجلس الوزراء، اكتفى في نهاية الجلسة بحصول نقاش عام جرى تدوينه في محضر الجلسة من دون ذكر ضرورة التصويت على مقررات المجلس النيابي بغالبية خاصة من أجل تفسير الدستور. لا بل أعلن آنذاك صراحة ردًا على موقف رئيس الحكومة سليم الحص بأنّ تفسير الدستور يحتاج إلى قانون دستوري يتمّ إقراره بغالبية الثلثين قائلًا التالي: "إنّ تفسير الدستور أمر منوط بالمجلس النيابي وحده بقانون، وليس بقانون دستوري"، أي أنّ الأمر يتمّ بغالبية عادية ولا يحتاج إلى غالبية مشدّدة.
لكن في جلسة 17 تشرين الثاني 2022، وعندما طالب بعض النوّاب بتفسير الدستور من أجل حسم مسألة النصاب، أدرك برّي خطورة هذا الأمر كون الغالبية العادية قد تفسّر الدستور خلافًا لموقفه المتمسّك بنصاب الثلثين، فما كان منه إلّا أن أعلن صراحة في قرار اعتباطي جديد أنّ تفسير الدستور يحتاج أيضًا إلى غالبية الثلثين من مجموع أعضاء مجلس النوّاب. وهكذا يكون الرئيس بري قد أحكم الطوق على أيّ محاولة للخروج من تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية حفاظًا على التوافق السلطوي الذي يحظى بإجماع نظام الزعماء.
خلاصة: اعتباطية الأمر لي
تؤدّي الاعتباطية السلطوية التي ظهرت جليًا في أداء رئيس مجلس النوّاب عمليًا إلى القضاء على مجلس النوّاب بوصفه سلطة جماعية يتمّ بها اتخاذ القرارات بطريقة تشاركية بعد التداول العلني والشفاف. ولا شكّ أنّ أهمّ موقف قاله الرئيس بري والذي يعكس حقيقة نظرته إلى مؤسسة مجلس النوّاب هو في ردّه على النائب سامي الجميّل عندما قال له في جلسة 17 تشرين الثاني "الكلمة الأخيرة ليست لك" وكأنّه يقصد أنّ الكلمة الأخيرة تعود حصرًا له وفقًا لشعار "الأمر لي". بالطبع الكلمة الأخيرة ليست لنائب بمفرده، لكنّها قطعًا ليست لرئيس المجلس، بل للمجلس برمّته.