هكذا عرّى مرسوم ردّ "الإيجارات غير السكنية" رعونة التشريع

لين أيوب

18/01/2024

انشر المقال

للمرّة الأولى في تاريخ لبنان،  بتاريخ 15/1/2024، عمد مجلس الوزراء في إطار ممارسته لصلاحيّات رئيس الجمهورية، إلى ردّ 3 قوانين إلى المجلس النيابي، في مقدّمتها قانون تحرير إيجارات الأماكن غير السكنيّة الذي كان أقره هذا الأخير في جلسته التشريعيّة المنعقدة في 14/15 كانون الأول 2023.

وللتذكير، إن أبرز ما نصّ عليه قانون تحرير الإيجارات غير السكنيّة، هو تحرير العقود القديمة (ما قبل 23/7/1992) بعد 4 سنوات، على أن يتمّ رفع البدلات تدريجيّا خلال هذه الفترة حتى تصل إلى 8% من قيمة المأجور. وقد منح القانون المالك إمكانية تقصير فترة التّمديد إلى سنتين في حال تنازله عن حقّه بالزّيادات التّدريجية. ويلحظ أنّ هذه العقود تشمل مجمل عقود الإيجار لممارسة التجارة أو الصناعة أو أيّ مهنة حرّة منظّمة بقانون أو مهنة حرفيّة أو أيّ نشاط آخر غير سكني. كما يلحظ القانون إمكانية استرداد المأجور قبل انتهاء المدة في حالات معينة مقابل تعويض يصل إلى 15% من القيمة البيعية للمأجور.

وبمعزل عن مدى دستوريّة مرسوم الردّ، الأمر الذي تطرّقت إليه المفكرة في مقالٍ سابق "ملاحظات حول سابقة ردّ القوانين منمجلس الوزراء، سنتناول في هذا المقال أسباب ردّ القانون التي وردت في مرسوم الإعادة والتي يعرّي بعضها كامل العملية التشريعية، علما أن غالبها يستعيد ما كانت المفكرة القانونيّة نبّهت إليه في تعليقها على اقتراح القانون بعدما أنجزتْه لجنتا الإدارة والعدل والمال والموازنة منذ تموز 2022، من دون أن يلقى أي ردّة فعل نيابية.

التّشريع بغياب أيّ دراسة واقعية: اكتشاف أن صدور القانون يهدد 300 مدرسة رسميّة

فيما نبهت "المفكرة" أن لجنتي الإدارة والعدل والمال والموازنة أقرّتا الاقتراح من دون أي دراسة فعلية أو معطيات رقمية تبيّن تداعيات القانون وتأثيرات تطبيقه على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، لم يعرْ أي من النواب تعليقها أي اهتمام، بل تم إقرار الاقتراح في الهيئة العامة بعدما كان تمّ إنجازه في لجنتي الإدارة والعدل والمال والموازنة من دون أي مناقشة جدية. أما وقد تقرّر إعادة القانون لأسباب لم يتم جلاؤها بعد، تنبهت الحكومة فجأة إلى وجود خلل تشريعي كبير وهو أن البرلمان أقرّ القانون بغياب أي دراسة فعليّة حول عدد العقود المشمولة بأحكامه وماهيتها، وبخاصة عقود الإيجار التي تستفيد منها الدولة وإداراتها العامة، والتي يشكل استمرارها شرطا لاستمرار المرافق العامة التي تديرها. 

وهنا، يقف المواطن مشدوها أمام المعلومة التي وردت في مرسوم الردّ، ومفادها أن من شأن "تطبيق القانون … أن ينهي عقود الإيجار لأكثر من 300 مدرسة رسميّة الأمر الذي قد يرتّب تداعيات سلبيّة على عدد كبير من التلاميذ". فكيف يعقل أن قانونا بهذه الأهمية أقرته لجنتان أتيح لهما وقت كافٍ لدرسه وأن الهيئة العامة أقرته من دون أن يهمس أي كان بضرورة إجراء دراسة مسبقة أو أن يهمس أي كان (ولا حتى الحكومة) بهذه المعلومة التي كانت تعرفها جيدا. ويلحظ هنا أن الحكومة اكتفت بالإدلاء بهذا الرقم من دون الإشارة إلى سائر عقود الإيجار القديمة التي تستفيد منها سائر إداراتها العامة.

وعليه، بنتيجة خلوه من من أيّ معطيات رقمية أو دراسات فعليّة بشأن عدد العقود المشمولة به وتداعيات تطبيقه، يصبح القانون بمثابة أفكار أو تطلعات عامة لم يبذل النواب أيّ جهد في تطبيق مدى ملاءمتها مع الواقع. وما يفاقم من هذا الانسلاخ عن الواقع، هو تغييب الأزمة الاقتصادية والمالية بالكامل. وهذا ما ينقلنا إلى أسباب الردّ الأخرى. 

"فيل الأزمة" الذي لم يرَه أحد

بالإضافة إلى سبب الردّ المتصل بغياب أي دراسة فعليّة عند وضع القانون، أشارت الحكومة إلى عدم الأخذ بعين الاعتبار مؤشّرات غلاء المعيشة ومؤشّرات التضخّم المطابقة للمواصفات العالميّة لتحديد نسبة الزيادات على بدلات الإيجار والمهل المحددة في متن القانون.

وكانت المفكرة القانونيّة أسهبت في التعليق على تجاهل الأزمة الاقتصادية والمالية في النقاشات البرلمانيّة، وعدم قياس أثر القانون على الأنشطة الاقتصادية، عدا عن عدم تناسب زيادة بدلات الإيجار وتحريرها في ظلّ الأزمة حيث تمّ تقدير البدل العادل للإيجار ب 8% من قيمة المأجور وأعطي المالك إمكانية استرداد المأجور بعد سنتين فقط في حال تناوله عن المطالبة بزيادة بدلات. فكأنما النواب الذين تدارسوا القانون لا يرون "فيل الأزمة" المخيّم في مجلس النواب كما في كل مكان، وكأنما الحكومة لا تتنبه إلى ما يفعله النواب إلا بعد إقرار القوانين.

وعلى غرار ما أشارت إليه المفكرة، بررت الحكومة الردّ ايضاً بأن القانون لم يأخذ بعين الاعتبار حق المستأجر في الحفاظ على المأجور لحاجات نشاطه الاقتصادي، وبخاصة في الحالات التي يشكل فيها موقع المأجور عنصرا من عناصر مؤسسته التجارية. هذا فضلا عن أن القانون لم يتضمن أي أحكام تميّز وفق أوضاع المستأجرين أو أوضاع القطاعات المختلفة، حيث أن بعض القطاعات شهدت انفراجا فيما قطاعات أخرى ما تزال تئن تحت وطأة الأزمة.

عدم التمييز بين "المالكين القدامى" و"المالكين الجدد"

استندت الحكومة لإعادة القانون إلى مجلس النواب، على عدم التمييز في القانون ما بين المالكين القدامى والمالكين الجدد "الذين اكتسبُوا الملكيّة بأسعارٍ زهيدة باعتبارها مثقلة بعبء الإجارة القديمة، بحيث يشكلّ تحرير هذه العقود بالنسبة إليهم نوعاً من الإثراء على حساب الغير".  وبذلك، تكون الحكومة قد تبنّت ما كانت أدلت به "المفكرة" مرارا في تعليقها على تحرير الإيجارات السكنيّة كما في تحرير الإيجارات غير السكنيّة، وتحديدا ردا على سردية مظلوميّة المالكين القدامى. فهذه السردية التي استعادها القانون المُعاد إلى المجلس النيابي بغياب أي معطيات دقيقة، إنما تخلط بين وضعيات مختلفة تماما. فأي تعمق في واقع الإيجارات القديمة يظهر أنّ ثمّة فارقا كبيرا بين المالكين القدامى الذين عانوا من تأجير ملكيتهم ببدلات متدنيّة (وهم مظلومون حقا) والمتعهدين الذين اشتروا العقارات المعنية بأسعار متدنية لا تتجاوز 50% من قيمتها الحقيقة بحجة أنها مثقلة بأعباء الإجارة القديمة. فهؤلاء المتعهدون لم يعانوا من أي ظلم، لا في الفترة التي سبقت شراء المآجير، ولا بعد ذلك، طالما أن استثمارهم تمّ وهم على بيّنة تامّة بالأعباء المترتبة عليها بنتيجة قوانين الإجارة القديمة والعائدات المنتظرة منها. ومن هذا المنطلق، يشكل تحرير الإيجارات بالنسبة إلى هؤلاء ليس إنصافا لظلم لم يحصل قط، إنما بالدرجة الأولى إثراء غير مشروع. فبعدما تملّك هؤلاء العقارات بنسبة 50 أو 40% من ثمنها، ها هم يحرزون ربحا هائلا (50 إلى 60% من ثمنها) في حال إقرار تطبيق قانون تحرير الايجارات غير السكنية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن هذا الربح يتمّ ليس فقط على حساب المستأجرين الذي فقدوا حق التمديد، إنما قبل كل شيء على حساب المالكين القدامى الذين تفرّغوا لهؤلاء عن عقاراتهم لقاء أثمان متدنّية.

وإذ تفرض هذه الاعتبارات ضرورة تحديد نسبة المالكين الجدد من بين مجموع مالكي المآجير الخاضعة للإجارة القديمة (وهي نسبة ما برحت مجهولة بل مغيّبة وقد تكون أصبحت النسبة الكبرى)، يتوجّب التمييز بين هاتين الفئتين في أيّ معالجة للوضع القائم، من باب تحقيق العدالة الاجتماعيّة، بما يدحض ادعاء المظلومية التي يستتر وراءها "المالكون الجدد" وانتهازيّتهم.

ختاماً، وإذ يعرّي الردّ الحكومي ما أمكن تسميته رعونة تشريعية في هذا المجال، يؤمل التعامل مع هذا الردّ على أنه فرصة لوضع منهجية موضوعية تؤدي إلى وضع تشريع منصف للمالكين القدامى بعد درس وافٍ لواقع العقود والواقع الاقتصادي وتاليا الأثر الاجتماعي والاقتصادي لأي قانون يتم إقراره لاحقا، على أن يتم ذلك مع مراعاة أعلى معايير التشاركية والشفافية.

للاطلاع على مرسوم الرد، إضغطوا هنا