البيان الوزاري: الإرادة في امتحان الواقع

نزار صاغية

25/02/2025

انشر المقال

ينعقد مجلس النواب في يومي الثلاثاء والأربعاء القادمين لمنح الحكومة الجديدة الثقة أو حجبها عنها على ضوء بيانها الوزاري الذي أقرّته في تاريخ 17 شباط. وما نريده في هذا المقال هو التدقيق في مضمون هذا البيان بما تضمّنه أو لم يتضمّنه، إسهامًا منّا في مناقشته وبلورة مضمونه.

وقبل المضيّ في ذلك، نسارع إلى القول أنّه ولئن عكس البيان توجّها إصلاحيّا (اعتبرته الحكومة مرادفًا للإنقاذ) وبخاصة في المجالين القضائيّ والإداريّ، فإنّ الحكومة آثرتْ بالمقابل أسلوب إعلان “ما تريده” أو إعلان النوايا على أسلوب البرنامج والالتزام. وقد عمدتْ في كل ذلك إلى تجنّب الاصطدام بأيّ من القوى النافذة أو بأيّ من الحساسيّات الاجتماعيّة مع السعي إلى إرجاء أغلب المسائل الخلافية إلى أزمنة أخرى. وقد بدتْ في كل ذلك وكأنها تدرك جسامة المهامّ الملقاة على عاتقها والتي تتّصل ليس فقط بإعادة الثقة لمؤسسات الدولة ولكن أيضا وفي الوقت نفسه بتحرير الأراضي المحتلة وإعادة الإعمار، مما يفرض عليها تجنّب أيّ صراع غير ضروريّ داخليّ أو خارجيّ أو ربما مهادنة قوى سياسية عدّة في الخارج والداخل من أجل نيل الثقة والنجاح في إتمام هذه المهامّ، وبخاصة في ظلّ ضعف القوى الإصلاحية أو التغييرية أو حتى الديمقراطيّة داخل مجلس النواب. 

وقد عبّر قصور البيان عن التفاوت الكبير بين تطلّعات أغلب اللبنانيين من هذه الحكومة من جهة وإدراكها النقص في قدراتها ومقوّماتها الفعليّة وبخاصة الذاتيّة من جهة أخرى. هذا ما سنحاول الإضاءة عليه على طول هذا المقال.       

السيادة، الاستراتيجية الدفاعية وحاجات إعادة الإعمار 

من البيّن أن الحكومة استشعرتْ ضرورة في استحضار كلمة “سيادة” منذ الجملة الأولى لبيانها حيث أعلنت التزامها بالدفاع عن سيادة لبنان ووحدة أراضيه وشعبه والعمل الجادّ من أجل إخراجه من المحن والأزمات، معتبرةً أن نجاحها في ذلك أساسيّ “لإقناع المواطنين أنّ الدولة تقف إلى جانبهم ولا تميّز بينهم” وتاليا لبناء المواطنة وتقوية الدولة إزاء مجموع المجموعات والطوائف. وتعكس هذه العبارة قناعةً لدى الحكومة أنها تدرك أن لنجاحها في هذه المهمة أبعادٌ تأسيسية للبنان جديد تكون فيه الدولة أقوى من الطوائف والولاء لها أقوى من الولاء لأيّ كيان آخر. 

وقد كرّس البيان في هذا السّياق مرجعيّة القرار 1701 وقوامه التسليم بسيادة لبنان على أراضيه وانسحاب إسرائيل من الأجزاء التي ما تزال محتلة، مقابل استكمال انتشار الجيش جنوبي الليطاني وبسط نفوذ الدولة على كامل الأراضي اللبنانية واستعادة قرار الحرب والسلم. ويستشفّ من البيان أن الحكومة حرصت في سياق التزامها بهذا القرار، على حفظ حقّ لبنان في الدّفاع عن نفسه وعن أرضه بمختلف الوسائل في حال أخلّت  إسرائيل به وتحديدا في حال رفضها الانسحاب من أراضيه أو قيامها بأيّ عدوان مستقبلي. وعليه، وفي موازاة تأكيده التزام “الدولة” بتحرير جميع الأراضي ب “قواها الذاتية حصرًا” واحتكار حمل السلاح، أكّد البيان حقّ “لبنان” (نفهم بميع مكوّناته) في الدّفاع عن النفس في حال حصول أيّ اعتداء كما أكّد ضرورة وضع “استراتيجية أمن وطني” وتسليح “القوات المسلّحة الشرعية” من دون توضيح ماهية هذه القوات التي ستمنحُها الحكومة صفة الشرعية والتي من البيّن أنها لا تقتصر على الجيش. وبالواقع تُعيدنا هذه العبارات إلى الحديث عن “الاستراتيجية الدفاعيّة” التي كان فشل الفرقاء اللبنانيّون في العقد الأول من الألفية الثالثة في الاتفاق عليها. وفي حين ركّز البيان هنا على المستويات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية من هذه الاستراتيجية، يلحظ تغييب تامّ للمستوى القانوني والذي قد يكون أول مرتكزاته الانضمام للمحكمة الدولية الجنائية، على نحو يمنح لبنان إمكانية اللجوء إلى مرجع دوليّ لملاحقة التعدّيات عليه، وضمنًا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت أو قد ترتكب ضده.     

يبقى أنّ هذا التصوّر العقلانيّ ترافق مع التزام آخر للحكومة في مجال العلاقات الخارجية قوامه “اعتماد سياسة خارجيّة تعمل على تحييد لبنان عن صراعات المحاور ما يسهم في استعادته موقعه الدولي ورصيده العربي وتحشد دعم العواصم الشقيقة والصديقة والمنظمات العربية والدولية مع الحرص على عدم استعمال لبنان منصة للتهجّم على الدول العربية والدول الصديقة”. ومع التسليم بملاءمة الابتعاد عن سياسات المحاور، من شأن ربط هذا الموقف بالحصول على الدّعم الدّولي والعربيّ أن يُثير مخاوف بشأن إمكانية استغلال حاجة لبنان لإعادة الإعمار والدعم الخارجيّ من أجل الانتقاص من سيادته وربما انتزاع مواقف منه في ما يتصل بتصوره لاستراتيجيّته الدفاعية أو في شأن القضية الفلسطينية، عن قناعة أو غير قناعة، وعلى نحو يهدد بإعادة اصطفافه ضمن محور معيّن.     

فضلا عن ذلك، يؤخذ على البيان أن الحكومة اختزلت مفهوم السيادة بسيادة الدولة على حدودها واحتكارها السلاح. بالمقابل، فإنها تفادتْ الخوض في الأوجه الأخرى للسيادة منها تحصين “سيادة الشعب” الذي تنبع منه كلّ السلطات في نظام ديمقراطي، أو أيضا سيادة الدولة على الطوائف وزعمائها فلا تهيمن أي منها عليها وتبقى الدولة موحّدة غير قابلة للتجزئة. وفيما تناولت ضرورة بناء السيادة العلمية، فإنها سهتْ عن أوجه السيادة الأخرى وأهمها السيادة المالية والقضائية إلخ.. والتي تبنى بقوة التخطيط والإصلاح.  

هذا البيان ليس عن الماضي 

هذا البيان ليس عن مكافحة المافيا 

هذا البيان ليس عن المسائل الخلافية

الأمر الثاني الذي يجدر التوقف عنده هو أن البيان يتحدّث كثيرا عن الحاضر وقليلا عن المستقبل مع تهميش للماضي وبخاصّة المسؤوليّات التي انعقدتْ فيه. وإن دلّ هذا الأمر على شيء، فعلى إدراك الحكومة ضعفها وقلّة مواردها الذاتيّة في مواجهة الوضع الكارثيّ الذي يمرّ فيه لبنان، الأمر الذي حملها ربّما على التركيز على إيجاد حلولٍ للواقع الحاضر مع تجنّب أيّ معارك أو مواجهات جانبيّة قد تؤدّي إلى إضعافها أو تآكل رصيدها. الأمر نفسُه بشأن المسائل الخلافيّة أو التي ترشح عن تناقض مصالح مثل قضايا العمل والعدالة الاجتماعية أو الإيجارات القديمة أو نظام الكفالة والتي بدت الحكومة حريصةً على عدم الخوض فيها للسبب نفسه.    

أول الإشارات إلى ذلك هو خلو البيان من أيّ تعهد بمساءلة إسرائيل عن جرائمها واعتداءاتها رغم ذكر بعضها في البيان، وكأن الحكومة تسلّم باستحالة ذلك في تماهٍ مع موقف الحكومة السابقة في عدم قبول صلاحية المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فيها، تحت ضغوط متزامنة من الولايات المتحدة الأميركية وحزب الله. إلا أنّه يبقى أنه حتى ولو لم تذهب الحكومة في هذا الاتجاه، فإن بإمكانها أن تطالب مجلس حقوق الإنسان بتعيين لجنة تثبيت حقائق كما حصل في 2006 ضمانًا لتوثيق جرائم الحرب المرتكبة (وبعضها وصل إلى حدود الجرائم ضدّ الإنسانية) من قبل مرجعٍ دوليّ محترف.   

في الاتّجاه نفسه، لم يتوقّف البيان قطّ عند ممارسات أو فنون الإفلات من العقاب داخليّا، ولا سيّما لجهة التعسّف في استخدام الحصانات الوزاريّة والنيابيّة والوظيفيّة على اختلافها أو مقاومة إسقاط السرية المصرفية للحدّ من المُساءلة وتعطيل معرفة الحقائق. كما لم يشِر قط إلى نيّة تفعيل قانون الإثراء غير المشروع واسترداد الأموال المنهوبة أو حتى مكافحة التهرّب الضريبي. أما تبييض الأموال فلم يذكره إلا كإحدى المسائل التي يجدر تدريب عناصر قوى الأمن الداخلي على مكافحتها.

وأكثر ما يشدُه هو كيفية مقاربة الأزمة المالية المصرفيّة والتي هي حكما عمليّة النهب الكبرى التي تعرّض لها الشعب اللبناني في تاريخه. إذ أن البيان لم يفرد لها مساحة خاصة، إنما شملها ضمن الفقرة التي خصّصها لضمان قدرات الدولة المالية وضمان مواردها الجبائية والحدّ من المديونية، وكأنه يستعيد بذلك السرديّة التي تفسّر انهيار المصارف ليس بالخيارات الاقتصادية والمالية والهندسات الماليّة الجرميّة وتهريب الأموال إلى الخارج إنما بمديونيّة الدولة وعجز موازناتها. ومن هنا، يكمن الحلّ بشكل أساسيّ في تحسين الجباية والإصلاح الضريبي، على أن تتعهد الحكومة وضع خطة لإعادة حقوق المودعين من دون أي ذكر لمصرف لبنان أو حديث عن إصلاحه أو عن مسؤولية المصارف أو استرداد الأموال المهربة أو المنهوبة أو توزيع عادل للخسائر، وكل ذلك بمعزل عن النتائج التي قد يسفر عنها التدقيق الجنائي. ولئن أشار البيان إلى التّدقيق المحاسباتيّ والجنائيّ، فقد فعل ذلك عرضًا في سياق الإصلاحات القضائية، من دون تحديد الجهة التي يتناولها التدقيق والأهم من دون أن يربطه قط بمسؤولية الإدارة في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتوزيع الخسائر بصورة عادلة.

أمر آخر يؤشر إلى حجب مسؤوليات الماضي هو خلو البيان من أي إشارة إلى وجوب استكمال قطع حسابات السنوات الماضية منذ 1994 والأهم التأكيد على التزام الحكومة بأن لا تقرّ أي موازنة عامة لسنة ما إلا بعد اقترانها بقانون قطع حساب عن السنة السابقة لسنة وضعها.   

الاستغراب نفسه يسجّل بشأن كيفيّة مقاربة التحدّيات البيئيّة في لبنان. فقد تحدّث البيان عن مخاطر التغيُّر المناخي والكوارث الطبيعية والأزمة البيئيّة الموروثة منذ عقود، فضلا عن أثر الاعتداءات الإسرائيلية على البيئة مؤخّرا. بالمقابل، لم يرد ولا كلمة عن التحدّيات البيئية الناجمة عن تفجير الجبال بصور غير قانونية في مختلف مناطق لبنان (قطاع الكسارات والمقالع ومعه قطاع الإسمنت) وهو أمر ما كان ليحصل لولا تواطئٍ جرميّ من الحكومات السابقة (فهل تستمر الحكومة الجديدة في هذا التواطئ أم تتراجع عن مجمل القرارات الجرمية وآخرها قرار 4 كانون الأول 2024 الصادر عن حكومة ميقاتي؟) أو عن رمي الموادّ الملوّثة في الأنهار والبحر من دون إخضاعها لأي تكرير أو عن استثمار الأملاك البحرية والنهرية في نشاطات ملوثة أو عن حفر آبار غير مرخصة، من دون الحديث عن الفوضى في معالجة النفايات أو عن تعطيل معامل الإفراز في مختلف المناطق. ففي حين يدرك أيّ مراقب أنّ الفساد يشكّل أحد أكبر التحدّيات البيئيّة، رأت الحكومة أن تغضّ الطّرف تماما عن المسؤولين عنه لتركّز على العوامل الطبيعية وأفعال إسرائيل التي يصعب إخضاعها لأي مساءلة. 

الأمر نفسُه بشأن ملفّ التعدّيات على الأملاك البحرية والذي يبقى عصيّا عن المعالجة رغم انتهاء الحرب منذ قرابة 35 سنة. فهنا أيضا وإذ التزمت الحكومة في سياق توضيح رؤيتها الاقتصادية بالتطبيق الصارم للقوانين المتعلقة بالأملاك البحرية والنهرية، يفهم من ذلك أنها لن تفعل ما فعلته حكومة ميقاتي حين أصدرتْ  3 مراسيم منحتْ شركات وأفرادا حقّ إشغال مساحات شاسعة من الأملاك البحرية بصورة مخالفة للقانون. بالمقابل، لا يتضمّن هذا التعهد ما يفيدنا لجهة كيفيّة التعامل مع الأملاك البحريّة والنهريّة المُعتدى عليها، أغلبها منذ عقود. فهل تتطلّع الحكومة إلى تطبيق القانون 64/2017 مع ما يفترضه لجهة إخلاء المساحات المعتدى عليها بعد 1-1-1994 أو التي لم يطلب المعتدون عليها المعالجة خلال المهل القانونية؟ وأكثر ما يقلق هو إيراد الأملاك البحريّة والنهريّة ضمن الرؤية الاقتصاديّة على نحو يعزّز التوجّه إلى تسليعها، في حين أن هذه الأملاك تشكّل مساحاتٍ عموميّة بامتياز، فضلًا عن ارتباطها الوثيق بمقاربتنا البيئة وبحقّ الأفراد بالتمتّع بها. فهل تنسجم الحكومة الجديدة أيضا مع فكرة تسليع الشاطئ التي فرضتها الحرب أم أنها ستعمل على نقض هذا النموذج لإعادة الشاطئ في كليّته كأحد أهمّ مقوّمات جمال لبنان وجاذبيته؟       

كما تجاهل البيان علاوة على ذلك في خضمّ حديثه عن ضرورة تحسين خدمات تأمين الماء، مآل مشاريع السدود، وبخاصة المشاريع التي تمّت مباشرتها من دون الوصول إلى نتيجة مثل سدود بلعا والمسيلحة وبريصا وجنة أو تم استملاك أراضٍ بهدف إنشائها قبل التراجع عن ذلك مثل سد بسري. كما تجاهل الآبار المحفورة على طول لبنان وعرضه.  

فضلا عن ذلك، تجاهل البيان أصحاب الاحتكارات على اختلافها، بما فيها هؤلاء الذين حقّقوا أرباحا طائلة تبعا لتخزين السلع المدعومة من مصرف لبنان والذين أوجب المشرّع إخضاعهم للتدقيق الجنائي من دون أن تقدم أي من الحكومات على ذلك. كما من الملفت أنّ البيان خلا تماما من أيّة إشارة إلى تفعيل قانونيْ المنافسة والحدّ من حصرية التمثيل التجاري وحماية المستهلك علاوة على أنه تجاهل مستوردي الأدوية وكيفية تسعير الدواء في وزارة الصحة. 

الأمر نفسه ينسحب على المدارس الخاصّة والتي تجاهل البيان الخلل الكبير الحاصل في تنظيم موازناتها على نحو يؤدّي إلى تضخيم الأقساط المدرسية خلافا لأحكام القانون. فرغم أهميّة الالتزام بإعادة الاعتبار للمدرسة الرسميّة، لا يجدر السهو عن حاجة أغلب العائلات اللبنانيّة لحمايتها في وجه تعسف المدارس الخاصة في المرحلة الراهنة.  

وبذلك، بدا بوضوح أن البيان خلا من أيّة رؤية لمحاسبة الماضي والأهم لإضعاف أيّ من المجموعات أو المافيات التي تتحكّم باقتصاد الدولة وبيئتها وحتى خطابها العام (كما هي حال القنوات الإعلامية التي تبقى متفلتة عن أيّ تنظيم). 

إغفال الديناميّات الاجتماعيّة في إنجاز الإصلاحات

أمر آخر يجدر التوقّف عنده، وهو أنه على الرغم من التّرحيب الشعبيّ الواسع بالحكومة، فإنّ بيانها خلا من أيّ مسعى لتشريك المواطنين في الورشة الإصلاحيّة. 

فرغم تأكيد الحكومة احترام الحقوق والحريّات، فإنّها لم تلتزمْ بتغيير أيّ من القيود الموضوعة على هذه الحقوق والحريات، سواء بفعل القانون أو بفعل الممارسة. وعليه، لم تؤكّد الحكومة التزامها حرية تأسيس الجمعيات وعملها، بما يقطع مع الممارسات المعتمدة مؤخرا من وزارة الداخلية بحجب العلم والخبر عن الجمعيات لأشهر أو سنوات. كما لم تُبدِ الحكومة أيّ موقف بشأن وجوب تحرير الحرية النقابية من قيود الترخيص المسبق عملًا بالعهد الدولي لحقوق الإنسان. الأمر نفسه بشأن اقتراح قانون الإعلام والذي ينتظر منه تنظيم وسائل الإعلام في موازاة تعزيز حرّية التعبير. 

لكن النقص الأكبر يتمثّل في إغفال الحكومة وجوب التعميم على الإدارات العامة ضرورة تنفيذ قانون حق الوصول للمعلومات سواء في شقه المتصل بالنشر التلقائي للمصاريف والتقارير السنوية أو في شقه المتصل بمنح المواطنين ما يطلبونه من معلومات من دون مماطلة أو الحاجة لأيّ ترخيص مسبق، بما يقطع هنا أيضًا مع الممارسات السّائدة حاليّا في معظم إلإدارات العامّة بعرقلة تطبيق هذا القانون بحجة أو بأخرى. 

الأمر نفسه نسجّله بشأن تغييب دور البلديات والديناميات المحيطة بها في إصلاحات الحكومة المرتقبة في موازاة التغييب عن أيّ حديث بشأن تعزيز اللامركزية. 

ويصعب فهم البيان لهذه الجهة، وبخاصة أنه كان بإمكان هذه الحكومة أكثر من أي حكومة سابقة أن تراهن على انخراط المجتمع في جميع شرائحه في تطبيق خطة إصلاحية إنقاذية طموحة.  

إصلاحات بعناوين عامّة تحتاج إلى بلورة وتوضيح

أخيرا، وعلى ضوء الملاحظات أعلاه، سنتناول كيفية مقاربة البيان أبرز الإصلاحات التي اعتبرت الحكومة إنجازها ضرورة للإنقاذ والتي بقيت التزاماتها بالنسبة إلى أغلبها.عامّة وغير واضحة. وليس أدلّ على ذلك من خلو بيانها من أيّ مُعطى رقميّ، فضلًا عن انتهاجها التّعميم في التّشخيص والتّوصيف من دون توضيح المقاصد والمعاني. فمثلا، وإذ تعلن الحكومة أن بناء دولة القانون (وهو هدفها الأول) “مهمة ترقى في عدد من القطاعات إلى إعادة بنائها من جديد”، فإنها لم تذكر أيّا من هذه القطاعات ولو على سبيل المثال. وإذ تعلن وفاءَها للدّستور ووثيقة الوفاق الوطني وضرورة الشروع في تطبيق ما بقي في هذه الوثيقة دون تنفيذ وتصويب التطبيقات المخطئة التي شابتها عبر السنين مع ما يترتب على ذلك من وجوب إعداد مشاريع قوانين جديدة ووضع النصوص التطبيقية لعدد من القوانين النافذة، فإنها لا تفصّل أي شيء مما سبق. فلا نعلم لا ما هي الأمور التي لم تنفذ ولا الأمور التي نفذت بصورة خاطئة ولا مشاريع القوانين أو المراسيم التي يجدر وضعها والتي ستعطيها الأولوية في الأشهر القادمة. ومن المعبّر أصلا أن البيان لم يتضمن أي التزام بوضع أي مشروع قانون أو مرسوم محدد. 

وما يفاقم من ذلك هو اعتماد البيان تقسيمًا وتسلسلًا مُلتبسًا يصعب فهمه. فمثلًا لا نفهم الخلط بين معالجة قضيّة المفقودين والمخفيين قسرًا والإصلاحات القضائية. ولا نفهم الخلط بين الإصلاح الاقتصادي والتطبيق الصارم للقوانين المتعلّقة بالأملاك البحريّة والنهريّة، من دون توضيح المقصود من ذلك. ولا نفهم كيف تمّ وضع التدقيق الجنائيّ في سياق الحديث عن الإصلاحات القضائيّة من دون ذكرها في معرض الإصلاحات المالية رغم أهميّته المفترضة في إعادة هيكلة المصارف. 

ولئن كانت مختلف الإصلاحات التي تناولها البيان تستدعي ملاحظات بشأن دقتها وشموليتها وكيفية مقاربتها، سنكتفي هنا بالتعليق على الإصلاحات الإدارية والقضائية المعلن عنها.

الإصلاح الإداري: 

إذ أكّد البيان إرادة الحكومة في بناء دولة فعّالة بإداراتها العامّة ومؤسّساتها، فإنه ركّز على مبدأ المداورة في تعيين موظفي الفئة الأولى وفق “معايير الجدارة والكفاءة” مع مراعاة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين إنما من “دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة” كما تنص المادة 95 من الدستور. إلا أن اللافت أن التذكير بهذا المبدأ (الذي ورد أيضا في خطاب القسم) ورد ضمن الإصلاح الإداري في حين أن المبدأ نفسه ينطبق على المناصب السياسية والعسكرية والأهم القضائية وقد يكون من المهم جدا أثناء جلسة المناقشة التأكيد على ضرورة تطبيق هذا المبدأ في مجمل التعيينات من دون استثناء. وكانت المفكرة القانونية أول من أثارتْ هذا المبدأ في 2020 في سياق تعليقها على التّشكيلات القضائيّة. وقد أثير مرة أخرى خلال السنة نفسها في تعيينات مصرف لبنان ووزارتي المالية والاقتصاد، من دون أن يجد تطبيقا له. لكن ورغم الأهميّة الفائقة لتطبيق هذه المادة، يلحظ أنّ البيان الوزاريّ لزم الصّمت بشأن مسألة إعادة فتح باب التوظيف بالنسبة للفئات الأخرى وتعيين الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية من دون التقيّد بالمناصفة إطلاقا، عملا بالمادة 95 من الدستور ووثيقة الوفاق الوطنيّ.       

الإصلاح القضائي:

في هذا الصّدد، نصّ البيان الحكومي على “ترسيخ استقلال القضاء العدليّ والإداريّ والماليّ وتحسين أوضاعه وإصلاحه وفق أعلى المعايير الدولية بما يضمن مناعته حيال التدخلات والضغوط وقيامه بدوره بضمان الحقوق والحريات ومكافحة الجرائم”. 

ونستشفّ من هذه الفقرة تطورا مزدوجا في الخطاب الحكومي: 

فمن جهة أولى، استعاد البيان خطاب القسم لجهة التّأكيد على أنّ إرادة الإصلاح القضائيّ تشمل الفروع الثلاثة للقضاء، بما ينسجم مع تطلّعات المفكرة القانونية التي عملت على إنجاز مسودة اقتراح قانون لإصلاح القضاء المالي (ديوان المحاسبة)، يُضاف إلى الاقتراحيْن اللذيْن أعدّتهما سابقا بشأن القضاء العدلي والقضاء الإداري

ومن جهة ثانية، يسجّل للحكومة تعهّدها بإنجاز الإصلاح وفق أعلى المعايير الدولية لاستقلال القضائية، وهو أمر أساسي لتحديد معنى استقلالية القضاء التي ترومها الحكومة على نحو يقلّل من إبهام هذا المفهوم. 

إلا أنه بالمقابل، تسجل التحفظات الآتية: 

  • إن البيان لم يتوقف إطلاقا عند التطبيق الشاذ للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية بدفع من رئيس الحكومة السابقة والذي أدى عمليا إلى تمكين أي متقاضٍ من تعطيل التحقيقات ضده بإرادته المنفردة وإلى أجل غير مسمى، وذلك تبعًا لتعطيل الهيئة العامّة في محكمة التمييز بقرار سيّاسيّ. كما لم يتوقّف عند تعطيل مجالس العمل التحكيميّة ومعها قانون العمل برمته لأكثر من سنة ونصف بفعل إضرابات مفوّضي الحكومة لدى وزارة العمل، مع ما استتبع ذلك من نسف للعدالة للشرائح الأقل حظوة (الأجراء). 
  • إن البيان تحدّث عن وجوب الإسراع في إجراء التعيينات في المراكز الشاغرة (وأهمها رئيس هيئة التفتيش القضائي والمفتّشين العامّين والنائب العام التمييزي ورؤساء في غرف شورى الدولة وديوان المحاسبة ورئيس هيئة القضايا فضلا عن أنّ النيابة العامة المالية ستشغُر بعد بلوغ علي إبراهيم سن التقاعد في نيسان القادم) والتشكيلات القضائية، من دون أن يتطرّق إلى آلية اختيار الأسماء على غرار ما فعله بشأن التعيينات الإدارية، وبخاصة لجهة تطبيق مبدأ المداورة هنا أيضا والأهمّ دعوة القضاة الذين تتوفّر لديهم المواصفات المطلوبة للترشّح على أن يختار الأفضل منهم وفق المعايير المعتمدة دوليا. 
  • إن البيان خلا من أيّ تعهّد بتفعيل مباريّات دخول معهد الدروس القضائية في أقسامه المختلفة رغم النزيف الحادّ الذي أصاب الجسم القضائي خلال فترات الأزمة؛ والأهم خلوه من أيّ التزام بملء الشواغر في ديوان المحاسبة بما يضع حدّا لذريعة استحالة التدقيق في قطوعات الحساب. يذكر أن آخر مباراة لدخول معهد الدروس القضائية (القسم المالي) حصلت في 1998. 
  • إن الحكومة لم تتوقّف قط عند ضرورة ضمان مبادئ المحاكمة العادلة أمام جميع المحاكم، من خلال تضييق صلاحيّات المحكمة العسكرية في اتّجاه تحويلها إلى محكمة متخصّصة، علما أن لجنة الإدارة والعدل تعمل حاليا على إنجاز اقتراح قانون في هذا الخصوص.    

هذه هي أهم الملاحظات التي رأينا من الضروري وضعها قبل مناقشة البيان الوزاري، على أمل أن تسهم في تصويب أولويات الحكومة وبلورة خياراتها. فلنراقب.