"القمار الإلكتروني" بين الحظر والتنظيم: حديث عن انتحارات وبيع أسلحة

إيلي الفرزلي

07/05/2024

انشر المقال

بالرغم من أن ألعاب القمار على الإنترنت ليست حديثة العهد، بل تعود في لبنان إلى نحو 20 عاماً، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت إقبالاً كثيفاً على مئات التطبيقات والمواقع، لا سيما تلك المعنيّة بالمراهنات الرياضية. وبالنتيجة ازدادت الحوادث والإشكالات المتعلقة بها، والتي يتمّ تناقل أخبارها يومياً، وتشير إلى تورّط مراهقين وقصّر بمراهنات كبيرة، حوّلتهم إلى مجرمين أو سارقين. كما سرت أنباء عن حصول حالات انتحار على خلفية نتائج المراهنات وما رتبته من خسائر وديون ضخمة. ووصل الأمر إلى انتشار المعارك المسلّحة بين مكاتب المراهنات في أكثر من منطقة، أو بين المكاتب والمراهنين. وكل ذلك يحصل في ظل تنامي شبكة مصالح مرتبطة بهذا القطاع، تجعل من المكاتب محميات سياسية وحزبية، يصعب اختراقها… أما أكثر ما تم تداوله مؤخراً فكان مسألة تورّط نجل أحد النوّاب في مراهنات بآلاف الدولارات، وانتحار أحد المقامرين في زغرتا (وقبل ذلك انتحار ابن شقيقة أحد القضاة). يضاف إلى ذلك ما أعلنه النائب سجيع عطية في جلسة مناقشة قانون التمديد للمجالس البلدية، عن بيع عسكريين أسلحتهم من أجل المقامرة. علماً أن فرنجية وعطية كانا طالبا في الجلسة بمناقشة اقتراح القانون بالتصدي للمقامرة الإلكترونية بالنظر إلى توفر صفتي العجلة والضرورة، إلا أن رئيس المجلس النيابي لم يستجب. 

الانتشار الكبير لهذه الظاهرة لم يُقابل باستنفار رسمي مواز، فبقيت مواجهتها محدودة، إما بسبب غياب العقوبات القانونية الرادعة، وإما بسبب صعوبة الإحاطة التقنية بشبكات القمار عبر الإنترنت. وهو ما يتضح، على سبيل المثال، مع عدم انحسار هذه الظاهرة بالرغم من حجب مكتب مكافحة القمار في الشرطة القضائية، بالتعاون مع وزارة الاتصالات، مئات المواقع الإلكترونية وتوقيف عشرات الأشخاص، إضافة إلى إعلان أمن الدولة عن إغلاق عدد من مكاتب المراهنات في بيروت والنبطية، وتوقيف المتورطين. 

وفي محاولة لمواجهة هذه الظاهرة، تحرك النواب في أكثر من اتجاه.  فقد قدّم النائب ميشال موسى، في 4 نيسان الماضي، اقتراحاً وقّعه معه النائبان قاسم هاشم وشربل مسعد، ويهدف بالدرجة الأولى إلى تنظيم القطاع من خلال إنشاء هيئة ناظمة، والحدّ من توسّع السوق السوداء من خلال وضع عقوبات رادعة للعاملين بدون ترخيص. 

وفي اليوم نفسه، التأمت لجنة تكنولوجيا المعلومات برئاسة النائب طوني فرنجية وخصصت اجتماعها للاطّلاع من لجنة المعلوماتية في وزارات الداخلية، الاقتصاد، المالية، الاتّصالات ومكتب مكافحة القمار على موضوع المراهنات غير الشرعية عبر الإنترنت. حيث أكد فرنجية على أن هذه المراهنات "تُشكّل نوعاً خطيراً من الإدمان الذي يغزو مجتمعنا اللبناني، وقد يكون أشد وطأة على شبابنا من إدمان المخدرات والكحول وغيرهما". أضاف: "لذلك، نرفع الصوت اليوم عالياً، مؤكدين أننا لا نوافق على هذه المراهنات، وسنعمل على ضبطها".

وبالفعل، قدّم فرنجية في 22 نيسان اقتراح قانون من مادة وحيدة يتخطى مسألة الضبط ليطلب إقفال وحجب كل تطبيقات القمار الإلكتروني بما فيها تلك التي يديرها كازينو لبنان.

كرة القدم باب المراهنات

القمار الإلكتروني متنوّع ومتشعّب لكن النسبة الأكبر منه تتعلق بالمراهنات على الأحداث الرياضية، ولاسيما كرة القدم. وفي ظل تقلّص انتشار بطاقات الائتمان بعد الأزمة المالية، وفي ظل انتشار هذه المراهنات بين القاصرين، فإن لا إمكانية مباشرة للمراهنة عبر التطبيقات أو المواقع الإلكترونية المتخصصة والتي يدار أغلبها من خارج لبنان. لذلك، انتشر السماسرة والوكلاء والمروّجون في أماكن تواجد المراهقين والشباب، ولاسيما في محلات الإنترنت والمقاهي، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في سعي لاستقطاب المراهنين، ولعب دور الوسيط في تسجيل رهاناتهم في أيّ من المواقع المتخصّصة، مقابل عمولة. علماً أن الرهانات متعددة ويمكن أن تشمل نتيجة المباراة أو عدد الأهداف وأسماء مسجّليها، وأفضل لاعب وحتى عدد الإنذارات… 

أحد أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة، بحسب مصدر أمني مسؤول (فضّل عدم ذكر اسمه لعدم حصوله على إذن بالتصريح) هو انتشار مفاهيم خاطئة مثل اعتبار المراهنات عملاً وليس مقامرة تعتمد على الحظ. أضف إلى أن هذه المراهنات تتناسب مع الميل نحو الأعمال السهلة والتي تدرّ أرباحاً سهلة، كما تُعتبر مُسلّية ولا تحتاج إلى مهارة، حيث يتبيّن أن الناشطين فيها قد لا يكونون بالضرورة من المتابعين لكرة القدم على سبيل المثال. 

هذا الواقع ضاعف من المسؤولية الملقاة على عاتق مكتب مكافحة القمار. وبحسب المسؤول المعني، تمّ بالتعاون بين المكتب وشركتيْ الخلوي وأوجيرو وكازينو لبنان والوزارات المعنية من أجل حجب 650 موقعاً للمقامرة خلال عام. كما تمّ توقيف عدد من مروّجي القمار بطريقة غير شرعية. لكن ذلك لا يكفي بحسب المصدر الذي يعتبر أن الأولوية تبقى لتشديد العقوبات، بما يجعلها رادعة، لاسيما أنه وفقاً للقانون الحالي يمكن استبدال عقوبة الحبس بالغرامة، كما يعطى القاضي سلطة استنسابية في ألعاب القمار غير المذكورة صراحة في المادة 632 من قانون العقوبات ("الروليت والبكارا والفرعون والبتي شفو والبوكر المكشوف"). إذ تعرّف المادة القمار بأنه الألعاب التي "يتسلط فيها الحظ على الفطنة والمهارة". وهو ما يؤدي إلى استمرار المروّجين والسماسرة في العمل، بعد دفعهم غرامة مقبولة. أما المشكلة الثانية التي تواجه مساعي الحدّ من هذه الظاهرة فهي سهولة استبدال العناوين الإلكترونية للمواقع المحظورة بمواقع أخرى بأسماء مشابهة، إذ يكفي تغيير حرف في عنوان الموقع، حتى يعود إلى العمل. أضف إلى أن سهولة التواصل بين المروّجين والمقامرين، تسمح لهم بإعلامهم سريعاً بتغيّر أسماء المواقع، ونقل مراهناتهم إلى مواقع إلكترونية أخرى. أما الأكثر شيوعاً للالتفاف  حول إجراءات الحجب، فتتم عبر الاستعانة بخدمة VPN و/أو Proxy (تغيير عنوان بروتوكول الإنترنت الخاص بالجهاز IP، وهو العنوان الذي تستخدمه الحكومات في معرفة موقع المستخدم).

هيئة ناظمة للقمار وعقوبات مشدّدة

 كان لا بد من التحرّك لتأمين أمريْن، كما يقول النائب موسى للمفكرة القانونية: الحد من انتشار هذه الظاهرة بين المراهقين، وتحصيل مدخول ماليّ كبير للخزينة من خلال الضرائب والرسوم (تُقدّر عائدات القطاع ب12 مليون دولار شهرياً)، وهو ما يتحقق من خلال انتقال المراهنات من السوق السوداء إلى مواقع مرخصة، "بما يضمن حقوق اللاعبين بعد وضع نظام صارم يتيح التأكد من أعمارهم". علماً أن المادة 53 من اقتراح موسى توجب على مشغل ألعاب الميسر عبر الإنترنت إنشاء موقع إلكتروني يمكن الوصول إليه فقط عبر اسم الكتروني ينتهي عنوانه بـ lb. 

ينصّ اقتراح القانون الذي يقول موسى إنه احتاج إلى أشهر من التحضير بالتعاون مع الشرطة القضائية ومكتب مكافحة جرائم القمار في قوى الأمن الداخلي، على إنشاء هيئة ناظمة لقطاع ألعاب الميسر عبر الإنترنت، وهي عبارة عن هيئة إدارية مستقلة مهمتها الإشراف والتنظيم. وتشمل صلاحياتها بالأخصّ تحديد شروط الاستحصال على رخصة ألعاب ميسر ودرس طلبات الترخيص ومنح التراخيص فضلا عن مكافحة المواقع غير المرخّصة والتأكد من خلو الألعاب المعروضة من الغش ومكافحة الإدمان على لعب الميسر ولعب القاصرين للميسر عبر الإنترنت.

كما يذهب الاقتراح إلى تشديد العقوبة على المخالفين وتحديدا من يُقدّم للجمهور المقيم في لبنان عرض ألعاب الميسر دون حيازة رخصة بعقوبة حبس تصل إلى سنتين وبغرامة مالية تُعادل قيمة الأرباح المحققة وعلى أن لا تقل عن مليار ليرة. كما تشدّد العقوبة المقترحة إلى الحبس 5 سنوات مع مضاعفة الغرامة إذا كان المخالف عصابة منظمة.

وتالياً، فإن الاقتراح يكون هدف بالدرجة الأولى إلى تنظيم هذا القطاع إلى درجة تخصيصه بهيئة ناظمة مستقلة (وهو أمر مبالغ به طالما أن الهيئات تنشأ عادة للقيام بمهام ذات أولوية اجتماعية ويراد تحصينها إزاء أي تدخل سياسي)، على أن يعاقب بعقوبات قاسية نسبيا كل من لا يلتزم بحدود هذا التنظيم.  

حظر كازينو لبنان والسوق السوداء معاً

مقابل اقتراح موسى المؤلف من 97 مادة، قدّم فرنجية اقتراحاً معجّلاً من مادة وحيدة ذهب إلى الحد الأقصى مقترحاً منع القمار على الإنترنت بشكل نهائي، شاملاً المواقع التي يديرها كازينو لبنان، انطلاقاً من اعتباره أن المشكلة ليست في وجود مواقع ومكاتب مراهنات ووكلاء غير مرخّصين، بل المشكلة في مبدأ انتشار المراهنات عبر شبكة الانترنت. وإذ يدعو الاقتراح إلى إقفال كل مراكز ومكاتب الوسطاء والمراهنات الإلكترونية والصرّافين ومعاونيهم، ينصّ على معاقبة المخالفين بعقوبة حبس تصل إلى سنتين وبغرامة تصل إلى مليار ليرة مع تشديد العقوبة إذا تبيّن مشاركة عسكريين أو قصّر دون ال21 من العمر في هذه الألعاب.

ويشير الاقتراح في أسبابه الموجبة إلى عدم وجود أيّ تشريع يُنظّم ويسمح بالقمار الإلكتروني. كما يشير إلى انتشار هذا القمار "كالنار في الهشيم بين المراهقين والمراهقات"، بما يجعلهم "مُدمنين كمتعاطي المخدّرات ويفعلون أي شيء للحصول على المال علّهم يربحون في المرة القادمة، فيتحولون من مراهقين وطلاب مدارس إلى مجرمين". ويعتبر الاقتراح أن أصحاب هذه التطبيقات يتلطون بنصوص قانونية غير واضحة وصريحة لناحية تجريم القمار والمراهنات الإلكترونية. 

وبالرغم من أن الاقتراح المطروح لا يربط تنفيذه بمدة محددة ولا يوحي أنه ذات صفة مؤقّتة، إلا أنّ الأسباب الموجبة تشير بوضوح إلى أنّ الحظر التامّ لجميع تطبيقات القمار الإلكتروني بما فيها الخاصّة بكازينو لبنان ينتهي بعد صدور قانون تنظيم قطاع الميسر عبر الإنترنت. وبذلك يتبيّن أن اقتراح فرنجية لا يتعارض مع اقتراح موسى، فالأول يطلب تجميد كلّ أنشطة القمار الإلكتروني إلى حين إقرار قانوني تنظيمي للقطاع والثاني يقدم اقتراح التنظيم. وينفي موسى أن يكون قد جرى التنسيق المسبق مع فرنجية، مؤكداً  للمفكرة أنه فوجئ أثناء تقديمه اقتراحه باجتماع لجنة تكنولوجيا المعلومات ومناقشتها الموضوع نفسه، قبل أن يتبين لاحقاً تقديم فرنجية لاقتراح قانون يطالب بوقف كل أنشطة القمار الإلكتروني. وإذ يؤكد موسى على غياب التعارض، إلا أنه يشكّ في إمكانية تطبيق اقتراح زميله، على اعتبار أن الوقف التام سيؤدي إلى توسيع السوق السوداء.

وينطلق اقتراح فرنجية من افتراض أنّ الترخيص المعطى قانونا لكازينو لبنان لا يشمل ممارسة نشاط القمار الإلكتروني وأن أي نشاط مماثل هو غير قانوني. تجدر الإشارة هنا إلى أن مجلس النواب منح، وفقاً للقانون 417/1995، كازينو لبنان حقاً حصرياً لاستثمار العاب القمار في مقر الكازينو في المعاملتين. وعلى الأثر، وقّعت وزارتا السياحة والمالية العقد معه في 14/7/1995، لكن تعديلاً على العقد في 2008 أعطى الكازينو حق المقامرة عبر الإنترنت (عُدّل مرة ثانية في العام 2023 ليعطى الكازينو حقاً حصرياً في كل أنواع القمار عبر الانترنت مهما كان تصنيفها)، بالاستناد إلى قرار عن مجلس الوزراء صدر في العام 2005. وقد دوّن فرنجية في الأسباب الموجبة أن هذا التعديل واقع في غير محله القانوني لصدوره عن مرجع غير صالح لأن توسيع نطاق الامتياز ليشمل القمار الإلكتروني يحتاج إلى صدور قانون يعدّل الامتياز الممنوح. وهو الأمر الذي سبق أن أكد عليه الديوان في رأي أصدره في تشرين الأول 2023، في معرض اعتباره أن العقد الموقّع بين الكازينو والشركة المشغّلة للمنصة الخاصة بالقمار الالكتروني باطل بطلاناً مطلقاً (رأي استشاري غير ملزم). 

وفيما يرى المصدر الأمني أن المنع النهائي ليس هو الحلّ، لا سيما أنه مستحيل تقنياً، يذهب المدير العام لكازينو لبنان رولان خوري إلى التأكيد للمفكرة القانونية أن المشكلة الفعلية هي في السوق السوداء. إذ أن المنصتين المدارتين من قبل كازينو لبنان تتبعان القواعد الصارمة نفسها المتبعة في الكازينو في المعاملتين، لناحية منع أي لاعب يقل عمره عن 21 عاماً، حيث تُطلب هوية اللاعب للتأكد من عمره، كما يُمنع أي لاعب من الاستمرار في حال اعتراض عائلته. ويحرص الموقع على توقيع العميل على استمارة "اعرف عميلك" التي تتضمن معلومات شخصية ومالية عن العميل. 

في المقابل، يشير خوري إلى أن اللعب في السوق السوداء يتم من دون قواعد قانونية، فبين الدّين والابتزاز وحتى الجرائم تدار مكاتب المراهنات غير الشرعية، في حين يرفض اتهام الكازينو بالعمل خلافاً للقانون، مستغرباً كيف كان النقاش في لجنة تكنولوجيا المعلومات مركّزاً على مكافحة السوق السوداء وكيف كانت النتيجة تقديم اقتراح يمنع حتى كازينو لبنان من ممارسة هذا العمل.

في المقابل، وبحسب المعلومات المتقاطعة بين موسى ومصادر مكتب مكافحة القمار، فإن الكازينو يتعامل مع العاملين في السوق السوداء لتأمين الزبائن. وقد عمل الكازينو إلى استخدام عدد كبير من هؤلاء وسطاء لديه. لكن مع ذلك، لا تزال السوق السوداء تتحكّم بما يزيد عن 75% من سوق المراهنات، وهو ما يؤدي إلى زيادة الأموال غير الخاضعة للضريبة وزيادة المخاطر على اللاعبين والمقامرين.  

 

الديوان طلب والحكومة أهملت

وكان ديوان المحاسبة قد أكد في الرأي الاستشاري أن الملحق التعديلي للعقد الموقّع مع الكازينو  والذي يشمل جميع أنواع القمار الإلكتروني "لا يشكّل الغطاء القانوني الكافي الذي يسمح للكازينو بتلزيم القمار أونلاين، ذلك أنّ إعطاء حقّ استثمارها للكازينو يشكل توسعة لنطاق الامتياز، ويحتاج إلى تعديل قانون الامتياز الصادر عام 1995 بموجب نص قانوني، عملاً بقاعدة موازاة الصيغ والأشكال". ولفت إلى أنّ "القمار أونلاين يشكّل قطاعاً مستقلاً تماماً عن القمار داخل الكازينوهات، له قوانينه الخاصة وتراخيصه المستقلّة عن تراخيص نوادي القمار. وهو قطاع يحتاج قبل كل شيء إلى تشريعه في مجلس النواب". وبالتالي طلب الديوان من الحكومة النظر في إلغاء هذا العقد، الذي تبيّن أن وزارة المالية هي التي دفعت نحو إتمامه بعدما طلبت إجراء مزايدة لتلزيم إدارة المنصة، بحيث تُرك لها تقدير عواقب فسخ العقد في حال كان يتضمن بنوداً جزائية. وفيما كان يفترض بالحكومة أن تسارع إما إلى تقديم مشروع قانون لتنظيم القطاع أو إلى إلغاء العقد، لم تحرك ساكناً حتى اليوم.