المجلس الدستوري ينقذ النظام البرلماني: إدانة فوضى التشريع وتعرية المحاضر "الرسميّة"

وسام اللحام , نيقولا غصن

08/01/2025

انشر المقال

في تطوّر بارز، أصدر المجلس الدستوري في تاريخ 7 كانون الثاني 2025  قراره رقم 1/2025 بإبطال  القانون رقم 327 الصادر في 4 كانون الأول 2024 والرامي إلى تعديل قانون القضاء العدلي من أجل التمديد لأعضاء مجلس القضاء الأعلى المنتهية ولايتهم وتمديد سن التقاعد لبعض القضاة على أساس قواعد تمييزية. وقد صدر القرار في إطار طعون تقدّم بها أربع مجموعات من النواب، علما أن أبرزها هو الذي تم إعداده من قبل المفكرة القانونية ونادي قضاة لبنان والذي تمّ ضمّ الطعون الثلاثة الأخرى إليه.  

وللتذكير، يهدف القانون الذي جرى ابطاله إلى إعادة إحياء عضوية أعضاء في مجلس القضاء الأعلى انتهت ولايتهم في 14 تشرين الأول 2024 إلى حين تعيين بدلاء عنهم، بالإضافة إلى تعديله القانون كي يصبح النائب العامّ التمييزي بالتكليف أو بالإنابة عضوًا حكميًّا ونائبًا لرئيس مجلس القضاء الأعلى أسوة بالنائب العام التمييزي بالأصالة. بالإضافة إلى ذلك، ينصّ القانون على التمديد للقضاة الذين يبلغون سنّ التقاعد بين 15/3/2025 و15/5/2026 والذين يتطلّب تعيينهم في مراكزهم مرسومًا يتخذ في مجلس الوزراء وذلك لمدّة ستة أشهر من تاريخ تقاعدهم.  

وقد اطّلع المجلس الدستوري على المخالفات الدستوريّة التي أثارتها المراجعات وفنّدها، مستندًا على عدد منها من أجل إبطال القانون كليًّا وهي مخالفة الدستور لناحية أصول التشريع لا سيما التصويت، ومخالفة مبدأ وضوح النقاشات البرلمانية وعدم استشارة مجلس القضاء الأعلى بشأن القانون المطعون فيه قبل التصويت عليه في المجلس النيابي، بالإضافة إلى مخالفة مبدأ استقلاليّة القضاء ومبدأ المساواة أمام القانون ومبدأ الفصل بين السلطات ومبدأ وضوح وفقه النص التي هي كلّها ذات قيمة دستوريّة، بحسب ما ورد في الفقرة الحكميّة من قرار المجلس. 

إنطلاقًا مما تقدّم، وفيما كانت المفكرة القانونية أجرت أمس مطالعة شاملة للقرار، سنكتفي هنا بالتركيز على مضمون القرار لجهة أصول التشريع نظرا لأهميته الاستثنائية ودوره الريادي في تفعيل رقابة المجلس الدستوري.

المجلس الدستوري يعزز طرق الرقابة: المحاضر "الرسمية" ليست كافية

لا شكّ أن أهمّ تطوّر يكرّسه هذا القرار هو تعزيز رقابة المجلس الدستوري وقيامه بدوره الاستقصائي للمرّة الأولى منذ إنشائه عبر مقارنة محضر الجلسة "الرسمي" بالتسجيل الصوتي الذي تمكن المجلس من الحصول عليه هذه المرة بعد أن طلبه من رئاسة مجلس النواب. فقد أعلن المجلس الدستوري أنه بالعودة إلى محضر جلسة مناقشة القانون في الهيئة العامة ومقارنته بالتسجيل الصوتي للجلسة، "يتبين أن اقتراح القانون الذي تمت تلاوته من قبل النائب علي حسن خليل قبل أن يعرضه رئيس المجلس على التصويت لم تتم مناقشته بالصيغة التي تلي فيها من قبل النائب خليل، ولا بصيغته النهائية التي تم نشرها في الجريدة الرسمية". إذ أن رقابة المجلس الدستوري لا تقتصر على مضمون النصّ الذي جرى الطعن به لكن تمتدّ لتشمل أصول التشريع التي لا يمكن مراقبتها بشكل جديّ إلا إذ تمكن المجلس من الوصول إلى كافة مجريات الجلسة التشريعية بأدقّ تفاصيلها. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاستماع إلى التسجيل الصوتي للجلسة كون المحاضر الرسمية التي تعدّها الأمانة العامّة لمجلس النواب بات يتمّ التشكيك في مدى دقة نقلها للوقائع لا سيما في الآونة الأخيرة حيث تعالتْ أصوات النواب أكثر من مرة للتنديد بمصداقية هذه المحاضر.

وهذا ما يظهر جليّا من خلال مقارنة القرار الحالي مع قرار المجلس الدستوري رقم 5 تاريخ 28 أيار 2024 الذي قضى بردّ الطعن ضد قانون تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية عندما اكتفى المجلس بمحضر الجلسة الرسمي والذي نصّ على أن القانون جرى التصويت عليه وفقا للآليّة الدستورية وحصل على الغالبية المطلوبة، علما أن الطعون أشارت حينها إلى أنّ القانون جرى إقراره في ظلّ فقدان النصاب ومن دون التصويت عليه بالمناداة بالأسماء بل برفع الأيدي فقط. آنذاك، حال ركون المجلس الدستوري إلى المحضر الرسمي دون التحقق من صحة مجريات جلسة إقرار قانون التمديد للبلديات، فيما سمح له حصوله على التسجيل الصوتي في القرار الحالي بممارسة دوره الرقابي بشكل كامل وصولا إلى دحض توصيف المحضر لوقائع الجلسة. وبذلك، يكون المجلس الدستوري قد فضح عدم أمانة وحرفية المحضر الذي أعدته إدارة مجلس النواب الأمر الذي يلقي ظلالا كثيفة من الشكوك بشأن مصداقية جميع المحاضر التي تولت هذه الدوائر إعدادها في الفترة الأخيرة، والأهم يشكل ضمانة قضائية ضد تكرار الفوضى مستقبلا.

مخالفة أصول التشريع تسمع ولا تقرأ  

ومن النقاط الجوهرية التي تمكن المجلس الدستوري من اكتشافها خلال استماعه للتسجيل الصوتي ليس فقط اختلاف الصيغ بين النص الذي جرى اقتراحه والنص الذي نشر في الجريدة الرسمية لكن الأخطر أيضا هو عدم حصول القانون  أصلا على الغالبية الدستورية من أجل إقراره. 

فقد لاحظ المجلس الدستوري أن رئيس مجلس النواب طرح القانون على التصويت بطريقة رفع الأيدي ما يشكل مخالفة صريحة للمادة 36 من الدستور التي تفرض التصويت على القوانين بطريقة المناداة على الأسماء عملا بمبدأ علانيّة جلسات البرلمان. وفي ظلّ اعتراض عدد من النواب على كيفية التصويت، عمد رئيس المجلس إلى طرح القانون مجددا على التصويت لكن عبر المناداة على النواب بأسمائهم "إلا أنه تبين من التسجيل الصوتي أن المناداة اقتصرت على تلاوة أسماء" 12 نائبا "من دون انتظار جوابهم بالموافقة أم بعدمها". ويضيف القرار أن رئيس المجلس النيابي سمع صوته يعلن تصديق القانون في ظل ضجيج عارم.

وما يفاقم من فداحة المحضر الرسمي ومدى انحرافه عن الحقيقة هو ما أكده المجلس الدستوري بأن "عدد النواب الذي نودي عليهم لا يتعدى الإثني عشر نائبا، إلا أنه لا يتبين أن هؤلاء النواب صوتوا بالموافقة على القانون خاصة أنهم جميعا من عداد الطاعنين به". وهكذا يصبح جليا أن المحضر الذي ينقل إقرار القانون من قبل غالبية النواب عبر المناداة على الأسماء يحتوي على معلومات مغلوطة ووقائع زائفة ترقى إلى حدّ التزوير ما يشكل إدانة مكتملة الأوصاف للجهة التي أشرفت على إعداد هكذا محضر.

ويشير القرار إلى نقطة مهمة أخرى تظهر ضعف مصداقية المحضر الرسمي تتعلق بطلب العديد من النواب تدوين اعتراضهم في المحضر عبر سماعهم في التسجيل الصوتي من دون إضافة طلبهم باستثناء اعتراض النائب جميل السيد. 

وقد وثق المرصد البرلماني جميع هذه المخالفات التي تمكن المجلس الدستوري من التحقق منها بعد حصوله على التسجيل الصوتي ما يظهر مرة أخرى أهمية عدم الاكتفاء بالمحضر الرسمي المكتوب وضرورة توسيع مبدأ علانية المناقشات كي يشمل وسائل الإعلام المتخصصة، وضمنا المرصد البرلماني للمفكرة القانونية، ما يساعد  المجلس الدستوري على القيام بدوره على أكمل وجه. 

وقد استخلص المجلس الدستوري النتائج الأكيدة لما جرى، إذ أعلن أن إقرار قانون التمديد لمجلس القضاء الأعلى بهذه الطريقة يشكل ليس فقط مخالفة لأصول التشريع بل هو مخالف لمبادئ النظام الديمقراطي البرلماني المعمول به في لبنان، ولمبدأ وضوح المناقشات البرلمانية ذي القيمة الدستورية النابع من مبدأ السيادة الشعبية ما يجب إبطاله كليا.     

فمن خلال رفض تدوين اعتراض النواب وعدم التصويت العلني على القانون ومسارعة رئيس المجلس إلى إعلان تصديق القانون قبل سماع رأي النواب، يكون مجلس النواب قد فقد مبرر وجوده وخسر سيادته على نفسه التي جرى مصادرتها من قبل رئيس المجلس أولا، والأمانة العامة لمجلس النواب ثانيا عبر موافقتها على صياغة محضر رسمي يطعن في صميم الحياة النيابية ويقوّض أركان أبسط المفاهيم الديمقراطية.

فالمجلس الدستوري في قراره هذا يكون قد انتصر لسيادة الشعب اللبناني وأنقذ النظام البرلماني وانتشله من حضيض المحاضر الرسمية الزائفة. فبعد هذا القرار لا يمكن إلا والتفكير في مسؤولية الدوائر الإدارية في مجلس النواب التي تشرف على تدوين المحاضر وتحميلها كامل مسؤولية عدم دقة هذه الأخيرة ما يحتم على المعنيين بالأمر اتخاذ التدابير الضرورية لمنع تكرار هكذا ممارسات التي تتراوح بين التقصير الفاضح في الحد الأدنى والتزوير المتعمد في الحد الأقصى.