مسألة "التفويض" في الاستشارات النيابية

وسام اللحام

11/01/2025

انشر المقال

بعد انتخاب العماد جوزف عون رئيسا للجمهورية وتولّيه لصلاحياته الدستورية، أعلنت المديرية العامة لرئاسة الجمهورية إجراء الاستشارات النيابية الملزمة نهار الإثنين في 13 كانون الثاني المقبل. لذلك كان لا بدّ من التذكير بتاريخ هذه الاستشارات وطبيعتها الدستوريّة ومن ثم طرح إشكاليّة مدى جواز تفويض النواب رئيس الجمهورية حقّ تسمية رئيس الحكومة لا سيما في بداية العهد الجديد حيث يحتاج الرئيس جوزف عون لوجود حكومة منسجمة مع توجهاته الإصلاحية التي أعلن عنها في خطاب القسم.

 

الاستشارات النيابية: نظرة تاريخية سريعة  

عرف لبنان الاستشارات النيابية منذ السنين الأولى التي أعقبت إقرار الدستور اللبناني سنة 1926. وهي لم تكن مرتبطة بالتوزيع الطائفي للرئاسات كما بات الحال اليوم، بل كانت انعكاسًا للتوازن السياسي الهشّ القائم في مجلس النواب وضعف رئاسة الجمهورية وحاجتها الدائمة إلى تدخل المفوض السامي الفرنسي من أجل تأمين الأكثرية المطلوبة للحكومة. وقد انعكس هذا الأمر في العمر القصير للحكومات المتعاقبة لا سيما في عهد الرئيس شارل دباس، والمناكفات السياسية الدائمة بين النواب الذين سعوا لإسقاط الحكومات من أجل الحصول على حقيبة وزارية في الحكومة المقبلة.

وقد جرت أقدم الاستشارات النيابية التي تمكنّا من رصدها في تاريخ 5 كانون الثاني 1928، عندما استقبل رئيس الجمهورية شارل دباس رئيس مجلس النواب الشيخ محمد الجسر ومن ثم النواب فردا فردا من أجل التباحث في تشكيل الحكومة المقبلة. وعقب الاستشارات، تم تشكيل الحكومة برئاسة بشارة الخوري. وهكذا استمر الوضع في ظل الانتداب الفرنسي إذ كانت الاستشارات حاجة ضرورية في ظل سلطة تنفيذية ضعيفة ومجلس يهيمن عليه الوجهاء وتغيب عنه الأحزاب السياسية المنظمة.

تبدّلت طبيعة الاستشارات بعد الاستقلال عندما تمّ تخصيص رئاسة مجلس الوزراء لشخصية من الطائفة السنية. إذ باتت الاستشارات وسيلة من أجل تأمين الشراكة الطائفية في السلطة التنفيذية والحدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية الذي كانت المادة 53 القديمة من الدستور تمنحه حرية مطلقة بتسمية من يشاء كرئيس للحكومة. لكن هذه الاستشارات لم تكن واجبا يفرضه الدستور بل مجرّد تقليد تمّ اتباعه في لبنان نقلا عن الجمهورية الثالثة في فرنسا حيث كان رئيس الجمهورية يستشير رئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب وأحيانا نائب رئيس مجلس الشيوخ ونائب رئيس مجلس النواب قبل تكليف الشخص المعني بتشكيل الحكومة. وقد أثيرتْ طبيعة هذه الاستشارات سنة 1966 عندما انتقد رشيد كرامي طريقة تكليف عبدالله اليافي تشكيل الحكومة، كونه من خارج مجلس النواب ولم تتمّ تسميته خلال الاستشارات. فما كان من صائب سلام إلا وأن أعلن أنّ الاستشارات ليست ملزمة إذ لو كانت كذلك لوجب "على فخامة رئيس الجمهورية إما أن يبعث بصندوق مغلق إلى هذه القاعة أو يضع صندوقاً مغلقاً في قصر الرئاسة فيأتي كل نائب ويضع ورقته فيها للتصويت لفلان أو لفلان. هذا ليس هو الشيء المقصود في النظام البرلماني الذي نمارسه. إن المقصود من الاستشارات النيابية أيها السادة، هو أن يكون لفخامة رئيس الجمهورية رأيٌ صحيح يتقبله هذا المجلس ويؤيده. وبعد الاستشارات الأخيرة، وقد قيل أيضاً ما قيل هنا، بأن فخامة رئيس الجمهورية كان قد سمّى له فلانا أو فلانا، كثيرون منكم أيها النواب الكرام ترك الأمر له وبين يديه، فأخذ كل الاعتبارات بنظره، وأخذ وضع المجلس والرأي العام، وأخذ مصلحة هذا البلد، فكلف الدكتور عبد الله اليافي، وأنا أعلم أنه في التصويت الذي سيجري هذا اليوم على الثقة بالحكومة سيؤيد رئيس الجمهورية فيما ذهب إليه" (محضر جلسة 28 نيسان 1966).

تحوّلت الطبيعة غير الملزمة للاستشارات إلى سببٍ للخلاف السياسي حول التوزيع الطائفي للصلاحيّات، لا سيما بعدما أثار قيام الرئيس سليمان فرنجية بتعيين أمين الحافظ رئيسا لمجلس الوزراء سنة 1973 من خارج الزعماء التقليديين حفيظة نواب الطائفة السنية الذين قرروا مقاطعة جلسة منح الحكومة الثقة ما دفع أمين الحافظ إلى تقديم استقالته. وبعد اندلاع الحرب الأهلية، تمّ طرح إدخال تعديلات دستوريّة عديدة من بينها انتخاب رئيس مجلس الوزراء مباشرة من قبل مجلس النواب كما ورد في الوثيقة الدستورية التي أعلنها الرئيس فرنجية سنة 1976 أو كما تم التداول به في مؤتمري جنيف ولوزان بين 1983 و1984. 

شكل انتخاب رئيس الحكومة سببًا للخلاف السياسيّ ولم يتم التوافق عليه كون ذلك يؤدّي إلى منحه شرعية مماثلة لرئيس الجمهورية المنتخب في مجلس النواب الذي يفقد تبعا لذلك أيّ دور له في تسمية رئيس مجلس الوزراء. وهكذا كان الحلّ الوسطي هو جعل الاستشارات النيابية ملزمة ما يعني أن رئيس الجمهورية يحتفظ بدور ما خلال عملية التكليف، لكنّه لا يستطيع أن يرفض إرادة غالبية النواب. وهذا ما كرّسته وثيقة الوفاق الوطني ومن ثم الدستور اللبناني عندما جرى تعديله سنة 1990.

 

الإشكاليات الدستورية في الاستشارات النيابية بعد الطائف 

جاء النصّ الدستوريّ الذي كرّس الاستشارات النيابية الملزمة مقتضبًا جدًّا إذ نصّت الفقرة الثانية من المادة 53 على التالي: "يسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجه"· أي أن الدستور لم يفرض أيّة مهلة أو آلية تنظم كيفية إجراء هذه الاستشارات ولا حتى معرفة ما هي الغالبية المطلوبة لتكليف رئيس الحكومة. ففي حال لم تتمكن أية شخصية من الحصول على تأييد الغالبية المطلقة (65 نائبا) من النواب، هل على رئيس الجمهورية تسميّة من حصل على الغالبية النسبية فقط؟ هل عليه إعادة إجراء الاستشارات؟ هل يمكن له حينها أن يقرّر بنفسه من هو من بين المرشحين من يمتلك القدرة على تشكيل حكومة تتمكن من الحصول على الثقة؟ 

لا شيء في الدستور يسمح بالإجابة على هذه الأسئلة، علمًا أن آخر استشارات نيابية قام بها الرئيس ميشال عون قبل نهاية ولايته أفضت إلى تكليف نجيب ميقاتي في 23 حزيران 2022 على الرغم من أنه حصل فقط على دعم 54 نائبا، أي أقلّ من الغالبية المطلقة لمجلس النواب لكن رئيس الجمهورية حينها اختار تسميته.

ومن خلال الدعوة إلى استشارات نيابية جديدة، يكون الرئيس جوزف عون قد حسم مسألة أخرى كون الرئيس نجيب ميقاتي جرى تكليفه من قبل الرئيس السابق ميشال عون ومن ثم انتهت ولاية هذا الأخير ما يعني أن الرئيس ميقاتي لم يتمكن من تشكيل حكومته. لذلك يكون تكليف الرئيس ميقاتي قد سقط بنهاية ولاية رئيس الجمهورية الذي سمّاه كون التكليف لا يستمرّ لأن بدء ولاية رئيس الجمهورية يفرض إجراء استشارات نيابية جديدة، كون هذا الأخير هو طرف أساسي في عملية التكليف ما يوجب إعادتها في حال تغيّر رئيس الجمهورية. 

ولا شكّ أن هذه المسألة تساعدنا على فهم قضية أخرى شكّلت محورا خلافيا له أبعاد طائفية تتعلق بحق النواب تفويض رئيس الجمهورية اختيار الشخص المناسب. وقد طرحت لأول مرة سنة 1998 عندما فوّض 31 نائبا الرئيس اميل لحود المنتخب حديثا تسمية من يشاء لرئاسة الحكومة، ما أثار حفيظة الرئيس رفيق الحريري الذي وجد في ذلك خرقا للدستور ومسا بصلاحيات رئيس الحكومة على الرغم من أنه نال تأييد 83 نائبا. وقد أبلغ الرئيس لحود الحريري في 27 تشرين الثاني 1998 نتيجة الاستشارات النيابية لكنه رفض التكليف مصرا على ضرورة إعادة الاستشارات كون التفويض لا يجوز دستوريا. 

أمام هذا الواقع، منح الرئيس لحود رفيق الحريري مهلة للتفكير واعتبر أن الاستشارات النيابية لا تنطوي على أي مخالفة دستورية لكن الرئيس الحريري صرّح لوسائل الإعلام أن رئيس الجمهورية خالف الدستور. فما كان من الرئيس لحود إلا وأن أصدر بيانا في 30 تشرين الثاني 1998 أعلن فيه قبول اعتذار الحريري وإجراء استشارات نيابية جديدة أفضت إلى تسمية سليم الحص. 

ولا شكّ أن الاعتبارات التي انطلق منها الرئيس الحريري كانت سياسية أكثر منها دستورية إذ وجد في اتهام رئيس الجمهورية بخرق صلاحيات رئيس الحكومة وسيلة من أجل تعزيز موقعه السياسي في بداية عهد لحود الذي لم يكن على وفاق معه. وما يؤكد هذا الأمر هو أن تفويض رئيس الجمهورية سبق وأن حدث في الاستشارات النيابية التي أجراها الرئيس الياس الهراوي في 19 أيار 1995 عندما تم تكليف رفيق الحريري نفسه لتشكيل الحكومة إذ قام عدد من النواب بتفويض الرئيس الهراوي من بينهم رئيس حكومة سابق هو النائب رشيد الصلح.

من الناحية الدستورية الصرفة، لا شيء يمنع النائب من تفويض رئيس الجمهورية كون الاستشارات تحديدا ليست انتخابا وهي وجدت أصلا كي تمنح رئيس الجمهورية دورا ما في عملية التكليف. وفي حال لم يكن النائب راضيا على خيار رئيس الجمهورية يستطيع بكل بساطة رفض منح الحكومة الجديدة الثقة وإسقاطها أمام مجلس النواب أي أن قواعد النظام البرلماني تظل محترمة ولا تتعرض لأي نوع من أنواع الخرق. ولا يردّ على ذلك بأنّ المادة 45 تمنع على النواب التصويت وكالة كون المادّة تتعلق بالتصويت على القوانين خلال جلسة تشريعية، كون التصويت هو صلاحية دستورية خاصة بشخص النائب بينما الاستشارات تفرض بطبيعتها تبادلًا للآراء قد تفضي إلى اقتناع النائب بضرورة تفويض رئيس الجمهورية، أو حتى قد يقوم النائب بكل بساطة بتسمية الشخص الذي يريده رئيس الجمهورية ما يعني أن الغاية من التفويض تكون قد تحققت من دون وجود تفويض شكلي.  

ولا يصحّ القول من الناحية الدستورية أن مجلس النواب هو من يكلّف رئيس الحكومة كون رئيس الجمهورية لا يجري الاستشارات مع مجلس النواب لكن مع النواب. فمجلس النواب ليس مجموع النواب فقط بل هو هيئة جماعية تجتمع وتتخذ قراراتها وفقا لأصول حددها الدستور، بينما الاستشارات النيابية تتم مع النواب من دون حتى تحديد كيفية استشارتهم كون رئيس الجمهورية حرّا باستشارة كل نائب بمفرده أو استشارة النواب عبر كتلهم النيابيّة. لذلك لا يوجد أيّ مانع دستوري يحول دون تفويض النائب رئيس الجمهورية كون الاستشارات النيابيّة تنطلق من مبادئ النظام البرلماني التي تحتّم حصول الحكومة على الثقة السياسية لمجلس النواب. فإذا كان الهدف من الاستشارات الملزمة هو ضمان تشكيل حكومة تحصل على ثقة الغالبية النيابية، فإن التفويض الحر الصادر عن النائب لرئيس الجمهورية بتسمية رئيس الحكومة يؤدي إلى النتيجة ذاتها أي تشكيل حكومة تحظى بثقة مجلس النواب علما أن هذا التفويض لن يعطي نتيجة في حال كان عدد النواب المفوضين ضئيلا إذ يصبح رئيس الجمهورية ملزما بتسمية الشخصية التي حصلت على تأييد غالبية النواب.