بدعة القوانين المجمّدة: التعطيل بهدف المساومة مجدّدا

وسام اللحام

30/09/2025

انشر المقال

انفضّت جلسة مجلس النواب التي عقدت بتاريخ 29 أيلول 2025 بعد فقدان النصاب الدستوري بسبب الخلاف السياسي بين الكتل النيابية حول ضرورة طرح تعديلات قانون الانتخابات على الهيئة العامة. ونتيجة لعدم استكمال دراسة جميع البنود التي كانت مدرجة على جدول الأعمال، دعا رئيس المجلس نبيه برّي إلى جلسة نيابية ثانية بتاريخ 30 أيلول لكنّها لم تنعقدْ بسبب عدم توفّر النّصاب. 

وعلى أثر هذه التطوّرات، أعلن نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب أن القوانين التي أقرّها مجلس النواب في الجلسة الأولى تعتبر مجمّدة لأن المحضر لم يتم التصديق عليه كما يحدث عادة بينما ذهب النائب جورج عدوان أن هذه القوانين تعتبر نافذة لأن الجلسة الأولى انتهت ولا علاقة لها بالجلسة الثانية التي لم تنعقد. ولا شك أن هذا الجدال يطرح مجموعة من الأسئلة القانونية التي يتوجب مناقشتها من أجل تبيان خطورة تداعيات ما حدث على النظام البرلماني واستخلاص نتائجه التي تسمح بتكوين فهم دقيق لكيفية عمل النظام السياسي اللبناني.

يعتبر تصديق مجلس النواب على خلاصة محاضر جلساته وسيلة من وسائل ممارسة هذا الأخير سيادته على نفسه. إذ أنّ التصديق على المحضر يعني أنّ الهيئة العامّة أخذت علمًا بجميع القرارات التي تمّ التوصل إليها خلال الجلسة وهي تجيزها وتقبل بنتائجها [1]. وتتجلّى أهميّة هذا الإجراء في أبعاده كونه يعني أولا عدم وجود اعتراض من قبل النوّاب على ما حصل خلال الجلسة[2]، وثانيا والأهمّ تمكين الجهة التي تشرف على إدارة مجلس النواب من استكمال المسار الدستوريّ للقوانين عبر إرسالها إلى السّلطة التنفيذية من أجل إصدارها. إذ أنه ليس بإمكان هذه الأخيرة استخلاص النتائج الدستورية لما يحصل في الجلسات التشريعية من تلقاء نفسها بل يتوجب عليها الحصول على إخطار رسميّ من مجلس النواب يُفيد بإقرار قوانين كي يتمكّن رئيس الجمهورية من إصدارها أو ردّها.

وفي لبنان يعمد رئيس مجلس النواب إلى إخطار السلطة التنفيذيّة بإقرار القوانين عبر كتاب رسميّ يحمل توقيعه موجّه إلى رئاسة مجلس الوزراء، علمًا أنّ هذه الصلاحيّة لا وجود لها في النظام الداخليّ الذي لا يضع أيّ أصول تشرح كيفية التواصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بعد إقرار القوانين خلافا مثلا للنظام الداخلي للجمعية الوطنية الفرنسية الذي ينص في المادة 115 منه على أن رئيس الجمعية الوطنية هو من يقوم بإخطار رئيس الجمهورية عندما يتم تبنّي القانون نهائيّا بواسطة أمين عام الحكومة بغية إصداره[3].

وهكذا يتبيّن أنّ التصديق على خلاصة المحضر هو شرط ضروريّ من أجل تمكين رئيس مجلس النواب من إرسال القوانين التي أقرّها مجلس النواب إلى الحكومة كون المهلة الدستورية لإصدار القانون لا تبدأ بالسريان عملا بالمادة 56 من الدستور إلا من تاريخ تلك الإحالة. ومن هنا نفهم لماذا شدّد النظام الداخلي على ضرورة التصديق على خلاصة المحضر إذ نصّ في المادة 59 منه على التالي: "تصدق خلاصة محضر كل جلسة في مستهلّ الجلسة التي تلي، إلا إذا رأت الرئاسة أنّ المقرّرات التي اتخذت تستوجب التصديق في نهاية الجلسة، حينئذ يصدق المحضر في ختام الجلسة".

ومن الملاحظ أن التصديق على خلاصة المحضر يجب أن يتم في المبدأ في مستهل أول جلسة تالية، وهذا من أجل منح النواب فرصة مراجعة وقائع الجلسة التي انقضت. إذ أن خلاصة المحضر تعدها دوائر مجلس النواب التي تخضع لسلطة رئيس المجلس ما يعني أن بإمكان النائب الاعتراض على خلاصة المحضر في حال تبيّن له أن هذه الأخيرة تخالف الوقائع. وتضيف المادة 59 من النظام الداخلي أنّ خلاصة المحضر يجب تصديقها في نهاية الجلسة في الحالات التالية: 1) عندما يصدق المجلس على مشروع أو اقتراح قانون معجّل مكرّر، 2) في الجلسة الأخيرة من العقود العادية أو الاستثنائية، 3) في الجلسة الأخيرة من ولاية المجلس، 4) في جلسات الثقة بالحكومة، و 5) وفي الحالات التي تقررها الأكثرية.

وعلى الرغم من أن النظام الداخليّ يمنح رئيس المجلس حقًا اختياريّا بتصديق الملخص في نهاية الجلسة نفسها لكن رئيس مجلس النواب الحالي نبيه بري عمد دائمًا إلى استخدام هذا الحقّ من دون أيّ شرح أو تبرير، فيبادر إلى تصديق خلاصة محضر كلّ الجلسات في نهايتها.   

ولا شكّ أن أهمية التصديق على خلاصة المحضر تظهر بشكل جليّ في المادة 60 من النظام الداخليّ التي تنصّ على التالي: " إذا لم يحصل التصديق على خلاصة المحضر وفقاً للمادة السابقة لأيّ سبب كان وتعذّر اجتماع المجلس إمّا لعدم اكتمال النصاب في الجلسة التالية أو لانتهاء العقد أو لانتهاء ولايته، تجتمع هيئة مكتب المجلس وفقا للأصول المعيّنة لاجتماع اللجان وتصدق على المحضر".

وقد شرحت المفكرة القانونية في الورقة البحثية حول النظام الداخلي الخلفيّة التاريخيّة التي دفعت مجلس النواب إلى تبنّي هذه المادة وقد تمّ ذلك لأول مرة في سنة 1957، عندما فشل هذا الأخير في الاجتماع بسبب فقدان النّصاب ما دفع مكتب المجلس إلى التصديق بنفسه على هذه الخلاصة. وقد تمّ تكريس هذا الاجتهاد لاحقًا في النظام الداخلي لمجلس النواب. إذ أن أهميّة التّصديق تنبع من نتائجه لأن أعمال مجلس النواب لا وجود قانوني لها إلا بعد تصديق خلاصة محاضر الجلسات. وقد تنبّهت المادة 67 من النظام الداخلي القديم لسنة 1953 لهذا الأمر فنصت على التالي: "لا ترسل مقررات المجلس إلى الحكومة ولا تذاع إلا بعد تصديق محضر الجلسة التي اتخذت فيها مقررات أو صدق فيها على المشاريع والاقتراحات"، بينما يغيب أي نص مشابه عن النظام الداخليّ النافذ حاليا لكن الممارسة القديمة لا تزال قائمة بحكم العادة المتبعة.

وهكذا يتبيّن من كلّ هذه الشواهد أنّ تصديق خلاصة المحضر يعني موافقة الهيئة العامة لمجلس النواب عليه، ما يعني حكما أن هذه الموافقة تتطلب إما حصول تصويت علني وصريح من قبل النواب كي تتمكن الأغلبية من التعبير عن رأيها، أو أن يسأل رئيس المجلس بعد تلاوة الخلاصة هل من اعتراض عليها وفي حال السكوت تعتبر مصدقة علما أن هذه الآلية كانت متبعة قديما في مجلس النواب [4]. إلا أنّ مراقبة جلسات مجلس النواب سواء تلك التي يتمّ بثّها مباشرةً عبر وسائل الإعلام أو تلك التي يضع المرصد البرلماني تقريرا بشأنها تظهر بما لا يقبل أيّ شكّ أنّ رئيس مجلس النواب لا يطرح خلاصة المحضر على التصويت، ولا ينتظر حتى انتهاء تلاوتها كي يتمكن النواب من إبداء رأيهم في حال وجود اعتراضات، بل يكتفي بإعلان التصديق عليها من تلقاء نفسه قبل حتى الانتهاء من تلاوتها.

جراء ما تقدم يمكن القول بأن جميع القوانين التي قام رئيس مجلس النواب بإحالتها إلى الحكومة لإصدارها خلال السنوات العديدة المنصرمة لم يتم التصديق أصولا على خلاصة محاضر الجلسات التي شهدت إقراراها، وهي يجب أن تكون بحكم موقف نائب رئيس مجلس النواب اليوم بحكم المجمدة، وهذا بالطبع أمر لا يعقل لأن الحكومة غير مسؤولة عن مخالفة أحكام النظام الداخلي التي يرتكبها رئيس المجلس في ظل صمت مريب من غالبية النواب. فالحكومة بمجرد استلامها للقوانين من مجلس النواب يتوجب عليها متابعة مسارها الدستوري عبر إحالتها إلى رئيس الجمهورية كي يتولّى إصدارها أو ردها. حتى الطعن بالقانون أمام المجلس الدستوري لن يجدي نفعا لأن هذا الأخير لا يراقب مدى احترام مجلس النواب لنظامه الداخلي إلا إذا كان في تلك المخالفة مخالفة للدستور.

وقد أشار المرصد البرلماني في تقريره حول جلسة 29 أيلول أن رئيس مجلس النواب صدق خلاصة المحضر في نهاية الجلسة وهو صدقها بطريقة شكلية من دون طرح الأمر على تصويت النواب. إذ عملًا بالنّهج الذي سار عليه رئيس المجلس لسنوات طويلة، على هذا الأخير أن يعتبر أن خلاصة المحضر قد صدّقت، ما يعني أنه بات ملزمًا بإحالتها إلى الحكومة ولا يمكن له بأيّ شكلٍ من الأشكال أن يعتبرها مجمّدة، وأيّ قول مخالف لذلك يعني أن اعتباطية رئيس المجلس باتت اعتباطية مزدوجة: اعتباطية أولى في نهجه بالتصديق على خلاصة محاضر الجلسات بشكل وهميّ واعتباطية ثانية من خلال مخالفتها للقاعدة التي هو ألزم نفسه بها هذا في حال قرر رفض إحالة القوانين إلى الحكومة وتجميدها من أجل المقايضة السياسية عليها مع باقي الكتل النيابية.

فلو افترضنا أن التصديق لم يتمّ على خلاصة المحضر بسبب عدم توفر النصاب، يمكن لمكتب المجلس أن يجتمع من أجل التصديق عليه عملا بالمادة 60 من النظام الداخلي، ما يعني أن القوانين لا يجب أن تظلّ مجمّدة كما زعم نائب رئيس مجلس النواب بانتظار حصول تسوية سياسية بين الكتل المهيمنة على مجلس النواب. فالتمنع عن دعوة مكتب المجلس للتصديق على محضر الجلسة لا يمكن فهمه إلا من ضمن المنطق التعطيلي نفسه الذي سار عليه النواب الذين أفقدوا الجلسة الأولى نصابها أو قاطعوا الجلسة الثانية. 

لا بل أفدح من ذلك، يظهر من مراقبة المرصد البرلماني أن رئيس المجلس صدق على خلاصة المحضر عندما كان البرلمان قد فقد فعليا نصابه، ما يجعل من هذا التصديق من دون أي قيمة قانونية، وهذا ما لم يتنبه له سائر النواب لا سيما أولئك الذين قاطعوا الجلسة الثانية. لكن الإعلان أن القوانين باتت مجمدة حصل عندما تبين أن الجلسة الثانية لن تعقد بسبب عدم توفر النصاب ما يشي بأن الهدف هو التعطيل المتبادل وليس احترام الأصول البرلمانية ولا أحكام النظام الداخلي. وهكذا نصل إلى نتيجة بالغة الخطورة مفادها أن المخالفات كانت متعددة وهي كفيلة بنزع عن الجلسة أي شرعية مؤسساتية: فخلاصة المحضر لم يتم التصويت عليها من قبل النواب، ورئيس المجلس أعلن التصديق عليها منفردا في ظل فقدان النصاب، ومن ثم أعلن نائب رئيس المجلس تجميد القوانين في ظل صراع سياسي بين الكتل النيابية من دون الإشارة إلى إمكانية التصديق على خلاصة المحضر من قبل مكتب المجلس، هذا كله مع احتمال رفض رئيس المجلس إحالة القوانين إلى الحكومة، الأمر الذي من شأنه مصادرة إرادة مجلس النواب كليا وضرب أبسط قواعد النظام البرلماني الديمقراطي.     

في الخلاصة يتبين أن الأزمة الحالية التي تهدد بتعطيل عمل السلطة التشريعية مردها غياب الطابع المؤسساتي في عمل مجلس النواب. فاستئثار رئيس المجلس بتحديد جدول أعمال مجلس النواب بشكل لا وجود مثيل له في كل النظم الديمقراطية في العالم يجعل من التعطيل المتبادل وسيلة الضغط الوحيدة التي تستخدمها الكتل المهيمنة على المجلس من أجل تحقيق مصالحها. كذلك عدم وجود أصول واضحة لكيفية التصديق على خلاصة المحاضر وإرسال القوانين إلى الحكومة يمنح رئيس المجلس مقدرة هائلة على ربط كل السلطة التشريعية بشخصه بحيث تصبح كل القوانين التي تقرها الهيئة العامة رهينة إرادة رئيس المجلس الذي لا توجد مهلة زمنية تفيده بحيث يصبح ملزمًا بإحالة القوانين المقرّة من أجل إصدارها. إذ أن الاعتباطية التي تتمّ بها إدارة جلسات مجلس النواب من جهة، وإهمال النواب لواجبهم بمحاسبة رئيس المجلس وتخليهم عن دورهم من جهة أخرى، سيؤدّيان لا محالة في نهاية الأمر إلى إفراغ المؤسسات الدستورية من مضمونها وتحويلها إلى مجرّد أداة سلطويّة من أجل إما العرقلة المتبادلة أو المحاصصة، ما يعني في مطلق الأحوال تعزيز هيمنة أحزاب السلطة على الدولة والمجتمع. فمن خطاب يتغنى دائمًا بمقولة المجلس سيد نفسه إلى واقع سياسي يظهر بما لا يقبل أدنى شك أن السيادة الوحيدة المتبقية في لبنان هي للأشخاص وليس للمؤسسات، وللمصالح الفئوية وليس للصالح العام. 


[1] 

“Les actes d'une Assemblée ne sont acquis et ne peuvent être considérés comme valables qu'à la condition d'être enregistrés dans un procès-verbal authentique. Aucune loi, aucune résolution ne sauraient être notifiées au Gouvernement ni prendre un caractère définitif tant que le procès-verbal n'a pas été établi et adopté dans les formes réglementaires” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 1099).

[2]

“ Avant l'adoption du procès-verbal, le Président donne la parole à tous les membres qui ont à réclamer contre son exactitude” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1924, p. 1101).

[3]

Article 115-3 : Lorsque l’Assemblée nationale adopte sans modification un projet ou une proposition de loi votés par le Sénat, le Président de l’Assemblée nationale en transmet le texte définitif au Président de la République, aux fins de promulgation, par l’intermédiaire du Secrétariat général du Gouvernement. Le Président du Sénat est avisé de cette transmission

[4]

المادة 56 من النظام الداخلي لمجلس النواب الصادر سنة 1930 كانت تنص على التالي: "يستشار المجلس بعد تلاوة المحضر الذي تنوقش فيه بعد أن  يلقي الرئيس هذا السؤال "هل هذا المحضر صحيح وينطبق على وقائع الجلسة؟". ومتى صادق المجلس على المحضر لا يحق لأي عضو  ولأي عذر أن يطلب الكلام لإجراء التصحيح فيه". .