قرار الدستوري حول الإيجارات غير السكنية: الليبرالية الاقتصادية تسمو على العدالة الاجتماعية
24/07/2025
بعد رحلة شاقة وطويلة، أسدل المجلس الدستوري الستار على قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية الذي شهد تشردا دستوريا غير مسبوق ما يجعله يستحق بامتياز لقب أغرب قانون عرفته الجمهورية اللبنانية منذ 1926 وحتى اليوم. فقد أصدر المجلس الدستوري القرار رقم 15 بتاريخ 22 تموز 2025 والذي قضى برد الطعن بقانون الإيجارات للأماكن غير السكنية مع الاكتفاء بإبطال فقرة وحيدة بسبب عدم وضوحها تتعلق بالتعويض الذي يستحق للمستأجر كونها لا تميّز بين الذين يستفيدون من تمديد عقد الإيجار لأربع سنوات وأولئك الذين سيتمّ تمديد عقودهم لسنتين فقط.
الإصدار صحيح لكن من دون أي تعليل
لا شك أن أبرز إشكالية طرحها هذا القانون كانت تتعلق بكيفية إصداره بعد الجدل الكبير الذي رافق إقراره سنة 2023 كون رئيس مجلس الوزراء حينها نجيب ميقاتي قرر التمنع عن نشره على الرغم من أن مجلس الوزراء اتخذ قرارا بإصداره وكالة عن رئيس الجمهورية، ومن ثم تراجع عن هذا القرار بناء على طلب ميقاتي مستبدلًا إيّاه بقرار جديد قضى بردّ القانون إلى مجلس النواب. وعلى الرغم من أن مجلس شورى الدولة اتّخذ قرارا بوقف تنفيذ مرسوم الردّ لكن القانون ظلّ عالقا في أدراج الأمانة العامة لمجلس النواب بحيث لم ترسله مجددا إلى رئاسة الحكومة إلا في 28 آذار 2025، الأمر الذي دفع هذه الأخيرة إلى نشره في الجريدة الرسمية من دون توقيع رئيس الجمهورية، على اعتبار أنّ القانون أصبح نافذا حكما لانقضاء المهلة الدستورية لإصداره.
وكان المجلس الدستوري في قراره رقم 5 بتاريخ 20 أيار 2025 قد أعلن عدم نفاذ قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية لأن "إجراءات إصدار القانون لم تُراعَ أصولا، ولم تنقضِ مهلة الشهر الممنوحة لرئيس الجمهورية لإصداره، الأمر الذي يجعل نشر القانون المطعون فيه مخالفًا لأحكام المادة 57 من الدستور، طالما أن القانون لم يكن قد أصبح نافذًا حكمًا في تاريخ النشر".
وقد علّقت المفكرة القانونية على هذا القرار بشكل مُسهب منتقدةً إياه بسبب غموضه، كونه أعلن عدم انقضاء مهلة إصدار القانون من دون تحديد متى يجب أن تبدأ هذه المهلة بالسريان ما خلق حالة من الضياع لدى المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء التي وجدت نفسها في موقف غير مسبوق إذ هي استلمت القانون من مجلس النواب من دون معرفة ما هي الخطوة الدستورية اللاحقة التي يجب اتخاذها. لذلك، بادرت رئاسة الجمهورية إلى طلب القانون من رئاسة الحكومة وعمدت إلى إصداره في 5 حزيران 2025 ونشره في الجريدة الرسمية. وهكذا يكون قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية قد أقر في نهاية 2023 وصدر مرة أولى باعتباره نافذا حكما في 3 نيسان 2025 ومن ثم صدر مجدّدا بعد إعلان عدم نفاذه من قبل المجلس الدستوري لكن عن رئيس الجمهورية هذه المرة في 5 حزيران المنصرم.
ويعتبر المجلس الدستوري في قراره الحالي أن القانون صدر إنفاذا لقرار المجلس الدستوري رقم 5 المذكور سابقا وأن رئيس الجمهورية بإصداره للقانون "عملا بقرار المجلس الدستوري الملزم لجميع السلطات العامة والمراجع القضائية والإدارية يكون متوافقا مع الدستور ولا يبقى من موجب للبحث في باقي ما أثير لجهة عدم دستورية النشر".
وهكذا يكون المجلس الدستوري قد أقرّ دستوريّة عمليّة الإصدار من دون تقديم أيّ شرح فعلي للمسوغات القانونية التي تبرّر موقفه، بل هو اكتفى بالقول في الحقيقة أنّ الإصدار دستوريّ لأنه صدر عملا بقرار المجلس الدستوري السابق الذي قال فقط أن مهلة الإصدار لم تنقضِ من دون أن يشرح هنا أيضا كيفية توصله إلى تلك النتيجة. بمعنى أنه اعتبر أن الإصدار دستوري لأنه كان قال أن مهلة الاصدار لا تزال سارية من دون أن يحدد لا تاريخ انطلاقها ولا تاريخ انتهائها فعليا، ويفهم من ذلك أنه لو لم يبادر رئيس الجمهورية إلى توقيع القانون من تلقاء نفسه لكان بالإمكان تخيل بقاء القانون معلقا في حالة يمكن وصفها بالبرزخ الدستوري، أي حالة مشتتة بين الوجود وعدم الوجود.
وإذا كان المجلس الدستوري قد وجد نفسه في موقع لا يحسد عليه، لا سيما وأن الفوضى الدستورية التي رافقت إقرار هذا القانون لا يتحمل هو مسؤوليتها بل هي نتيجة موقف الرئيس نجيب ميقاتي الاعتباطي وقرار مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ مرسوم الرد، لكن كان المطلوب منه أن يجيب على الإشكاليات الدستورية بشكل واضح لجهة خصوصا متى يجب أن تبدأ مهلة الإصدار بالسريان.
ويتبدّى حرج المجلس الدستوري كونه استنكف مجدّدا عن معالجة نقطة دستورية أثارتها الجهة الطاعنة التي اعتبرت أنه ليس لرئيس الجمهورية إصدار القانون في ظل وجود مرسوم برده إلى مجلس النواب الذي يتوجب عليه مناقشته وإقراره مجددا كي يتمكن رئيس الجمهورية من إصداره. والحقيقة أن المجلس الدستوري كان عليه أن يتطرّق إلى هذه المسألة، بمعزل عن موقف مجلس شورى الدولة، وأن يحسم الجدل المتعلق بها، إذ فقط حسم هذه المسألة كان بإمكانه منح قرارات المجلس الدستوري اتساقها الداخلي وتبريرها منطقيا.
جراء ما تقدم، وإذا أمكن القول أن المجلس الدستوري أنهى متاهة هذا القانون بإعلانه صحة إصداره، لكنه لم يسهم في إغناء البحث القانوني أو تطوير الفكر الدستوري، بل اكتفى بقرار تحكمي يمكن اختصاره كالتالي: القانون دستوري لأنني قررت أنه كذلك.
التشريع في ظل خلو سدة الرئاسة
في نقطة دستورية متصلة أيضا بأصول التشريع، كرر المجلس الدستوري موقفه السابق إذ اعتبر أن التشريع جائز ليس فقط في ظل شغور رئاسة الجمهورية، كون القانون أقر قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكن أيضا عند وجود حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال لأن مجلس النواب يكون حكما في دورة انعقاد استثنائية ما يتيح له التشريع في مختلف المواضيع "بهدف تأمين سير المرفق العام". وهو موقف منسجم مع كل قرارات المجلس الدستوري السابقة ولا حاجة للإستفاضة في الموضوع من جديد علما أن المفكرة القانونية شرحته بشكل مفصل في مقال سابق.
جواز التشريع قبل إقرار الموازنة
تثير الجهة الطاعنة مسألة لم تعد تحظى اليوم بالاهتمام المطلوب هي جواز التشريع قبل اقرار الموازنة العامة انطلاقا من المادة 32 من الدستور التي تنصّ صراحة على أن العقد العادي الثاني الذي يبدأ في تشرين الأول يجب أن "تخصص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر"، ما يعني عدم جواز إقرار أي قانون كالقانون المطعون فيه قبل التصديق على الموازنة العامة للسنة المعنية (أي موازنة عام 2024 في الحالة الراهنة).
وقد عالج المجلس الدستوري هذه الإشكالية بعجالة إذ اكتفى بالقول أنّ الهدف من هذا النص هو "إيلاء الأولوية للبحث في الموازنة والتصويت عليها نظرا لأهميتها ومكانتها في انتظام مالية الدولة العامة وليس في نص المادة 32 ما يشير إلى أن نية المشترع ذهبت إلى منع المجلس النيابي من التشريع بالمطلق قبل اقرار الموازنة" مضيفا أن القول بخلاف ذلك يصطدم بمبدأ "سيادة التشريع" والذي "يفيد بأن للمشرع سلطة أصلية ومطلقة لسن القوانين".
وهكذا بكل بساطة يخلص المجلس الدستوري إلى رد حجة الجهة الطاعنة مكتفيا بالقول أن نية النص الدستوري تقبل بممارسة مجلس النواب صلاحياته التشريعية العادية قبل إقرار الموازنة على الرغم من أن النص ذاته يقول بشكل لا لبس فيه أن جلسات البرلمان يجب أن تخصص لمناقشة وإقرار الموازنة "قبل أي عمل آخر"، ما قد يعني أن مجلس النواب لا يحقّ له قبل الانتهاء من الموازنة البحث في أيّ اقتراح أو مشروع قانون آخر.
ولا شكّ أن النص الوارد في المادة 32 من الدستور والذي يعود لسنة 1926 هو نصّ فريد لا يوجد نصّ مماثل له في القوانين الدستورية للجمهورية الثالثة الفرنسية (1875) أي لا يمكن مقارنته بالممارسة الفرنسية التي كانت سائدة حينها بل يتوجب الاعتماد حصرا على التجربة اللبنانية. وإذ تخلو محاضر المجلس التمثيلي عند إقرار الدستور سنة 1926 من أي اشارة تظهر لنا نية المشترع عند إقرار هذه المادة خلافا لزعم المجلس الدستوري، لكن محضر جلسة 13 تشرين الأول 1927 المخصصة لتعديل الدستور تنقل لنا النقاش التالي حول تعديل المادة 32:
"أرسلان: إذا بقي العقد لآخر السنة وانتهى المجلس من درس الميزانية قبل نهاية السنة، ألا يجوز له أن يدرس مشاريع أخرى؟
الرئيس (الشيخ محمد الجسر): نعم يجوز. القصد أن الميزانية تدرس قبل كل عمل آخر".
لم يثر موقف الرئيس أي اعتراض لا بل إن عددا من النواب كرر تعبير "دورة الموازنة" للإشارة إلى دورة تشرين، فما كان من حبيب السعد إلا أن اعترض قائلا "لا يوجد عقد مخصص للموازنة. نعم لقد نص الدستور أن العقد الأول (يقصد عقد تشرين) تقدم فيه الموازنة على سواها. ولكن لو انتهى المجلس من الموازنة ألا يجوز له أن يبحث في سواها" (محضر جلسة 14 تشرين الأول 1927).
وهكذا بات جليا أن النواب سنة 1927 (وهم ذاتهم الذين أقروا الدستور سنة 1926) فهموا بأن المقصود هو منع مناقشة أي قانون قبل الانتهاء من الموازنة. فالغموض لدى النواب لم يكن حينها يتعلق بهذه النقطة بل بجواز إقرار قوانين مختلفة في عقد تشرين عقب الفراغ من التصويت على الموازنة.
لكن مجلس النواب عاد وخالف هذا المبدأ نظرا لضرورات الواقع. فمشروع موازنة سنة 1929 أحيل إلى المجلس في 29 أيلول 1928 بينما المناقشة لم تبدأ إلا في 28 كانون الأول من السنة نفسها، لكن مجلس النواب عقد جلستين تشريعيتين قبل جلسة 28 كانون الأول، وقد ناقش وأقر خلالهما مجموعة متنوعة من القوانين.
لكن الالتباس يعود مجددا لكن هذه المرة من خلال المادة 53 من النظام الداخلي القديم الذي أقره مجلس النواب سنة 1953 إذ تنص صراحة على التالي: " يدرس المجلس في دورته العادية الأولى كل ما لديه من المشاريع والمواضيع بصورة عامة وتخصص الدورة العادية الثانية لدرس الموازنة أولاً ثم بعد إقرارها تدرس المواضيع الأخرى. أما الدورات الاستثنائية فتخصص لدرس المواضيع التي يحددها مرسوم الدعوة".
وقد أثير الموضوع في جلسة 31 كانون الثاني 1961 إذ اعترض النائب منير أبو فاضل على مناقشة تعديل قانون البلديات قائلا: " عطوفة الرئيس، أعتقد أنه بموجب المادة 86 من الدستور والمادة 53 من النظام الداخلي لا يمكننا قطعياً أن ندرس أي موضوع قبل إقرار الموازنة لأن المادة صريحة في هذا الأمر (...) نحن اليوم بصدد درس الموازنة فلنصوت على ما درسناه ونقر الموازنة بكاملها وبعد ذلك نتمكن من درس المشاريع، لذلك أطلب إقرار الموازنة قبل أي مشروع آخر". فما كان من الرئيس صبري حمادة إلا أن أجابه مؤيّدا: "حضرة الزميل، إن المادة التي تلوتها تتعلق بالموازنة العامة وحق الأولية دون شك لدرس الموازنة، أما وقد صدق المجلس الموازنة العامة وكذلك صدق الموازنات الخاصة ولم يبق إلا التصديق على محضر الجلسة فبإمكان المجلس بناء على نصوص هذه المواد وتمشيا مع التقليد المتبع أن يتابع درس هذا الموضوع...".
وقد علق إدمون رباط على هذه المادة كاتبا: "مما يعني إذن أنه لا يحق للمجلس في دورته العادية الثانية أن يتناقش بأي موضوع، قبل أن ينتهي من اقرار الموازنة"[1]. ويكرر رباط الفكرة ذاتها قائلا إن المبدأ هو اعتبار مجلس النواب سيد جدول أعماله "وذلك طبعا في الحدود المرسومة في الدستور من جهة دورة الخريف العادية المخصصة لدرس الموازنة"[2].
وعلى الرغم من أن مجلس النواب أقر سنة 1982 نظاما داخليا جديدا جاء خاليا من مادة شبيهة بالمادة 53 من النظام الداخلي القديم لكن في جلسة 19 تشرين الأول 1995 طرح النائب مخايل الضاهر الموضوع مجددا قائلا:
"إن نص المادة 32 من الدستور صريح جدا ولا مجال للاجتهاد في معرض النص، وهو يمنع المجلس من أن يقوم بأي عمل آخر قبل بحث الموازنة والتصديق عليها، فإذا قرر مجلس النواب خلاف ذلك فلا بد من عرض هذا الأمر على المجلس الدستوري ليأخذ منه الموقف الذي يعتبره هو متوافقا مع أحكام الدستور فيبنى على الشيء مقتضاه".
فما كان من الرئيس نبيه بري إلا أن اعترض معتبرا: "جرى العرف في هذا المجلس وفي غيره، وأنت ضليع يا شيخ مخايل وكنت رئيسا لاحدى اللجان النيابية وهي اللجنة المالية التي تعتبر أم اللجان، أنه أثناء درس قوانين الموازنة وبمجرد أن يطرح هذا الأمر على اللجان يبدأ التشريع بأمور أخرى. لذلك فإن تفسير الرئاسة هو أنها عندما تطرح مناقشة الموازنة وقطع الحساب على الهيئة العامة يمتنع عليها التشريع فى أي أمر آخر، لا اجتهادي أنا وقد أكون مخطئا".
وفي جلسة 4 كانون الأول 2001 كرر النائب نقولا فتوش الاعتراض نفسه فأجابه الرئيس نبيه بري: "حضرة الزميل الكريم، ليست هذه المرة الأولى أو الثانية التي يثار فيها هذا الموضوع ونرد دائماً عليه بأنه عندما يبدأ المجلس بمناقشة الموازنة لا يعود بإمكانه طرح موضوع آخر. لكن لم يبدأ المجلس بمناقشتها بعد وطرحها في اللجان لا يمنع من طرح أي موضوع. هذا هو التفسير الدستوري الذي نسير نحن عليه". وقد وافق الرئيس حسين الحسيني الرئيس بري معلنا: "أن مناقشة الموازنة في اللجان تأخذ أكثر من شهر عادة وقد تستمر شهرين، لذا من غير المعقول تعطيل أعمال المجلس التشريعية كل هذه المدة، لذلك فإن مجلس النواب منذ أيامنا وقبل ذلك وبعده يسير بهذا الاتجاه وبالتالي فالجلسة صحيحة ولا يوجد أي خطأ". وقد أيد النائب بطرس حرب هذا التوجه قائلا أن "هذه القاعدة قد تجاوزناها وحسمها المجلس منذ وقت طويل".
وهكذا يتبين أن قرار المجلس الدستوري الحالي صدر من دون دراسة تاريخ الممارسة النيابية في هذا المجال، وهو لم يكن على علم بأن نية المشرع الحقيقة سنة 1926 كانت تقضي بعدم جواز التشريع قبل اقرار الموازنة. فالمجلس بقوله أن نية المشترع لا تريد منع التشريع هو كلام لا يستند إلى مصادر أكيدة ناتجة عن تقصي الحقيقة الدستورية بل مجرد موقف تحكّمي آخر يصدر فقط عن الإرادة البحتة للمجلس. ولا شك أن واجب المجلس الدستوري هو الفصل في هذه النقطة لا بل حتى القبول بمخالفة نية المشرع التأسيسي سنة 1926 في حال ارتأى أن الضرورات الناجمة عن تطور الواقع تحتم ذلك، لكن موقف المجلس الدستوري يجب أن يكون ملما بجميع هذه السوابق وأن يشرحها ويبرر التبدلات التي شهدتها لا أن يكتفي بالقول أنّ نية المشترع تقبل اقرار القوانين العادية قبل والموازنة مع أن النص الدستوري يقول عكس ذلك بشكل لا ريب فيه.
والأمر نفسه ينسحب على "مبدأ سيادة التشريع" الذي أشار إليه المجلس الدستوري علما أن هذا المبدأ لا وجود له. فالتشريع يكون سيدا بالنسبة للنصوص التي تكون أدنى منه في هرمية النصوص لا بالنسبة للدستور الذي يحتل رأس تلك الهرمية، وبالتالي لا يمكن فهم "مبدأ سيادة التشريع" وفقا لتعبير المجلس الدستوري إلا كسيادة السلطة التشريعية نفسها، أي حريتها المطلقة بسن القوانين، وهذا قول خاطئ أيضا لأن مجلس النواب ملزم باحترام الدستور عند ممارسة صلاحياته التشريعية وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى نقاش. وبما أن الدستور نفسه يحتوي على أحكام يفهم منها عدم جواز اقرار القوانين العادية قبل الانتهاء من الموازنة لذلك لا يمكن القول إن الحد من صلاحيات مجلس النواب في هذه الحالة يخالف سيادة التشريع وإلا جاز لمجلس النواب مخالفة كل أحكام الدستور بذريعة هذه السيادة الموهومة.
الليبرالية الاقتصادية كحل دستوري وحيد
إن صدور قانون للإيجارات للأماكن غير السكنية في ظل الانهيار المالي الذي يعيشه لبنان يجب أن يشكل مناسبة من أجل دراسته انطلاقا من معايير تهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية علما أن هذه الأخيرة تتبدل وفقا للظروف التي يمرّ بها المجتمع.
لكن المجلس الدستوري آثر اتخاذ موقف يذهب إلى تبني الليبرالية الاقتصادية بكل مندرجاتها معتبرا أن حق الإيجار ينبع فعليا من عقد الإيجار وبالتالي لا يمكن التذرع بهكذا عقد لضمان حقوق دستورية للمستأجر. ويضيف المجلس الدستوري أن القانون يؤدي فعليا إلى العودة إلى مبدأ حرية التعاقد الذي يسمو على الاعتبارات الأخرى كون تمديد عقود الإيجار كان تمديدا جبريا استمر لعشرات السنوات "خلافا لمشيئة المتعاقدين" بينما النظام الاقتصادي الحر يقوم على قاعدة العرض والطلب وهو يضمن "المبادرة الفردية والملكية الخاصة المكرسة في الفقرة (و) من مقدمة الدستور".
ويصر المجلس الدستوري على تبني الليبرالية الاقتصادية بكل أبعادها فيعتبر أن القانون يهدف بعد مرحلة انتقالية إلى تنظيم العلاقة التعاقدية وذلك بإعادتها إلى طبيعتها الحرة وبالتالي لا يكون من شأن القانون المس بمبدأ المساواة الدستوري. ويعتبر المجلس الدستوري أن هدف القانون يقتصر على تنظيم علاقة المؤجر بالمستأجر ولا علاقة له "بوسائل عيش المستأجر ورفاهيته" ما يعني أن المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تكرس حق كل إنسان بالعيش الكريم، وما يستتبع ذلك من ضرورة تأمين الملبس والتغذية والمسكن والعناية الطبية، لا مجال لتطبيقها على القانون الحالي كونه لا يعالج تلك المسائل.
ولا شك أن اعتبار المجلس الدستوري بأنه لا يحق له مراقبة ملاءمة التشريع هو قول صحيح لكن القول بأن مراقبة القانون تقتصر على النظر في مضمونه من دون النظر إلى التداعيات الاجتماعية يحدّ جدا من رقابة المجلس الدستوري، إذ لا يعقل القبول بأن اقتصار القانون على تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر يجعله منفصلا بالكامل عن الواقع الاجتماعي. فإذا كان من الصحيح أن العلاقة التعاقدية في الدولة الحديثة التي تتبنى الاقتصاد الحر تقوم على مبدأ حرية التعاقد، لكن الدولة عملا بمبدأ العدالة الاجتماعية المكرس أيضا في الفقرة "ج" من مقدمة الدستور يمكن لها الحدّ من تلك الحرية ليس فقط في الظروف الاستثنائية المؤقتة لكن أيضا بشكل دائم من أجل حماية الاستقرار الاجتماعي وضمان الحدّ الأدنى من العيش الكريم للمواطنين. ولعلّ الحدّ الأدنى للأجور هو من أبرز الأمثلة على الحدّ من حرية التعاقد، إذ لا يعقل ترك العلاقات الاجتماعية خاضعة بالكامل للموازين القائمة في المجتمع كون ذلك يؤدّي لا محالة إلى هيمنة الأقوياء وأصحاب النفوذ. فبين القوي والضعيف قد تؤدي الحرية إلى قمع الضعيف ما يوجب تدخل الدولة عبر تشريعات تحمي الضعيف من سطوة الأقوياء.
والغريب أن مخالفة عضو المجلس الدستوري الياس مشرقاني رأت أن القانون يستوجب الإبطال ليس لأنه يخلّ بالعدالة الاجتماعية لكن لأنه ليس ليبراليا بما يكفي لأن الدستور يكرس "قدسية الملكية" ما يعني أن تمديد عقود الإيجار حتى ولو كان لفترة انتقالية كما حصل في القانون المطعون فيه يشكل مخالفة للدستور ما يوجب إبطاله برمته، وبالتالي من الضروري إخضاع الإيجارات لقانون الموجبات والعقود وليس لقانون استثنائي يؤدي إلى الإخلال بمبدأ المساواة.
في الخلاصة، يتبين أن المجلس الدستوري تبنى الليبرالية الاقتصادية بكل أبعادها ورفض إعطاء مبدأ العدالة الاجتماعية أي تطبيق عملي في الحالة الراهنة. إذ إن التمسك بمبادئ الاقتصاد الحرّ لا ينفي مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يتمتع بالقيمة الدستورية نفسها بل يستوجب موازنتها معه. أما أن يتم تغييب العدالة الاجتماعية بالكامل لا سيما في الظروف التي يمر بها لبنان، فإن ذلك ينمّ عن تبني الليبرالية الاقتصادية في نسختها الأكثر تطرّفا من دون أيّ ضوابط، على نحو يترك الضعيف تحت رحمة الأقوياء.
للاطلاع على قرار المجلس الدستوري بشأن قانون الايجارات
[1] الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 646
[2] المرجع نفسه، ص. 647.