إشكاليات رد القوانين في ولاية مجلس النواب الحالية: الخلل التنظيمي والبعد السياسي
20/08/2025
تعد صلاحية رد القوانين التي تقرها السلطة التشريعية من الصلاحيات المألوفة التي تمنحها الدساتير للسلطة التنفيذية عامة، ولرئيس الدولة بشكل خاص، في النظم البرلمانية والرئاسية على حد سواء. وتكمن فلسفة هذه الصلاحية في مبدأ فصل السلطات إذ أن النصوص التي يقرها البرلمان تحتاج كي تنال صفة القانون إلى إصدارها (promulgation) من قبل رئيس الدولة الذي يأمر مختلف أجهزة الدولة بتنفيذ القانون الجديد.
وقد منحت المادة 57 من الدستور اللبناني رئيس الجمهورية صلاحية رد القوانين، وهي من الصلاحيات القليلة التي لم تشهد أي تعديل مهم عقب تبني وثيقة الوفاق الوطني سنة 1989. وقد نصت المادة 57 صراحة على التالي: "لرئيس الجمهورية، بعد اطلاع مجلس الوزراء، حقّ طلب اعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره ولا يجوز أن يرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقه هذا يصبح في حلّ من إصدار القانون إلى أن يوافق عليه المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه، وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً"·
ولا شكّ أن هذه الصلاحية هي على جانب كبير من الأهمية إذ إنها تسمح لرئيس الجمهورية بتأجيل إصدار قانون ما ريثما يدرسه مجلس النواب ويقره في هيئته العامة مرة ثانية. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحدّ كون المادة 57 تلزم مجلس النواب بإقرار القانون المعاد بالغالبية المطلقة من أعضائه (أي 65 نائبا اليوم) بينما تفرض المادة 34 من الدستور غالبية الحضور فقط من أجل إقرار القوانين العادية. وهكذا يتبين لنا أن الشروط الدستورية لإقرار قانون أعاده رئيس الجمهورية هي أصعب إذ ان هذا الأخير يعود له أيضا أن يستغلّ مهلة الإصدار التي يحدّدها الدستور (أي شهر) كي يعيد القانون عندما يكون مجلس النواب في خارج دورات الانعقاد، وهكذا يتمّ تأجيل البتّ بالقانون إلى فترة أطول بكثير. ولا بدّ من الاشارة أنّ مهلة الشهر لا تبدأ في السّريان إلا بعد تصديق محضر مجلس النواب وإرسال النصّ الذي جرى إقراره إلى الحكومة، هذا علمًا أنّ المادة 56 من الدستور تسمح لمجلس النواب باتّخاذ قرار باستعجال إصدار القانون، وفي هذه الحالة يجب على رئيس الجمهورية أن يصدر القانون أو يردّه خلال مهلة خمسة أيام.
وهكذا يتبين أن صلاحية إصدار القانون ترتبط ارتباطا وثيقا بصلاحية ردّ القانون إلى البرلمان كون رئيس الجمهورية بإصداره للقانون يكون قد تخلى عن صلاحياته بالطلب من مجلس النواب مناقشة هذا القانون من جديد. ولرئيس الجمهورية إعادة القانون إلى مجلس النواب لأي سبب كان، لذلك يعود له بوصفه الجهة التي تسهر على احترام الدستور أن يرفض إصدار القانون في حال اعتبر أنه يخالف الدستور إن كان لكيفية إقراره أو لمضمونه وذلك عبر رده إلى مجلس النواب. وله أيضا أن يطلب إعادة النظر بالقانون لأسباب تتعلق بمدى مناسبة هذا الأخير للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد حتى لو كان موافقا للدستور.
وتكمن أهمية هذه الصلاحية في كون مجلس النواب يصبح ملزمًا ليس فقط بمناقشة القانون مرّة جديدة، لكن أيضا بإقراره بغالبيّة مشدّدة، ما يعزّز من دور رئيس الجمهورية في المسار التشريعيّ، على الرغم من أن القرار النهائي يظل في يد مجلس النواب، إذ بمجرد إقرار القانون من جديد بالغالبية المطلقة يصبح رئيس الجمهورية مرغما على إصداره ضمن المهلة الدستورية وإلا اعتبر القانون نافذا حكما.
وتبرز أهمية هذه الصلاحية أيضا باعتبارها استثناء على مبدأ التصويت المكتسب (le vote acquis) الذي يعتبر أن المجالس التشريعية لا يحقّ لها الرجوع عن تصويت أجرته في المسار التشريعي الواحد. فرئيس الجمهورية بردّه للقانون يفرض على مجلس النواب التباحث فيه مجدّدا وإقراره مرة ثانية، أي التصويت عليه من جديد، وهو خرق لمبدأ التصويت المكتسب يجيزه الدستور من أجل التأكد من أن النص النهائي للقانون قد أحيط بكلّ الضمانات التي تجعل منه متوافقا مع الدستور والمصلحة العامة.
ويمارس رئيس الجمهورية صلاحيّة ردّ القوانين بمرسوم ولا يشترط الدستور إلا اطلاع مجلس الوزراء مسبقا. وعلى الرغم من أن مرسوم الردّ يجب أن يقترن بتوقيع رئيس مجلس الوزراء، إلا أنّ هذا الأمر لم يثِر أيّ اشكالية في لبنان كون هذا الأخير كان دائمًا يوقّع على المرسوم موافقا رغبة رئيس الجمهورية الذي يعتبر صاحب القرار الوحيد في هذا الشأن.
انطلاقا من كل ما تقدّم، كان لا بدّ من تحليل كيفية ممارسة صلاحيّة ردّ القوانين خلال ولاية مجلس النواب الحالي من أجل استخلاص بعض النتائج التي تسمح لنا بفهم معنى هذه الصلاحية في النظام السياسي اللبناني اليوم ومن دون الدخول في الإشكاليات الدستورية النظرية التي قد تثيرها المادة 57 من الدستور كون ذلك يخرج عن هدف هذا البحث.
القوانين المردودة إلى المجلس النيابي في ولايته الحالية
شهدت الولاية الحالية للمجلس النيابي التي بدأت في نهاية أيّار 2022 ردّ خمسة قوانين عملًا بالصلاحيّة الدستورية المعطاة لرئيس الجمهوريّة. وفيما قام الرئيس ميشال عون قبيل انتهاء ولايته بردّ قانون واحد يتعلّق برفع السريّة المصرفيّة، والرئيس جوزاف عون بردّ قانون واحد حتى الآن يتيح للمصرف المركزي طبع فئات جديدة من العملات اللبنانيّة، قامت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بسبب الشغور الرئاسي بردّ ثلاثة قوانين إلى المجلس النيابي سنة 2024 وذلك وكالة عن رئيس الجمهورية (قانون متعلق بالإيجارات في الأماكن غير السكنيّة، وقانونان يتعلقان بأمور ماليّة تخص المدارس الخاصة وتعويضات المعلمين).
أولا: ردّ قانون السريّة المصرفيّة:
في شأن القانون الذي ردّه الرئيس ميشال عون، فقد كان المجلس النيابي بتاريخ 26 تموز 2022 صدّق على مشروع القانون المعجّل الوارد بالمرسوم رقم 9102 الرامي إلى تعديل بعض مواد قانون السرية المصرفية والمادة 105 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والمادة 150 من قانون النقد والتسليف والمادة 15 من قانون تعديل وإكمال التشريع المتعلّق بالمصارف وإنشاء مؤسسة مختلطة لضمان الودائع وبعض مواد قانون الإجراءات الضريبية.
غير أنّ الرئيس ميشال عون وقّع في 31 آب 2022 على المرسوم رقم 10016 الذي قضى بإعادة هذا القانون إلى المجلس النيابي من أجل البحث فيه والتصويت عليه مجددًا على ضوء ملاحظاته.
وقد تضمّنت هذه الملاحظات بداية إشارة إلى أنّ "الأزمة الاقتصاديّة والماليّة التي يمرّ فيها لبنان تتطلب إجراء تعديلات في بعض القوانين والأنظمة استجابة لمتطلبات التعافي" معتبرة أنّ هذا القانون هو من "أهمّ النصوص الواجب إقرارها في هذا السياق" لأنّه يتعلّق بالسريّة المصرفيّة، إلّا أنّه بحاجة لتحصين بعض أحكامه. وطالب الرئيس في ملاحظاته بتمكين "النيابة العامة من الوصول إلى المعلومات التي تسمح لها بتكوين الملف قبل إحالته إلى قضاء التحقيق بحيث تعطى صلاحيّة التقدم من المصارف بطلب المعلومات إلى القضاء المختص في الإدعاء والتحقيق".
وقد طالب الرئيس أيضًا بإعطاء كلًا من لجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع ومصرف لبنان صلاحية طلب رفع السرية المصرفية لتمكين من استكمال مهامهم في التحرّي عن المخالفات وعدم حصر رفع السريّة المصرفيّة بالجرائم الماليّة فقط.
كما أشارت ملاحظات الرئيس إلى ضرورة توضيح نصّ القانون لكي يتاح للمراجع المذكورة آنفًا أنّ تتقدّم بطلب المعلومات "إلى المصارف مباشرة دون المرور بأي مرجع آخر قضائي أو إداري"، وطالبت أيضًا "بالرجوع بتاريخ بدء تطبيق أحكام القانون موضوع طلب إعادة النظر لفترة تغطي على الأقل المدى الزمني المسبب للأزمة"، كما أن يمتدّ تطبيق القانون إلى فترة ممارسة الأشخاص العاملين في الشأن العام لمهامه، أكانوا منتخبين أو معينين.
على هذا الأساس، تمّ إحالة القانون المردود إلى لجنة المال والموازنة في المجلس التي عقدت اجتماعًا بتاريخ 11 تشرين الأول 2022 عدّلت فيه النصّ، وقد كان للمفكرة القانونيّة ملاحظات عديدة على النسخة الصادرة عن لجنة المال والموازنة التي أضعفت فعاليّة هذا القانون.
في نهاية المطاف، قدّم المجلس النيابي في جلسته التشريعيّة المنعقدة بتاريخ 18 تشرين الأوّل 2022 بالتصديق مجددًا على القانون مع الأخذ بملاحظات لجنة المال والموازنة، بعدها قام الرئيس عون بإصدار القانون في 28 تشرين الأول 2022 وصدر في الجريدة الرسميّة بتاريخ 3 تشرين الثاني 2022. مع الإشارة إلى أنّ القانون تعرّض للطعن لكن المجلس الدستوري قرر ردّه.
بذلك، تكون الفترة التي انقضت بين مرسوم الردّ وتصديق القانون مجددا في مجلس النواب 49 يومًا، قامت خلالها لجنة المال والموازنة منفردة بدراسة هذا القانون والموافقة على تعديله في جلسة واحدة.
ثانيا: رد القوانين من قبل مجلس الوزراء وكالة عن رئيس الجمهورية
في ظلّ الفراغ الرئاسي الذي بدأ عند انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 30 تشرين الأول 2022، قامت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بردّ ثلاثة قوانين هي: قانون تعديل بعض أحكام قوانين تتعلّق بتنظيم الهيئة التعليميّة في المدارس الخاصة وبتنظيم الموازنة المدرسيّة (مرسوم رقم 12836)، وقانون متعلّق بإعطاء مساعدة ماليّة إلى مجلس إدارة صندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليميّة في المدارس الخاصة (مرسوم رقم 12837)، والقانون المتعلّق بالإيجارات في الأماكن غير السكنيّة (مرسوم رقم 12835). علمًا أنّ كلّ هذه المراسيم صدرت بتاريخ 12 كانون الثاني 2024.
إلّا أنّ هذا الردّ قد تمّ بطريقة شابتها عيوب، إذ إنّ مجلس الوزراء كان في بادئ الأمر قد قام بالتصويت على إصدار القوانين وكالة عن رئيس الجمهوريّة، ثمّ بعد ذلك قام الرئيس نجيب ميقاتي اعتباطيا بوقف نشر تلك القوانين وطلب من مجلس الوزراء الموافقة على ردها إلى مجلس النواب الأمر الذي حصل بالفعل ما أثار موجة كبيرة من الاعتراضات وأوجد نزاعا دستوريا لم يشهده لبنان من قبل، علما انها كانت المرة الأولى أيضا التي يمارس فيها مجلس الوزراء صلاحية رد القوانين وكالة عن رئيس الجمهورية.
وفي ظل أجواء من الصراع الطائفي بين الكتل النيابية حول جواز ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية من قبل مجلس الوزراء، اعتبرت اللجان النيابية المشتركة أن ردّ قانون الموازنة المدرسيّة وقانون وصندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليميّة جرى بطريقة يشوبها عيب في مراسيم الإعادة ورفعت توصية الى الهيئة العامة برد هذين القانونين كون هذه الأخيرة هي التي تملك الكلمة الفصل في هذا الموضوع. أمّا بخصوص قانون الإيجارات غير السكنيّة فلم يصدر موقف مماثل عن المجلس النيابي، إلّا أنّ هذا القانون، على غرار القانونين الآنفي الذكر، لم تتمّ إعادة درسه في أيّ لجنة وبقي معلّقًا في المجلس النيابي.
ومن المهم التذكير في هذا السياق أنّ مراسيم الردّ قد تعرّضت للطعن أمام مجلس شورى الدولة، الذي أصدر بتاريخ 4 نيسان 2024 قرارًا قضى بوقف تنفيذ المرسوم رقم 12835 القاضي برد قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية، ومن ثمّ في تاريخ 30 أيّار 2024 أصدر قرارًا قضى أيضًا بوقف تنفيذ المرسوم رقم 12836 المتعلق برد القانون المتعلق بتنظيم الموازنة المدرسية والمرسوم رقم 12837 المتعلق برد قانون تعويضات أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة.
وبالتالي، باتت هذه القوانين معلّقة بين مجلس النواب ومجلس الوزراء إلى حين تدخّل رئاسة الحكومة بالطلب من مجلس النواب بتاريخ 3 حزيران 2024 استرجاع تلك القوانين من أجل نشرها. إلا أنّ الأمانة العامّة للمجلس النيابيّ لم تستجبْ لهذا الطلب إلا في 28 آذار 2025، وقد سارعت الحكومة بعد ذلك في 3 نيسان 2025 إلى نشرها بعد اعتبارها نافذة حكمًا ما يعني أنها صدرت من دون توقيع رئيس الجمهورية.
وعلى الرغم من الطعن بقانوني الإيجارات غير السكنية وتنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة، لكن المجلس الدستوري في قرارين رقم 4 ورقم 5 تاريخ 20 أيار 2025، لم يعالج مسألة دستورية مراسيم الرد من قبل حكومة الرئيس ميقاتي بشكل واضح بل اكتفى باعتبار القانونين غير نافذين لأن "إجراءات إصدار القانون لم تراعَ أصولا، ولم تنقضِ مهلة الشهر الممنوحة لرئيس الجمهورية لإصداره، الأمر الذي يجعل نشر القانون المطعون فيه مخالفا لأحكام المادة 57 من الدستور طالما أن القانون لم يكن قد أصبح نافذا حكما في تاريخ النشر".
وعلى هذا الأساس، قام رئيس الجمهوريّة بإصدار القانونين في 5 حزيران 2025 وتم نشرهما في الجريدة الرسمية في 12 حزيران 2025، علمًا أنّ قانون الإيجارات غير السكنيّة تم الطعن به مجددا لكن المجلس الدستوري قضى بقراره بدستورية إصداره واكتفى بإبطال فقرة وحيدة.
أمّا القانون المتعلّق بالتعويضات لأفراد الهيئة التعليميّة فلمّ يتعرّض لأي طعن فكان نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 3 نيسان هو النهائي والأخير.
وهكذا يتبين أن مراسيم الرد هذه خرجت كليا عن مسارها الدستوري المألوف لا بل أنها عرفت مصيرا مختلفا على الرغم من تعليق نفاذها من قبل مجلس شورى الدولة. فمرسوم رد قانون الايجارات غير السكنية بات بحكم الساقط كون المجلس الدستوري أقر في قراره الثاني حول الموضوع دستورية هذا القانون ولم يعد هناك من وسيلة لبحث الموضوع أمام مجلس النواب، أما قانون تنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة فقد أصدره رئيس الجمهورية بعد قرار المجلس الدستوري بعدم نفاذه ولم يتم الطعن به ما يعني أنه بات نهائيا وأن مرسوم رده بات غير ذي جدوى أيضا. أما القانون المتعلق بصندوق التعويضات في المدارس الخاصة فقد نشر في الجريدة الرسمية باعتباره نافذا حكما ولم يتم الطعن به كالقانونين السابقين ما جعله نافذا على الرغم من أن وضعيته الدستورية هي مشابهة بالكامل لهما ما يجعل من مرسوم رده فاقدا لجدواه.
ولا شك أن مراسيم الرد هذه نظرا لمصيرها الدستوري الاستثنائي لا يمكن القياس عليها من أجل فهم كيفية عمل هذه الصلاحية في الظروف العادية. لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو عجز كل مؤسسات الدولة عن تقديم أجوبة شافية ومقنعة حول دستورية هذه المراسيم، إذ أن مجلس النواب لم يناقشها، ومجلس شورى الدولة اكتفى بتعليقها من دون صدور قرار نهائي حتى اليوم حولها، أما المجلس الدستوري فقد تجنب الخوض فيها ولم يقدم أي تعليل حولها يساهم في تطوير الفكر الدستوري للدولة اللبنانية.
ثالثًا : ردّ القانون الذي يسمح بطباعة فئات جديدة من العملة اللبنانية
القانون الوحيد الذي ردّه رئيس الجمهوريّة الحالي جوزاف عون إلى مجلس النواب حتّى تاريخ كتابة هذه الأسطر هو القانون المتعلّق بتعديل أحكام المواد 4 و5 و6 من قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي، والذي يجيز للمصرف المركزي إصدار اختياريا أيّ فئة نقديّة ورقيّة تفوق المئة ألف ليرة، وكذلك إصدار قطع معدنية جديدة من فئات أعلى من تلك الموضوعة في التداول حاليا.
هذا وقد صدّق المجلس النيابي في جلسته المنعقدة بتاريخ 24 نيسان 2025 على هذا القانون كما عدّلته اللجان المشتركة، إلّا أنّ رئيس الجمهوريّة قام بردّه بتاريخ 30 أيار 2025 بموجب المرسوم رقم 405. ومن المفاجئ أنّ ردّ الرئاسة للقانون أتى ليس لشائبة في نصّه بل على خلفيّة عدم تناسب الأسباب الموجبة للقانون مع ما طرأ على النصّ من تعديل. وأشار المرسوم إلى أنّ "الأسباب الموجبة للقوانين تعتبر جزءًا أساسيًّا منها وأساسًا لكلّ تفسير لأحكامها، ويقتضي فيها الوضوح والانسجام التام مع هذه الأحكام القانونيّة التي تبرّر موجب إقرارها". كما أضاف موضحًا أنّ الأسباب الموجبة تتضمن مبررات إلغاء القروش والسنتيمات بينما لم يتم هذا الإلغاء في متن القانون، وأنّ عدم التناسب هذا ينطبق أيضًا على "فئة نقديّة مقترحة بقيمة خمسة ملايين ليرة وكذلك لجهة تعديل القوّة الابرائيّة لكل فئة من النقد بما يتناسب مع قيمتها الفعليّة".
يبقى أنّ هذا القانون بعد إعادته إلى المجلس لم يرد على جدول أعمال أي لجنة نيابيّة أو هيئة عامة بغية البتّ بمصيره رغم انقضاء ما يقارب ثلاثة أشهر، ما يطرح تساؤلات حول كيفية تفاعل مجلس النواب مع مراسيم الرد وهو ما سنناقشه في الفقرة اللاحقة.
ثغرات النظام الداخلي حول رد القوانين
يخلو النظام الداخلي لمجلس النواب من أيّة آلية خاصة تتعلق بممارسة رئيس الجمهورية صلاحياته برد القوانين. ولا شكّ أن هذا الأمر مستغرب جدا لأن إعادة القانون للبرلمان لا تدخل في خانة المبادرة التشريعية الجديدة التي يمكن تطبيق المسار العادي الذي يلحظه النظام الداخلي بالنسبة لمشاريع واقتراحات القوانين عليها. وهذا ما أكّده المجلس الدستوري عندما اعتبر "أن مرسوم إعادة النظر بالقانون بقرار منفرد من رئيس الجمهورية لا يندرج على الإطلاق في الممارسة التشريعية ولا يطلق أي مبادرة بهذا الشأن، لأنّ أيّ قول أو رأي مناهض لذلك يخالف صراحة المادة 18 من الدستور التي حصرت المبادرة التشريعية بمجلس النواب ومجلس الوزراء دون سواهما" مضيفًا أنه وعلى الرغم من أن "مجلس النواب يستعيد سلطة التشريع بأكملها عندما يطلب منه رئيس الجمهورية إعادة النظر بقانون ما وفقا للمادة 57 من الدستور، فإنّ قيام مجلس النواب بالإصرار على القانون أو بتعديله لا يشكّل بحدّ ذاته اقتراح قانون جديد، ولا ينسحب وصف اقتراح القانون أو طبيعته على موقف مجلس النواب هذا من التشريع المطلوب إعادة النظر فيه" (قرار رقم 4 تاريخ 29 أيلول 2001).
إن هذا التوصيف يتطلب اعتماد آليّة خاصّة في النظام الداخليّ تشرح كيفيّة دراسة القانون المُعاد من جديد. على سبيل المثال أن صلاحية رئيس الجمهورية برد القوانين المنصوص عليها في المادة 57 من الدستور مأخوذة من المادة السابعة من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 16 تموز 1875 خلال الجمهورية الثالثة إذ كان يتم توزيع طلب رئيس الجمهورية على النواب ومن ثم ينتخب المجلس لجنة خاصة من أجل وضع تقرير خاصّ يتناول القانون المطلوب إعادة النظر فيه من أجل مناقشته من جديد أمام الهيئة العامة[1].
كذلك الأمر في الجمهورية الخامسة (1958) إذ تنص المادة 116[2] من النظام الداخلي للجمعية الوطنية الفرنسية على آليّة خاصّة تتعلّق بردّ رئيس الجمهورية للقوانين، مفادها واجب رئيس المجلس عرض الموضوع على الهيئة العامة التي تقرر إما إحالة القانون إلى اللجنة ذاتها التي درست القانون في المرة الأولى أو إلى لجنة جديدة. وتضيف المادة أن الهيئة العامة تحدد مهلة زمنية للجنة كي تضع تقريرها حول الموضوع على ألا تزيد عن 15 يوما ومن ثم يتم ادراج القانون على جدول أعمال المجلس.
وهكذا يتبين أن النظام الداخلي لمجلس النواب في لبنان تغيب عنه كل هذه الأصول ما يخلق حالة من الغموض في كيفية دراسة القوانين التي يطلب رئيس الجمهورية إعادة النظر بها إذ يمكن لرئيس المجلس عرضها على أي لجنة أو إحالتها مباشرة إلى الهيئة العامة هذا فضلا عن غياب أي مهلة زمنية تلزم رئيس المجلس أو اللجان او مجلس النواب بمناقشة القانون من جديد والبت به نهائيا.
الأبعاد السياسية لصلاحية رد القوانين
تعكس صلاحية إعادة النظر بالقانون طبيعة العلاقة بين المؤسسات الدستورية في النظام السياسي وهي تسمح بتكوين فهم أفضل للتوازن القائم بين رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس النواب. ففي النظام البرلماني الكلاسيكي حيث تنبثق الحكومة عن غالبية نيابية متماسكة، يضمحل دور رئيس الجمهورية في استخدام تلك الصلاحية. هذا كان الواقع مثلا خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا إذ لم يستخدم رئيس الجمهورية هذه الصلاحية كون الحكومة كانت دائما موافقة على القوانين التي يقرها البرلمان وبالتالي هي لن تقوم بموافقة رئيس الجمهورية والتوقيع على طلبه بإعادة النظر بالقانون ما قد يضعها في تعارض مع الغالبية النيابية ويهدد بسقوطها. فالحكومة كانت ستعارض إقرار القانون منذ البداية وفي حال خالف المجلس رغبة الحكومة وأصر على القانون تصبح هذه الأخيرة مرغمة على الاستقالة عملا بقواعد النظام البرلماني ما يعني أن القانون لن يقرّ اصلا كي يتم رده لاحقا[3].
فهذه الصلاحية في النظام البرلماني الكلاسيكي لا يمكن تخيل استعمالها من قبل رئيس الدولة من دون موافقة الحكومة المنبثقة عن الغالبية النيابية ما يجعلها فاقدة جدواها كون كل القوانين يتم فعليا التوافق عليها بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهذا ما يشرح لماذا أيضا لم يتم استخدام هذه الصلاحية في الجمهورية الخامسة الفرنسية إلا ثلاث مرات كون السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية أو الحكومة) كانت دائما تحظى بدعم غالبية نيابية واضحة ما يعني أن لا داعٍ لردّ قانون لا يمكن أن يقرّ إلا بعد موافقة السلطة التنفيذية فعليا.
إذ أنّ طلب إعادة النظر بالقانون لا يمكن أن يصدر إلا عن رئيس للجمهورية يتمتّع باستقلالية سياسية، وهو الأمر الذي نجده في النظم الرئاسية وفي النظم البرلمانية التي لا توجد فيها غالبية نيابية واضحة ونظام أحزاب حيث يتمّ تداول السلطة بين موالاة ومعارضة[4]. وهذا هو الواقع في لبنان إذ أن مجلس النواب يقرّ دائما قوانين لا توافق عليها أو تعارضها الحكومة صراحة، ما يعني أن رئيس الجمهورية يمكن أن يرد تلك القوانين من دون أن يصطدم بالحكومة.
علاوة على ذلك، يحتلّ رئيس الجمهورية في لبنان موقعا لا يتوافق مع صورة رئيس الدولة البروتوكولي والمنسحب سياسيا في النظام البرلماني الكلاسيكي. فالوجود السياسي لرئيس الجمهورية وموقعه في التوزيع الطائفي للمناصب في الدّولة يسمح له بممارسة كل صلاحياته الدستورية باستقلالية. أي أن عدم مسؤوليته أمام مجلس النواب لا يجرّده من سلطته السياسية التي تظل قائمة وهو ما يفسر ليس فقط ممارسته لصلاحية ردّ القوانين لكن أيضا كثرة طلبات الردّ وإمكانية مطالبته من قبل أي جهة كانت بردّ القانون لأي سبب ترتئيه. ويعكس ازدياد طلبات الرد من هذه الزاوية أولا أن النّظام السياسيّ اللبنانيّ يقبل بلعب رئيس الجمهورية دورا سياسيا وثانيا أن الحياة النيابية لا تسيطر عليها الأحزاب المنظمة حيث توجد غالبية واضحة ترافق الحكومة خلال كل ولاية مجلس النواب ما يفسّر إقرار البرلمان لقوانين لا توافق عليها السلطة التنفيذية الحاكمة.
في الخلاصة، يتبيّن أن رد القوانين من قبل رئيس الجمهورية يعتبر صلاحية أساسية في الحياة الدستورية اللبنانية. إلا أن تفعيلها يتطلّب تضمين النظام الداخلي لمجلس النواب أصول التعامل مع مراسيم الردّ، وذلك درءًا للاعتباطية في تطبيقها من قبل إدارة مجلس النواب وبالأخص رئيسه.
[1] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, p. 977.
[2] “Lorsque, suivant les termes de l’article 10, alinéa 2, de la Constitution, le Président de la République demande une nouvelle délibération de la loi ou de certains de ses articles, le Président de l’Assemblée nationale en informe l’Assemblée. Il la consulte pour savoir si elle désire renvoyer le texte de la loi devant une commission autre que celle qui en a été précédemment saisie ; dans la négative, le texte est renvoyé à la commission qui avait eu à en connaître. La commission compétente doit statuer dans le délai imparti par l’Assemblée, qui ne peut, en aucun cas, excéder quinze jours”.
[3] “Une prérogative semblable ne peut être utile qu'à un chef d'Etat qui agit indépendamment et par lui-même, à l'exemple du Président des Etats-Unis. Lorsque, au contraire, ce droit doit être exercé avec l'assentiment d'un ministère qui dépend de la majorité du Parlement, il ne trouvera presque jamais une occasion de s'exercer. Si le ministère a trouvé mauvaise et impraticable la loi que les Chambres ont votée, il l'aura certainement et énergiquement combattue devant elles et, battu par le vote, il aura dû démissionner. Ce n'est pas lui, par conséquent, qui pourra demander au Président d'user de sa prérogative. Les ministres qui l'auront remplacé, pris dans la majorité qui a voté la loi, ne pourraient s'associer à l'acte par lequel le Président demanderait une nouvelle délibération” (A. Esmein, Eléments de droit constitutionnel français et comparé, Tome 2, Librairie de la Société du Recueil Sirey, Paris, 1921, p. 74)
[4] “Si le véto paraît bien devoir rester lettre morte dans les mains du président parlementaire, il est au contraire un instrument du gouvernement présidentiel” (Joseph-Barthélemy et Paul Duez, Traité de droit constitutionnel, Librairie Dalloz, Paris, 1933, p.742).