تشريعٌ وتشبيحٌ من أجل تحصين "المحاسبين": المحاسبون أيضًا يكرهون المحاسبة

فادي إبراهيم

25/09/2025

انشر المقال

تقدّم النّائب قبلان قبلان باقتراح قانون يرمي إلى تعديل قانون تنظيم مهنة خبراء المحاسبة، في اتّجاه منحهم  حصانة إزاء أي ملاحقة في أيّ قضية تتعلّق بممارستهم المهنة أو بمعرضها إلّا بقرار عن هيئة التحقيق المهني تصدره النقابة. وفي تفاصيل الاقتراح، يسعى قبلان إلى إنشاء هيئة تحقيق مهنية مؤلّفة من قاضي من الدرجة الخامسة عشرة على الأقل يعيّنه وزير العدل ليترأّس الهيئة، إضافة إلى عضوية (1) موظف من الفئة الثانية على الأقل في وزارة المالية، (2) رئيس لجنة الرقابة على المصارف، (3) نقيب المحاسبين المجازين كمقرّر للهيئة، (4-5) عضوان يعيّنهما مجلس نقابة خبراء المحاسبة يكونان قد مارسا المهنة لمدّة 15 سنة على الأقل. ووفق الاقتراح، تكون مهمّة الهيئة أوّلا النظر بطلبات ملاحقة خبراء المحاسبة المجازين حيث لها وحدها الحق بتقرير ما إذا كان الفعل الذي يلاحق به المحاسب ناشئا عن المهنة أو بمعرضها أم لا ومنح إذن الملاحقة خلال مهلة شهر. أمّا المهمّة الثانية فستكون وفي حال منح الإذن بالملاحقة اشتراك الهيئة بشكل إلزاميّ بأعمال الخبرة في حال طلبتها المحكمة حتّى ولو عيّنت المحكمة خبراء لإجراء الكشف، وذلك لإصدار تقرير موحّد  لتحديد مدى التزام الخبير بالعناية المهنية الواجبة.

وعليه، وأمام خطورة هذا الاقتراح الذي لم يكلّف النائب قبلان نفسه وضع أسباب موجبة لشرح الخيارات الخطيرة الواردة فيه، وأمام حملة اللقاءات التي تقوم بها نقابة المحاسبين المجازين للتسويق له، نبدي بعض الملاحظات لتنبيه الرأي العام والنواب إزاء خطورته.

ابتزاز الدولة لاكتساب الحصانة

قبل البحث في تفاصيل الاقتراح، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ظروف تقديمه والضغوط التي تُمارس بمناسبته ليست عادية. إذ أنّ نقابة المُحاسبين المجازين لم تكتفِ بزيارات تسويقيّة للاقتراح، بل راحت تُمارس الابتزاز والتهويل على الدولة. وفي هذا الإطار، اقترح مجلس النقابة على جمعيتها العمومية إلزام جميع خبراء المحاسبة الامتناع عن قبول مهامّ تدقيق حسابات (محاسبيا أو جنائيا) تكلّفها بها الجهات الرسمية أو التريّث حتّى نهاية العام، وذلك مقابل إقرار اقتراح القانون المذكور. وبذلك، تعتقد النقابة وممثلوها أنّ بإمكانهم تعطيل العديد من المشاريع والعقود العائدة للمؤسسات الرسمية التي تتطلّب تدقيقا خارجيا، في محاولة لزيادة الضغوطات على المجلس النيابي.

وتأتي هذه المساعي بعد فتح عدد من ملفّات الفساد استُمع فيها إلى عدد من مدقّقي الحسابات ولوحق بعضهم الآخر فيها. ومن بين هذه القضايا قضية ابتزاز شركات التأمين من قبل وزير الاقتصاد السابق أمين سلام وشقيقه وآخرين، حيث تبيّن بحسب حكم صادر عن محكمة الجنايات في بيروت أنّ نقيب خبراء المحاسبة المجازين إيلي عبود كان مطّلعا على بعض الملفات فيها وقد ورد في الحكم أنّ "شهادته أمام المحكمة تثير الالتباس والضبابية حول الوقائع المطروحة، ما يقتضي التحقّق من توفر شروط كتم المعلومات وفقاً لما نصت عليه المادة 408 من قانون العقوبات". وعليه، وبحسب معلومات صحفية، تمّ الاستماع لعبّود والادّعاء عليه وطلبت النيابة العامة توقيفه، قبل أن يتم تركه بسند إقامة مقابل دفعه لكفالة مالية ومنعه من السفر، بانتظار صدور القرار الظنّي بحقّه. وقد قُدّم الاقتراح المذكور خلال فترة التحقيق مع النقيب عبود.

اقتراح لزيادة طبقات الإفلات من العقاب

يُحاول قبلان عبر اقتراحه ابتداع حصانة جديدة لفئة وظيفية ينتمي إليها حوالي 3000 شخص. ليس ذلك فحسب، بل تتعلّق الحصانة المقترحة بفئة تعمل مباشرة في الشأن المالي، وذلك بعد أكبر انهيار ماليّ ومصرفيّ في تاريخ لبنان وهو انهيار ما كان ليحصل لولا سلسلة من الجرائم المالية والأهم لولا تواطؤ العديد من خبراء المحاسبة أو تخاذلهم في أداء مهامهم الرقابية. وعليه، يسعى الاقتراح إلى وضع حاجز أمام ملاحقة أيّ خبير محاسبة، على نحو يكمل سلسلة الحصانات الفعلية وخصوصا في المجال المصرفي.

ويستلهم قبلان النص من المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة، مع تعديلات تتعلّق بحلول هيئة التحقيق المهني مكان مجلس نقابة المحامين لجهة منح الإذن. وعليه، يحمل الاقتراح نفس المشاكل التي تكتنفها حصانة المحامين. إذ أن الاقتراح لا يضع معايير واضحة للهيئة المعنيّة بمنح إذن الملاحقة من عدمه، بل يكتفي بتوكيلها فحص ما إذا كانت الملاحقة ناشئة عن ممارسة المهنة أو بمعرضها، فإذا لم تكن كذلك، لا يكون هنالك حاجة لطلب إذن منها بالملاحقة. أمّا في حالة اكتشاف أنّ الفعل ناشئ عن ممارسة المهنة أو في معرضها، فلا يضع النصّ أيّ معيار للهيئة لكيفيّة وضع قرارها. وبذلك، يسمح الاقتراح للهيئة المذكورة أن تتدخّل لممارسة رقابة مسبقة على صحّة الشّكاوى المقامة ضدّ أيّ محاسب مجاز. ومن هذه الزاوية، تُصبح الهيئة ومن خلفها النقابة بمثابة مصفاة تعْبرها فقط الشّكاوى التي تراها صحيحة مقابل حجب الإذن عن كلّ ما لا تراه كذلك، مع ما يتيحه ذلك من استيلاء على صلاحية القضاء في النظر في الشكاوى ومن محاباة للمدقّقين وبخاصّة الذين يتمتعون بنفوذ داخل النقابة من حزبيين أو أصحاب مكاتب محاسبة كبرى وسواهم. وبذلك، تتحوّل الحصانة إلى ما يشبه امتيازاً تتحكّم الهيئة ومن خلفها النقابة بدرجة كبيرة بمنحه أو حجبه، وهو امتياز قد يتيح لمحاسبين كثيرين استخدامه في أفعال غير قانونية، تحت غطاء ممارسة المهنة من دون أي خوف من الملاحقة.

وإذ يشير الاقتراح إلى أنّ هيئة التحقيق هي الوحيدة التي لها الحقّ في تقرير ما إذا كان الفعل ناشئًا عن ممارسة المهنة أم لا، إلّا أنّ هذا القرار "تصدره النقابة". بمعنى أنه يكون لهذه الأخيرة (ممثلة بالنقيب أو مجلس النقابة) عدم إصدار القرار أو المماطلة في منحه، مع ما يستتبع ذلك من عرقلة وتعقيد للإجراءات القضائية. وإذ يُتيح الاقتراح إمكانية الطعن بقرارات مجلس النقابة والجمعية العمومية والتأديب وصندوق التقاعد، فهو لا يوضح آلية الطعن بالقرار المتعلّق بمنح إذن الملاحقة بأي شكل من الأشكال.

تجدر الإشارة إلى أنّه وببحثٍ سريع حول القوانين والأنظمة الراعية لتنظيم أعمال مدققي الحسابات المجازين في العالم وفي المنطقة العربية، لم نصل إلى أي نموذج أو نص يُلزم الجهات القضائية بالاستحصال على إذن من النقابة لملاحقة مدققي الحسابات. لا بل على العكس، تقع موجبات أوسع على المدققين قد تؤدّي إلى تحميلهم مسؤوليات جزائية في حال عدم قيامهم بها، خصوصا في حالات تستوجب أن يبلّغوا فيها السلطات العامّة عن بعض الأعمال.

اشتراك في الملاحقة والحكم والتحقيق

لا يكتفي الاقتراح في تعليق الملاحقة على إذن مسبق من قبل هيئة التحقيق المهني، بل هو يمنح هذه الهيئة علاوة على ذلك مرجعية إلزامية في التحقيقات في حال طلبت المحكمة الاستعانة بالخبرة المهنية حتّى ولو عيّنت المحكمة لجنة خبراء من خارج الهيئة، ففي الحالة الأخيرة يخرج تقرير موحد عن الهيئة ولجنة الخبراء. وعليه، لا يكتفي الاقتراح بمنح النقابة والهيئة الصلاحية بتعطيل أعمال الملاحقة، لا بل يمنحها صلاحية التأثير على أعمال التحقيق والمحاكمة، عن طريق إلزام المحكمة بتقرير ستنفرد أو تشترك بإعداده. وما يزيد من ثقل تقرير الهيئة هو ترؤّسها من قاضٍ من الدرجة الخامسة عشرة وما فوق، أي من قاض له خبرة تقارب 30 سنة وهو عموما قاضٍ يعلو درجة القاضي الناظر في القضية في الغالبية الكبرى من الحالات.

ولا يكتفي الاقتراح بتعقيد إجراءات الملاحقة أو فرض دور الهيئة التحقيق المهني، بل يذهب إلى حد وضع اليد على المحكمة المختصة في الطعون التي تقدّم ضدّ قرارات مجلس النقابة والجمعية العمومية والتأديب، وهي "محكمة الاستئناف المدنية في بيروت الناظرة في قضايا النقابات". وهذا ما يتحصل من اقتراح إضافة عضوين من مجلس النقابة إلى هيئة المحكمة المكونة من 3 أعضاء. وإذ يُحاول قبلان مجددا استنساخ تجربة نقابة المحامين وغيرها من المهن الحرّة، فهو يكرّر الخلل نفسه بحيث يكون هذان العضوان قد شاركا في اتخاذ القرار المطعون فيه، مع ما يتيحه ذلك من تناقض مصالح واضح، يجعلهم في موقع الخصم والحكم معاً. وتبقى هذه التركيبة الهجينة للهيئة المختلطة لمحكمة الاستئناف الناظرة في القضايا النقابية، الإخلال الأخطر لضمانات المحاكمة العادلة لوجود أسباب ارتياب جدي في انحيازهم لمجلس النقابة. بمعنى أنه وبدل أن يتدخل المشرع لتعديل القوانين النقابية في اتجاه ضمان حيادية المحكمة الناظرة في الطعون النقابية، تراه يعمم الخلل ليشمل نقابة جديدة.  

لجنة بمواصفات خيالية غير مبررة 

كما أسلفنا أعلاه، تتألف الهيئة من قاضٍ من الدرجة الخامسة عشر على الأقل يعيّنه وزير العدل ليترأّس الهيئة. وللمفارقة، لا يفرض قانون تنظيم القضاء العدلي الحالي حيازة هذه الدرجة لتولي أي منصب قضائي، بما فيه أعلى المناصب القضائية. ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أن إشغال أعلى منصبيْن قضائييْن وهما منصبا الرئيس الأول لمحكمة التمييز والنائب العام لديها، يتطلبان حيازة الدرجة الرابعة عشرة فقط. وعليه، يظهر أنّ مقدّم الاقتراح يُحاول إضفاء هالة كُبرى حول هذه الهيئة، وتحصين قراراتها وتقاريرها بالمرجع القضائي المذكور، هذا فضلا عن مخاطر اشتراك قضاة بأعمال نقابات خاصة. ولا يكتفي الاقتراح بذلك بل يجعل من رئيس لجنة الرقابة على المصارف عضوا في الهيئة، لزيادة الأعضاء أصحاب المناصب العليا فيها، من دون أي تبرير منطقي لتعيينه عضوا في الهيئة.

ولا يوضح الاقتراح طبيعة العلاقة بين هذه الهيئة والنقابة، ولا الجهة التي ستتحمّل أعباء أتعاب هؤلاء أو إذا ما كانوا سيتقاضون أتعابًا أصلا. كما لا يوضح آليات العمل داخل الهيئة وآلية الاجتماع والدعوة والنصاب وجداول أعمالها والتصويت وحالة التعادل، خصوصا مع التوازن بين عدد الأعضاء من داخل النقابة (3) وعدد الأعضاء من خارجها (3 أيضا).

ويُخشى في هذا الصدد، في حال إقرار اقتراح القانون، أن يُماطل في تعيين الهيئة في محاولة لعرقلة الملاحقات، خصوصا وأنّ الاقتراح لا يلحظ آلية بديلة في حال عدم تعيين أعضائها.