إشكاليات دستورية بشأن انتخاب رئيس مجلس النواب

وسام اللحام

19/05/2022

انشر المقال

مع نهاية ولاية مجلس النواب في 21 أيار المقبل من المفترض أن يعمد مجلس النواب المنتخب حديثا إلى الاجتماع من أجل انتخاب مكتبه الذي يتألف من رئيس مجلس النواب ونائب الرئيس إضافة إلى أمينيْ سر وثلاثة مفوّضين.

وتنصّ المادة الثانية من النظام الداخلي لمجلس النواب على التالي: "يجتمع مجلس النواب بناء على دعوة أكبر أعضائه سناً وبرئاسته لانتخاب هيئة مكتب المجلس في أول جلسة يعقدها بعد تجديد انتخابه، وذلك في مهلة أقصاها خمسة عشر يوماً من بدء ولايته". ولا شكّ أن إصرار النظام الدّاخلي على ضرورة تكوين هيئة مكتب المجلس ضمن مهلة قصيرة هو من الأمور البديهية كون المجلس يحتاج من أجل مباشرة مهامه إلى مرجعية تتولى تنظيم السلطة التشريعية من الناحيتين الدستورية والإدارية.

حددت المادة 44 من الدستور آلية انتخاب رئيس مجلس النواب وفقا للتالي: "في كل مرة، يجدّد المجلس انتخابه يجتمع برئاسة أكبر أعضائه سنّاً ويقوم العضوان الأصغر سناًّ بينهم بوظيفة أمين سرّ. ويعمد إلى انتخاب الرئيس ونائب الرئيس لمدة ولاية المجلس كل منهما على حدة بالاقتراع السري وبالغالبية المطلقة من أصوات المقترعين. وتبنى النتيجة في دورة اقتراع ثالثة على الغالبية النسبية، وإذا تساوت الأصوات فالأكبر سناً يعد منتخبا".

السؤال الذي يطرح نفسه هو معرفة كيفية احتساب الغالبية من أجل انتخاب الرئيس وتاليا نائب الرئيس. فالمادة 44 تنص على أن الرئيس ينتخب في الدورتين الأولى والثانية بالغالبية المطلقة بينما يتم الاكتفاء في الدورة الثالثة بالغالبية النسبية. لكن النصّ لا يكتفي بهذا الشرط بل يضيف أن الغالبية المطلوبة في الدورتين الأولى والثانية تحتسب من أصوات المقترعين. فهل الغالبية المطلقة هنا يتم احتسابها من عدد جميع النواب الذي يتألف منهم مجلس النواب قانونا أو فقط من النواب المقترعين؟ وفي حال كان الاحتمال الثاني هو الصواب كيف لنا أن نفهم معنى "النواب المقترعين" من أجل معرفة كيفية احتساب الأصوات الضرورية بغية تحديد الفائز؟

من الملاحظ أن المادة 44 تعود في نصها هذا إلى سنة 1926 مع وضع الدستور اللبناني. وقد جاءت الصيغة العربية المعتمدة اليوم ترجمة حرفية للنص الفرنسي الذي يستخدم تعبير: "suffrages exprimés" أي أصوات المقترعين أو بشكل أدقّ الأصوات التي تم تعبير عنها. فالغالبية المطلقة في حال احتسبتْ وفقا لمجموع أعضاء مجلس النواب تصبح 65 اليوم من أصل 128 نائبا يتألف منهم المجلس قانونا، أي أن رئيس مجلس النواب لا يمكن أن ينتخب في الدورتين الاولى والثانية إلا إذا حصل على 65 نائبا. لكن هذا التفسير يصطدم بصراحة النص الدستوري الذي يقول الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين علما أن الدستور في مواد أخرى يستخدم صيغة متخلفة لتحديد كيفية احتساب الغالبية المطلقة فيقول "الغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونا". لذلك لا يمكن أن تكون الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين مماثلة للغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء وإلا انتفتْ الحاجة إلى التّفريق في النصّ الدستوري بين المفهوميْن.

من أجل تحديد معنى هذا النص لا بد من العودة إلى التجربة الدستورية في الجمهورية الفرنسية الثالثة التي تشكل المصدر المباشر للنص اللبناني. من خلال مراجعة القانون الدستوري الصادر في 16 تموز 1875 نلاحظ  أن المادة 11 منه تكتفي بالنص على أن مكتب المجلس ينتخب بشكل سنوي دون تحديد ما هي الغالبية الضرورية لذلك. من هنا ضرورة البحث في النظام الداخلي لمجلس النواب الفرنسي خلال الجمهورية الثالثة المقر في 16 حزيران 1876 والذي يتبين منه بخصوص انتخاب رئيس المجلس وفقا للعلامة "أوجين بيار" التالي أن الأكثرية المطلقة تحتسب وفقا لعدد الذين اقترعوا وليس مجموع العدد القانوني لأعضاء مجلس النواب[1]. لا بل أكثر من ذلك ان هذه الغالبية يجب أن تحتسب وفقا لعدد الأصوات التي تم منحها لأشخاص محددين دون الأوراق البيضاء التي تم تعبر عن اقتراع ما[2].

وهكذا يتبين لنا أنّ المادة 44 في الدستور اللبناني تجد مصدرها في التجربة الدستورية الفرنسية لا سيما النظام الداخلي لمجلس النواب، وبالتالي من أجل انتخاب رئيس مجلس النواب في لبنان يتوجب توفر الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين فقط من دون الأخذ في الاعتبار الأوراق البيضاء أو الملغاة. وهذا ما تنص عليه صراحة المادة 12 من النظام الداخلي للبرلمان اللبناني عندما تعلن التالي: "لا تدخل في حساب الأغلبية في أي إنتخاب يجريه المجلس الأوراق البيضاء أو الملغاة"[3].

فعدم احتساب الأوراق البيضاء أو الملغاة من أجل احتساب الغالبية المطلقة يعني حكما أن هذه الأخيرة ليستْ ثابتة كونها تتبدّل وفقا أولا لعدد المقترعين وثانيا لعدد الأوراق البيضاء أو الملغاة. فمن أجل انتخاب رئيس مجلس النواب لا بدّ من تأمين شرطيْن: (1) توفر النصاب المحدد بالمادة 34 من الدستور بالغالبية المطلقة من العدد القانوني للنواب (أي 65 نائبا اليوم) ومن ثم (2) حصول النائب على الغالبية المطلقة في الدورتين الأولى والثانية من أصوات المقترعين. فلو افترضنا أن 100 نائبا حضروا الجلسة واقترعوا خلالها ومن ثم بعد فرز الأوراق تبين وجود 20 ورقة بيضاء ما يعني أن الأصوات التي تدخل في احتساب الغالبية هي فقط 80 صوتا وتكون بالتالي الغالبية المطلقة الضرورية للفوز في الدورة الأولى هي 41 صوتا. في حال أيضا لم تكن الدورة الثانية حاسمة، يتمّ الاكتفاء بالدورة الثالثة بالغالبية النسبية أي يعدّ فائزا من حصل على العدد الأكبر من الأصوات فقط حتى لو كانت أقل من غالبية أصوات المقترعين. وفي حال تعادل الأصوات يعد الأكبر سنا منتخبا وهو أيضا مبدأ نص عليه النظام الداخلي لمجلس النواب في الجمهورية الثالثة الفرنسية.

وحقيقة الأمر أنّ هذه الطريقة في احتساب الغالبية المطلقة في حال الانتخاب تعود في النظام اللبناني إلى النظام الداخلي الفعلي الأول لمجلس النواب الذي أقرّ في سنة 1930 والذي نص في مادته الخامسة على التالي:

" تعتبر الأوراق الانتخابية الخالية من الأسماء والممضاة من واضعيها أو الحاوية اشارة معينة ملغاة. إن الأعضاء الممتنعين عن الاشتراك في التصويت لا يدخلون في حساب الأكثرية وكذلك الأوراق الخالية من الأسماء والمشار إليها في الفقرة الأولى تحسب ملغاة ويكتفى بعدد الأوراق المقبولة في حساب الاكثرية".

وقد كررت المادة الرابعة من النظام الداخلي الذي أقر سنة 1953 هذا المبدأ فنصت على التالي: "لا تدخل الأوراق البيضاء أو الملغاة في حساب الأكثرية".

وبالفعل تؤكد السوابق هذا التفسير الدستوري لمفهوم "الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين". ففي جلسة 20 تشرين الأول 1931 المخصصة لانتخاب رئيس المجلس يعلن رئيس السنّ حسين بك قزعون التالي:

"رئيس السن ـ نشرع في انتخاب الرئيس الدائم.

فجرى الاقتراع السري لانتخاب الرئيس الدائم فكانت النتيجة كما يلي:

الناخبون: 42.

الأوراق الانتخابية: 42.

الأكثرية المطلقة: 22".

فمن مجلس يتألف قانونا من 45 نائبا تكون غالبيته المطلقة التي تحتسب من مجموع أعضائه 23 نائبا. لكن فقط 42 نائبا حضروا الجلسة واقترعوا ما جعل الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين تحتسب فقط على عدد الذي صوتوا فعليا أي 22 من 42.

وقد تكرر الأمر في جلسة 22 تشرين الأول 1946. فمن مجلس يتألف قانونا من 55 نائبا اقترع فقط 51 فأعلن رئيس السن جورج زوين التالي: "إن عدد المقترعين 51 وعدد الأوراق 51 فتكون الأكثرية 26 صوتاً، نال السيد حبيب أبو شهلا 29 صوتاً ونال السيد صبري حماده 22. لذلك أعلن فوز السيد حبيب أبو شهلا برئاسة المجلس بأكثرية 29 صوتاً فأهنئه". فالغالبية المطلقة تمّ احتسابها وفقا لعدد من أصوات المقترعين وليس العدد القانوني لأعضاء مجلس النواب.

ولا شكّ أن غياب التنافس في انتخاب رئاسة مجلس النواب لا سيما بعد 1992 جعل هذا المبدأ القانوني في كيفية احتساب الغالبية المطلقة يدخل في غياهب النسيان كون رئيس مجلس النواب انتخب دائما منذ ما يقارب الثلاثين سنة من الدورة الأولى وبغالبية كبيرة لا تطرح إشكاليات دستورية من أجل معرفة الفائز. وبالتالي من أجل انتخاب رئيس مجلس النواب المقبل يتوجب حصول الفائز على الغالبية المطلقة من أصوات المقترعين في الدورتين الأولى والثانية وليس 65 نائبا كما يردّده البعض. وعليْه، إنّ الاقتراع بأوراق بيضاء كتعبير عن اعتراض ضد وصول مرشّح ما  لرئاسة مجلس النواب يؤدي إلى نتائج عكسية كونه يساعد هذا المشرح على الفوز بسهولة خاصة إذا لم يكن يوجد منافس له.


[1] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 462. « La majorité absolue se calcule d’après le nombre des votants. On entend par votants ceux qui ont réellement exprimé un suffrage, en conséquence le chiffre de la majorité absolue ne doit pas être établi d’après le nombre de membres qui on matériellement pris part au scrutin, mais d’après le chiffre des suffrages exprimés si faible qu’il soit ».
[2] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 463. « D’après la jurisprudence, il n’y a pas de doute qu’il ne faille déflaquer du chiffre des suffrages exprimés les bulletins blancs ».
[3]  تطرح هذه المادة إشكالية كبرى بخصوص انتخاب رئيس الجمهورية الذي وفقا للعادة يحتاج إلى غابية الثلثين من مجموع أعضاء مجلس النواب أي 86 نائبا اليوم. ففي حال طبقنا هذه المادة من النظام الداخلي وافترضنا وجود أوراق بيضاء وملغاة عند انتخاب رئيس الجمهورية فهذا يعني أن غالبية الثلثين لم تعد ثابتة على الرقم 86 بل ستتبدل وتنخفض نتيجة عدم احتساب تلك الأوراق، ما يعني أن هذه المادة في النظام الداخلي تخالف الممارسة الدستورية في لبنان. ونحن نقول الممارسة الدستورية وليس الدستور لان المادة 49 بنصها الفرنسي تقول أن رئيس الجمهورية ينتخب بغالبية الثلثين من الأصوات بينما النص العربي المعول عليه اليوم يقول غالبية الثلثين من مجلس النواب. وصراحة النص الفرنسي، خلافا لكل التفسيرات السائدة، ترجح ان انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن يتم بغالبية الثلثين من النواتب الذين اقترعوا وليس من مجموع عدد أعضاء مجلس النواب لكن هذا المنطق السدتوري السليم يصطدم بواقع سياسي وممارسة طويلة فرضت احتساب غالبية انتخاب رئيس الجمهرية من مجموع أعضاء مجلس النواب.