اقتراحان لتسهيل البناء في المناطق الريفية "غير المنظّمة": تشريع "اللا دولة"

المفكرة القانونية

24/08/2021

انشر المقال
يعدّ المرصد البرلماني في المفكرة القانونية تقريراً كاملاً عن أعمال المجلس النيابي والمبادرات النيابية لفترة 2019-2020. وقد باشرت المفكرة نشر أهم مواده تنبيهاً للرأي العام وبهدف إشراكه في صناعة القوانين أو التصدّي لما قد يشكّل إضراراً بالصالح العام. أعددنا هذه المقالة بالشراكة مع استديو أشغال عامّة وهي تتناول اقتراحين عمدا إلى إعفاء بعض رخص البناء من الرسوم المتوجّبة عليها في المناطق غير المنظّمة أو تلك التي يسمح نظامها بالسكن. وهذا توجّه يمضي في "شرعنة" المناطق غير المنظّمة وتكريس استقالة الدولة من أدوارها بحجج تسهيل الوصول إلى الحق في السكن. اقتراحان لإعفاء بعض رخص البناء من كافة الرسوم المتوجّبة عليها نجد اقتراحين مقدّمين من كلّ من النائبة بهية الحريري (عضو كتلة المستقبل النيابية) من جهة، والنوّاب علي فيّاض، وإبراهيم الموسوي، وحسين جشّي من كتلة الوفاء للمقاومة (حزب الله) من جهة أخرى، يذهبان في الاتجاه نفسه. ومن الملفت توافق هاتين الجهتين على تحقيق المصالح نفسها. وكانت النائب بهية الحريري تقدّمت باقتراح القانون المذكور باسم كتلة المستقبل النيابية في 3/6/2020، وهو نسخة مُعدّلة عن القانون رقم 453 الصادر عام 1995 الذي يحمل الاسم نفسه ويقضي بإعفاء بعض رخص البناء من الرسوم وفقاً لتصاميم نموذجية. والملفت أنّ نوّاب حزب الله/ كتلة الوفاء للمقاومة تقدّموا، في 23/6/2020 – أي بعد 20 يوماً من تقدّم بهية الحريري باقتراحها – باقتراح قانون مماثل يرمي إلى إعادة العمل بالقانون 453/1995 مع تعديل بعض أحكامه. أحيل الاقتراحان إلى اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الأشغال العامّة والنقل والطاقة والمياه. درستهما اللجنة الفرعية خلال 4 جلسات، فدمجتْ النصّين بعد أن جرى الاتفاق على استبدال موضوع الإعفاء من الرسوم بتخفيض مؤقّت لها. وعليه تمّ تعديل عنوان اقتراح القانون ليصبح "اقتراح قانون يرمي إلى منح تخفيض مؤقّت على بعض رسوم البناء وفقاً لتصاميم نموذجية"، ورُفعت الصيغة النهائية إلى لجنة الأشغال للبتّ فيها. يعمد الاقتراح إلى إعفاء رخص البناء في المناطق غير المنظّمة، والمناطق المنظّمة التي يسمح نظامها بالسكن، من كافّة الرسوم المتوجّبة عليها، على أن يلتزم طالب الترخيص بأحد التصاميم السكنية النموذجية المعدّة من قبل المديرية العامة للتنظيم المدني، وبالشروط التالية: - ألّا تزيد المساحة الإجمالية المبنيّة عن 240 م2 بما فيها كافّة المساحات التي تدخل في عاملي الاستثمار السطحي والعام. - ألّا يتجاوز عدد الطوابق طابقين اثنين بارتفاع أقصى قدره 5.6 أمتار زائد متر واحد تسامح. - ألّا تُقام طوابق سفلية مردومة أو سفلية مكشوفة. - أن يحصل مالك العقار بالشيوع على موافقة 75% من مالكي العقار مسجّلة لدى كاتب العدل تسمح له بالبناء على العقار وفق خريطة كيل ومقاسمة تُظهر حصّته. وفي حال مخالفة المالك للتصميم النموذجي الذي صدر الترخيص وفقاً له، يعتبر البناء مخالفاً ويتوجّب عليه تسوية وضعه وتسديد الرسوم المتوجّبة وفق أحكام قانون تسوية مخالفات البناء. وللتذكير، تشمل هذه الرسوم المتوجّبة رسوم رخصة البناء والبلدية ورسم الطابع المالي، ورسم بدل المرآب، وضريبة الأملاك المبنيّة لمدّة 10 سنوات إذا كانت 60% من الجدران مكسية بالحجر الطبيعي وفي حال إنشاء ثكنة قرميد على كامل السطح الأخير. واستثنى الاقتراح منه المناطق المنظّمة بموجب مرسوم، ومراكز المحافظات والأقضية، والمناطق الأثرية والسياحية، والمحميات الطبيعية وأحزمة حمايتها. وقد زاد اقتراح كتلة الوفاء للمقاومة المناطق التي تكون تحت الدرس بقرارات من المجلس الأعلى للتنظيم المدني. وتبقى الأسباب الموجبة التي برّرت الاقتراح ملفتة جداً.  فبحسب اقتراح النائبة بهية الحريري، تكمن أسبابه الموجبة في الأمور الآتية:  -        تفاقم النزوح من القرى والبلدات إلى المدن الرئيسية أدّى إلى ازدياد الكثافة السكانية في هذه المناطق بطريقة فاقت القدرة الاستيعابية للبنى التحتية فيها. -        تشجيع سكّان القرى والبلدات في الريف على البقاء في قراهم وبلداتهم والتخفيف من أعباء النزوح من القرى إلى المدن الرئيسية. -        تشجيع الأهالي على البناء في قراهم وبلداتهم بشكل يسهم في تحفيز الحركة الاقتصادية وتنشيطها في هذه المناطق ويساهم في الوصول إلى الإنماء المتوازن.   أما بحسب اقتراح نوّاب كتلة الوفاء للمقاومة، فتكمن أسبابه الموجبة في الأمور الآتية:  - تشجيع نموّ المناطق الريفية في ظلّ الظروف الاقتصادية الحالية ومنع تجاوز القانون والحدّ من مخالفات البناء. وعلى صعيد الأسباب الاقتصادية: - تشجيع نموّ المناطق الريفية عبر إطلاق حركة البناء فيها وفي البلد عموماً. - مساعدة ذوي الدخل المحدود في الحصول على رخص البناء حسب الأصول القانونية وبأكلاف متدنّية. وعلى صعيد الأسباب الفنية: - تسهيل الحصول على تراخيص فنية ومستوفية للشروط بموجب القوانين المرعية الإجراء في العقارات التي لا تستوفي كلّ الشروط المطلوبة للترخيص (من حيث المالكين وطبيعة العقار) وبخاصّة في الشيوع. على صعيد الأسباب الاجتماعية: - تأمين وحدات سكنية لذوي الدخل المحدود. - تثبيت المواطنين في المناطق الريفية وتشجيع انتقالهم من المدن إلى الريف. وعلى صعيد الأسباب القانونية: -الاستغناء عن تصاريح البناء المعطاة بموجب تعاميم خلافاً للقانون مع كل ما يترتّب عنها من مخالفات. وللتذكير، يخضع تشييد الأبنية على اختلاف أنواعها، للحصول على رخصة مسبقة، إنّما يميّز قانون البناء بين حالتين. ففي المناطق المنظّمة تكون رخصة البناء قائمة على احترام عوامل الاستثمار والشروط والمعايير المحدّدة في التصاميم التوجيهية والتفصيلية الصادرة للمنطقة. أمّا إذا تعلّقت رخصة البناء بمنطقة غير منظّمة، فقد نصّت المادة الرابعة من قانون البناء على أن تُحدد بموافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني شروط البناء على العقار المعني، من دون أن تتجاوز الشروط تلك المعمول بها بموجب أحكام المادة 17 من قانون البناء بالنسبة لعامل الاستثمار العام. هذا يعني عملياً أنّ المجلس الأعلى يصدر قراراً يحدّد فيه الشروط المذكورة للمنطقة المعنيّة وضمن السقف القانوني. ومن هذا المنطلق، تتفرّع إشكاليّتان: الأولى، ماذا إذا لم يكن هنالك أنظمة مصدّقة لضبط قرار المجلس الأعلى، كما هي حال المناطق غير المنظمّة؟ والثانية، ماذا لو لم يصدر مرسوم تنظيمي خلال ثلاث سنوات من إصدار قرار المجلس؟ حتّى يومنا هذا، لا تتجاوز نسبة المناطق المنظّمة 15% من المساحة الإجمالية للأراضي اللبنانية، وهي تقع بمعظمها في المدن الرئيسية وضواحيها حيث الانتشار العمراني الكثيف، فيما يتعرّض الجزء الآخر والأكبر إلى الإهمال الاعتباطي، فالمساحة الأكبر من الأراضي اللبنانية (85%) لا تزال غير منظّمة، ومن بينها مناطق عديدة فيها قاعدة واسعة لناخبي حزب الله وحركة أمل وتيّار المستقبل (مقدّمي اقتراح القانون) كقرى قضاء بعلبك، والهرمل، وعكار، والجنوب، ومناطق إقليم الخرّوب. في ظلّ تغاضي المسؤولين والمديرية العامة للتنظيم المدني عن تنظيم هذه المناطق، وجد الناس، وبخاصّة محدودي الدخل، صعوبة في البناء وتأمين السكن في عقارات يملكونها في قُراهم وبلداتهم، بالأخصّ في العقارات التي لا تستوفي الشروط القانونية للترخيص بالبناء سواءً بسبب الشيوع في الملكية، أو طبيعة العقار ومساحته، أو وجود مخالفات بناء سابقة. وقد لجأ بعضهم إلى البناء أو إجراء إضافات من دون الحصول على رخص رسميّة والعودة إلى مهندس مُشرف، فانتشرتْ عمليّات البناء من دون تراخيص في كافّة الأراضي اللبنانية. والجدير بالذكر أنّ بعض هذه العمليات دُعمت بتغطية حزبية، وبعضها جاء نتيجة سلسلة من التعاميم والقرارات العبثية لوزراء الداخلية تجيز منح تصاريح بناء من دون اتّباع الأصول القانونية والتنظيمية الخاصّة بإصدار رخص البناء (وهذا ما ذكرناه أعلاه). هذه التعاميم لم "تُشرعن" الأبنية التي شّيدت بموجبها إذ لا يمكن لصاحب العقار المبني الحصول على رخصة إسكان للعقار، وبالتالي، لا يستطيع فرز العقار أو بيعه أو حتى توريثه لأبنائه بدون تسوية، ممّا لا يلبّي طموحات طبقة من المجتمع تسعى للبناء لأبنائها وتأمين مساكن لهم. كما قد يتورّط صاحب العقار في مشاكل قضائية وقانونية مُستقبلية مع شركائه في العقار أو مع بقية المالكين في حال كان العقار غير مُفرز. وإذ يعفي اقتراح القانون رخص البناء في المناطق غير المنظّمة من كافة الرسوم المتوجّبة عليها، فإنّ من شأنه في هذه الحالة أن يشجّع ذوي الدخل المحدود الذين يعانون من غلاء أسعار الشقق والذين يملكون عقارات في هذه المناطق على الاستحصال على رخص بناء قانونية تمكّنهم من الاستقرار والبناء في قُراهم. يُسهم الاقتراح إذاً في إزاحة تكاليف الرخصة عن كاهل المواطن طالب الترخيص، إلّا أنّ الإعفاء مشروط بالتزام هذا الأخير بأحد التصاميم السكنية النموذجية المعدّة من قبل المديرية العامة للتنظيم المدني. وهنا يُطرح تساؤل حول إمكانية استفادة بعض المستثمرين و/أو النافذين الذين يملكون أو قد يشترون عقارات عديدة في هذه المناطق من الإعفاء إذا التزموا بالشروط، ما قد يحرم الدولة من مردود مهمّ، فالآلية المطروحة في هذا الإطار مبهمة وقد تجعل الإعفاءات تزيد وتتكاثر. كذلك، إنّ الاقتراح في مضمونه "يُشرعن" البناء، ويسرّعه، ويزيده في المناطق غير المنظّمة على اختلافاتها بحجّة الاستجابة لحاجات السكن والحدّ من النزوح من المناطق الريفية إنما بمفعول مشابه للتعاميم الاستثنائية، ما قد يؤدّي حتماً إلى تحريك ونمو القطاعات المرتبطة بالبناء من جهة، وأبرزها المقالع والكسّارات المرخّصة وغير المرخّصة، ومن جهة أخرى تدمير الطابع المميّز للمناطق عبر السماح بتمدّد البناء، وبشكل عام تسريع تدهور سبل العيش والمعالم البيئة الطبيعية، في وقت تحتاج فيه هذه المناطق أولاً إلى التنظيم عبر إصدار مراسيم وتصاميم توجيهية وتفصيلية تحافظ على مقوّمات المناطق الطبيعية والاجتماعية - الاقتصادية، وتحقّق التنمية فيها عبر العودة إلى الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية وبالتالي الحدّ من النزوح من المناطق الريفية. وستُباع النماذج المطبوعة والموضوعة في ملفّات معفاة من الرسوم لصاحب العقار لقاء مبلغ زهيد كي يلتزم بالخرائط المودعة في الملف، كما حصل خلال التسعينيّات بموجب القانون 453/1995، فيوفّر المواطن تكاليف تلزيم مهندس وتحضير خرائط. تُطرح هذه التصاميم النموذجية الجاهزة كحلّ لمشكلة البناء المُسمّى "عشوائي" والمخالف على عقارات لا تستوفي الشروط المطلوبة من حيث المساحة والملكية، فهي تؤمّن، بحسب مشجّعي الفكرة، شروطاً سكنية ومواصفات فنية وهندسية ملائمة بعكس ما تفرضه فوضى البناء القائمة حالياً، بحسب توصيفهم.  ولكن ألا تُقيّد هذه التصاميم النموذجية الجاهزة المرونة التصميمية للهندسة المعمارية؟ كيف لعددٍ محدودٍ منها أن يضمن إرضاء رغبات وتأمين احتياجات أفراد وعائلات مختلفة، من فئات اجتماعية مختلفة، في مناطق لبنانية مختلفة؟ هل سيُقدَّم النموذج ذاته لسكّان السهل والوادي والجبل؟ هل سيُقدَّم ذاته للموظّف والمزارع، للمفكّر والعامل؟أخيراً، يُخشى من أطر "الخدمة" التي تكرّسها سياسة الإعفاءات المتمثّلة في اقتراح القانون هذا من تحويل الناس "متلقّين للمساعدات"، ليصبحوا مدينين لشخص أو للأحزاب السياسية التي منحتهم هذه الخدمة. وساهم غياب سياسات الدولة الإسكانية، والتعاطي مع الأراضي من مُنطلق اقتصادي ونسيان وظيفتها الاجتماعية في زيادة ظواهر التعدّيات وزيادة نسبة الاستثمار في العقارات المبنيّة من دون سند قانوني. واقتراح القانون هذا ما هو إلّا استكمال متعمّد لاستقالة الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية عبر طرح حلول جزئية لمشكلة أنتجتها وتستمرّ بمفاقمتها.