اقتراح قانون بشأن أخلاقيات مهنة التمريض: خلطة هجينة بين الأخلاق والقانون
15/03/2024
تقدّم النائب بلال عبدلله رئيس لجنة الصحة العامة والعمل والشؤون الاجتماعية، بتاريخ 4 كانون الثاني 2024، باقتراح قانون بشأن آداب وأخلاقيات مهنة التمريض. ويرمي هذا الاقتراح إلى تنظيم مهنة التمريض، وسنّ آدابها وأخلاقياتها، راسمًا الأطر القانونية للواجبات العامّة للممرّضين والممرّضات ومسؤولياتهم الأساسية، في علاقتهم وواجباتهم تجاه المرضى والفريق الصحي، وكذلك النقابة، التي بلغ عدد المنتسبين إليها، 20 ألف و919 منتسبًا حتى اليوم، وفق ما يوثّقه موقعها الرسمي. وأكثر تحديدا، يستعرض اقتراح القانون المبادئ العامّة وأصول تقديم العناية التمريضية ووجوب احترام خصوصيّة المريض، منظّما كيفية التعامل مع الملفّ الصحّي وتوثيقه والحفاظ على سريّته. كما أنه يتضمن أحكاما لضبط العلاقات المهنية وكيفيّة تبادل المعلومات وفضّ النزاعات، وأخرى هدفت إلى تحديد المسؤولية الشخصية وتلك الاجتماعية، فضلا عن تخصيصه فصلًا خاصًا بحقوق الممرضة والمطالبة المشروعة بها.
واللافت أن اقتراح القانون قد تعامل مع القواعد الأخلاقية التي وضعها ليس على أنها قواعد توجيهية، بل على أنها قواعد ملزمة تستوجب أي مخالفة لها التأديب وأحيانًا عقوبات جزائيّة وإدارية. كما يلحظ أنه تمّ استخدام الاقتراح لحرمان الممرضين أو الممرضات من حريتهم الدستورية “حرية الكلام” من دون إذن مسبق. كما خفّف الاقتراح من الحماية القضائية التي يفترض أن يتمتّع بها الممرّضين والممرضات بحيث جعل قرارات كل من المجلس النقابي والمجلس التأديبي سارية ومطبّقة من دون أن يوقف الاستئناف تنفيذها أو مفاعيلها.
وبعدما أشارت الأسباب الموجبة للاقتراح إلى التطوّر الهامّ الذي تشهده مهنة التمريض (وقد وصفها بأنها مهنة سامية ورسالة أكثر مما هي مهنة) وتنامي دورها في مجالات الرعاية الصحيّة والاستشفائيّة والعلاجيّة، أكّدت على ضرورة ممارسة هذه المهنة “ضمن آداب وأخلاقيات متميّزة” ومهارات محدّدة “لارتباطها بصحة وحياة الناس”، ووجوب تحديد حقوق الممرضين والممرضات ومسؤولياتهم وموجباتهم، وشرعية مساءلتهم وسبل ملاحقتهم القانونية.
وقد أوضح النائب بلال عبدالله للمفكرة أن نقابة الممرضات والممرضين هي التي تولّت إعداد مسودة الاقتراح بهدف تطوير المهنة وحماية ممارستها وضرورة تنظيمها، والحدّ من “الغبن الذي يمارس بحق الممرضين والممرضات المنسيين”، مُضيفا أنّ “المستشفيات عندها طرقها لتؤمّن حقوقها، أما الهاجس اليوم فهو يتمثّل بدعم صمود الطاقم الطبي والتمريضي بشكل خاص”. وفيما شدّد على أن تقديمه للاقتراح جاء في إطار دعم النقابة، ذكّر أنه كان تقدّم من قبل بالتعاون معها باقتراح قانون لإنشاء نظام رعاية صحية أولية شاملة إلزامية، وهو اقتراح اجتاز لجنتيْ الصحة العامة والإدارة والعدل، ولكنه ما زال قيد الدرس، بانتظار إقراره من لجنة الموازنة والمال ومن ثم الهيئة العامة.
ومن جهتها، لفتت نقيبة الممرضات والممرضين، د.ة ريما ساسين، في حديثها مع “المفكرة” إلى الحاجة لهذا التشريع في ظلّ خلو القانون الناظم لمهنة التمريض من تنظيم آدابها وأخلاقياتها، خلافا للاتجاه العالمي. لا بل أن الجمعيات العالمية، ومنها مجلس التمريض الدولي ومجلس التمريض الفرانكوفوني جميعها تتضمن أنظمتها آداب وأخلاقيات المهنة. وتضيف ساسين: “أردنا من اقتراحنا هذا سدّ الفراغ التشريعي، إذ لكلّ ممرّض وممرّضة، حقوق ومسؤوليات، وعلى كلّ منهم الالتزام بالأطر والأحكام القانونية، وإلا تصبح المساءلة التأديبية والملاحقة القانونية غير ممكنة. وتختم د.ة ساسين حديثها للمفكّرة: “تبقى الغاية من هذا القانون، بل من رسالتنا: صحة وسلامة المريض”. ولدى سؤالنا عن المصادر التي تمت الاستعانة بها، أوضحت د.ة ساسين أن صياغة الاقتراح استندت بشكل خاص إلى أنظمة مجلس التمريض الدولي، الذي “يختصر ويضم كل النقابات والممرضين والممرضات في العالم” موضحةً أن أحكام القانون المقترح ومعاييره تتواءم مع النظم القانونية المعتمدة في أوروبا، كما في النقابات الأميركية والكندية. كما أشارتْ النقيبة إلى أنه تمّت الاستعانة أيضا عند إعداد الاقتراح بقوانين آداب وأخلاقيات المهن الصحية في لبنان كما الدول العربية:” “الصيدلة، المعالجين الفيزيائيين، وخصوصًا قانون نقابة الأطباء…”
ولدى سؤال المفكّرة عن المنهجية التي اعتُمدت عند صياغة الاقتراح، أكّدت النقيبة، المسار التشاركي الذي انتهجته النقابة، موضحة أنه “إلى جانب الإفادة من التجارب والخبرات الدولية، تمت دعوة الجمعيات المختصة والمعنية، المنشأة لدى النقابة، وبخاصة جمعية مدراء التمريض، لإبداء آرائها”. وأخيرا تمنّت النقيبة الحفاظ على روحية القانون، وبخاصة “أننا الأكثر خبرة في هذا المجال في لبنان، ونحن على دراية شاملة بحاجات هذه المهنة وتحدياتها.”
هذا الاقتراح يستوجب ملاحظات عدّة أبرزها الآتية:
أخلاقيّات المهنة في قانون؟
يفتح تقديم هذا الاقتراح نقاشًا جديًا حول مدى ملاءمة اللجوء إلى التشريع من أجل تقنين آداب وأخلاقيات المهنة. فما هو الأنسب؟ إقرار هذه القواعد بموجب قانون أم بموجب قرار لنقابة الممرضات والممرضين، انطلاقًا من الوظيفة المناطة بها بـ “رفع مستوى مهنتهم والسهر على آدابها وكرامتها” و”السعي إلى تطوير مهنة التمريض” أم أيضًا بموجب قرار للنقابة يقترن بمصادقة من وزارة الصحّة؟ علمًا أن النقابة قد سبق ونشرت على موقعها الرسمي مسودة آداب وأخلاقيات مهنة التمريض، والتي حددت فيها الأحكام التي ترعى علاقة الممرض/ة بالمريض والعائلة والمجتمع والفريق الصحي والمهنة. إضافة إلى النظام الداخلي الذي نص صراحة في الفقرة د. منه على واجبات الممرضين والممرضات وحقوقهم.
وقد يرتبط الجواب على هذا السؤال بأسئلة أخرى حول ماهية القواعد المراد إقرارها. فهل يراد وضع قواعد إلزاميّة زجريّة تستوجب أي مخالفة لها عقوبات تأديبية أو جزائية وهو أمر يفترض اللجوء إلى آلية التشريع أم يُراد على العكس من ذلك وضع قواعد توجيهية يجدر على الممرضات والممرضين إدراكها والعمل على هديها للارتقاء بالمهنة وهي قواعد مرنة بطبيعتها؟ وفي هذه الحالة الأخيرة، تنبثق هذه القواعد عن جسم التمريض وتتعدل وتتطور داخله على ضوء تطور مهنة التمريض وظروفها، من دون الحاجة إلى تشريع. وفي هذه الحالة، تستوجب الممارسات الفضلى أن تعتمد النقابة أعلى معايير التشاركية من أجل وضع هذه القواعد، كأن يتم تعميم استمارة على أعضائها كافة تخولهم إبداء آرائهم بشأن تصوراتهم عن آداب مهنتهم، من دون الاكتفاء باستشارة بعض أجهزة النقابة كما أفادتنا به النقيبة ساسين.
وبالطبع، هذه الأسئلة تتّصل بما يُفترض أن يكون جوهر الاقتراح أي الآداب والقواعد الأخلاقية. أما إذا رغب واضعو الاقتراح بتمرير قواعد تنظيمية أخرى تحت غطاء الآداب المهنية كما نستشف من تضمين الاقتراح قواعد ناظمة لآليات التأديب ومفاعيلها أو آليات الطعن في القرارات الصادرة عن النقابة، فإن من شأن هذه الرغبة أن تشوّه طبيعة الاقتراح وأن تجعل هذه الأسئلة غير مجدية، وهو الأمر الذي نناقشه أكثر في الملاحظات أدناه.
وضع قواعد تتجاوز حدود الأخلاقيات والآداب
وبالفعل، لم يكتفِ الاقتراح بتكريس الآداب والأخلاقيات، بل خصّص فصولًا عدّة للمساءلة التأديبية وإجراءات المجلس التأديبي وقوة نفاذ أحكامه والعقوبات الجزائية، وهي فصول تحدث عمليًا تعديلات وإضافات على قانون إنشاء النقابة وتحديدًا على الفصل الرابع منه الذي يحدد إجراءات التأديب والملاحقة والعقوبات. عدا عن أن من شأن زجّ هذه الفصول في الاقتراح أن يشوّه طبيعته كما سبق بيانه، فإنه كان يجدر أن يتمّ اقتراحها على حدة في إطار اقتراح لتعديل قانون إنشاء النقابة.
انتهاك حرية دستورية تحت غطاء تنظيم أخلاقيات المهنة
من جهة أخرى، نلحظ تضمين الاقتراح فصلًا خاصًا بعنوان ” في الإعلام والإعلان”، جاء فيه أنه: “لا يجوز للممرض أو الممرضة إعطاء أحاديث إعلامية، صحفية، أو إذاعية أو تلفزيونية أو عبر المواقع الإلكترونية، تخص مهنة التمريض أو تتعلّق بالنقابة، قبل الحصول على إذن مسبق من النقابة”. ومن هذه الزاوية، يستعيد الاقتراح التوجّه المقلق الذي ذهبت فيه نقابة المحامين في آذار 2023 فيما يعتبر انتهاكًا غير مبرر لحريّة مكفولة دستوريًا.
المسّ بالحماية القضائية
بصورة لا تقلّ غرابة، يستوقفنا نصّ المادة 79 من هذا الاقتراح، وقد جاء فيه أن: “استئناف قرارات مجلس النقابة أو المجلس التأديبي لا يوقف تنفيذها، بل تبقى سارية إلا إذا أوقفت المحكمة المختصة تنفيذها أو أبطلتها، فيعمل بقرارها”. عدا عن أن هذه المادة لا تتّصل بداهة بآداب أو أخلاقيات إنما بنفاذ قرارات مجلس النقابة أو مجلسها التأديبي، فإنها تؤدي علاوة على ذلك إلى إضعاف الحماية القضائية التي يتمتع بها الممرضات والممرضون إزاء أي قرار قد يصدر عن أيّ من هذين الجهازين بحقهم، بما فيها قرارات جدّ خطيرة قد تحرمهم تمامًا من ممارسة مهنتهم.
هذه هي أبرز الملاحظات على هذا الاقتراح، الذي يؤمل أن يحظى بما يستحقّ من مناقشة حرصًا على صحة التشريع وعلى تطوير العمل النقابي للممرضات والممرضين في آن.