الإدارة والعدل تتراجع: إبقاء سيف التشكيلات معلّقا فوق القضاء

المفكرة القانونية

23/02/2023

انشر المقال

عقدتْ لجنة الإدارة والعدل أمس جلستها السّابعة لمناقشة ملاحظات وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري الخوري. وكالعادة، انعقدت الجلسة بصورة سرّية ولم يُدعَ إليها أيّ هيئة أو شخص من خارج مجلس النواب. وقد تركّزت النقاشات فيها على كيفية توزيع الصلاحيات بين مجلس القضاء الأعلى والسلطة التنفيذية في إعداد التشكيلات القضائية وإصدارها، بعدما كانت الجلسات الماضية تناولتْ كيفية اختيار أعضاء مجلس القضاء الأعلى (انتخاب أو تعيين) وتركتْ الخيارات مفتوحة أمام الهيئة العامة. وبنتيجة نقاشات هذه الجلسة، بدل أن تصلح لجنة الإدارة والعدل الثغرات التي أشارت إليها لجنة البندقية لضمان استقلالية القضاء، فإنها عمدت إلى تكبيرها تماشيا مع ملاحظات وزير العدل والتي صبت كلها في الاتجاه المعاكس أي في إحكام نفوذ السلطة السياسية داخل القضاء. وعليه، ذهبت الأمور في الاتجاه الذي توقعناه منذ الجلسات الأولى للجنة لمناقشة ملاحظات وزير العدل، أي في اتجاه التراجع (أو مزيد من السقوط في انتهاك مبدأ فصل السلطات) تماهيا مع هذا الأخير. 

ولإدراك خطورة ما وصلت إليه لجنة الإدارة والعدل أمس، يقتضي التذكير بالمُمارسات المعتمدة لتسييس التشكيلات القضائية والتي بينّاها في أكثر من مقال سابق، وهي الممارسات التي أدّت إلى فرض المعادلة الآتية: إما رضوخ مجلس القضاء الأعلى لمطالب القوى السياسيّة الحاكمة في ملء المراكز الأساسيّة في القضاء (كما حصل في تشكيلات 2017) وإما إجهاض أيّ مشروع تشكيلات قضائيّة يضعه من دون مراعاة هذه المطالب. وقد سجلنا طوال السنوات العشر الماضية إجهاض أكثر من 7 من أصل 9 مشاريع  تشكيلات شاملة أو جزئية أعدّها مجلس القضاء الأعلى. وقد أمكن ذلك بشكل خاصّ من خلال رفضها من قبل وزير العدل أو من خلال تعطيل صدور مرسوم التشكيلات من خلال امتناع أحد المسؤولين المفترض بهم توقيعه (وهم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير العدل فضلا عن وزيري الدفاع الوطني والمالية) القيام بذلك خلافا لقانون تنظيم القضاء العدلي. ولعلّ آخر مشاريع التشكيلات التي تمّ إجهاضها هو مشروع التشكيلات الجزئية لملء المراكز الشاغرة في رئاسات غرف محكمة التمييز، وقد تمّ ذلك بفعل تعنّت وزير المالية عن توقيعه مرتين ولأشهر طويلة بهدف تعطيل التحقيق في قضية تفجير المرفأ. 

فماذا حصل في لجنة الإدارة والعدل وفق ما أمكن الحصول عليه من معلومات رغم سرّية الجلسة؟ وما هي المخاطر التي يرشح عنها تراجع اللجنة في هذا الخصوص؟ هذا ما سنحاول تبيانه أدناه تفصيليا. 

إعداد مشروع التشكيلات القضائية: كيف يتجاوز مجلس القضاء الأعلى خلافه مع وزير العدل؟  

بموجب اقتراح لجنة الإدارة والعدل كما عدّلته في 21 كانون الأول 2021، يعدّ مجلس القضاء الأعلى مشروع التشكيلات القضائية. وإذ مكّن الاقتراح وزير العدل من إبداء اعتراضاته على المشروع، فإنه خوّل مجلس القضاء الأعلى حسم أي خلاف معه بأكثرية 7/10. 

آنذاك، اعترض "ائتلاف استقلال القضاء" على اشتراط غالبية 7 أعضاء لتجاوز الخلافات مع وزير العدل، لصعوبة توفر هذه الغالبية في ظلّ تركيبة مجلس القضاء الأعلى. وهذا ما تحفظت بشأنه أيضا لجنة البندقية معتبرة “أنه لا يمكن استبعاد فرضية أن يكون للوزير نفوذ كافٍ داخل المجلس الأعلى للقضاء، بصيغته القائمة، لمنع التصويت لصالح رفض حقه في النقض (الفيتو)”. وعليه، أوصت لجنة البندقية بالنظر في تخفيض الأغلبية المطلوبة لرفض حق الفيتو للوزير، الذي يجب أن يكون ممكناً بالأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء (المشكل حديثاً).

ورغم ذلك، أبقتْ اللجنة اقتراحها على حاله من دون إيلاء أي اهتمام لتوصيات "البندقية". وما يزيد من قابلية موقفها للانتقاد هو أنها تركت للهيئة العامة حسم الخيارات المطروحة بشأن كيفيّة تكوين مجلس القضاء الأعلى، علما أن توفير هذه الغالبية في مواجهة وزير العدل سيزداد صعوبة بقدر ما يتّسع هامش القوى السياسية في التأثير على تكوين هذا المجلس واختيار أعضائه. 

إصدار مشروع التشكيلات القضائية: منح القوى السياسيّة حقّ الفيتو على التشكيلات القضائية

أما العقبة الثانية أمام نفاذ التشكيلات فقد تمثلت في كيفية إصدارها. فهل تصدر بمجرّد إنجازها من قبل مجلس القضاء الأعلى بعد حلّ الخلاف مع وزير العدل أو تجاوزه بالغالبية المطلوبة أعلاه أم أن نفاذها يبقى وقفا على إصدار مرسوم رئاسي، وهو الأمر الذي أدّى إلى إجهاض مشاريع التشكيلات سابقا وضمان أن لا تمر أي تشكيلات إلا برضى القوى السياسية الحاكمة كما سبق بيانه.  

وإذ يعتمد ائتلاف استقلال القضاء ونادي قضاة لبنان وجوب إعلان التشكيلات نافذة من دون الحاجة إلى إصدار مرسوم عملا بمبدأ الفصل بين السلطات، تمسّكتْ لجنة الإدارة والعدل بضرورة إصدارها بمرسوم وإنْ فتحتْ الباب لتجاوزه في حال عدم صدوره في غضون شهر من ورود المشروع إلى ديوان وزارة العدل. 

لم يستسِغ وزير العدل تجريد القوى السياسية من حق الفيتو الذي دأبت على استخدامِه بنهمٍ وانتظام شديدين، فاقترح تعديلات على اقتراح اللجنة مؤداها إبقاء الوضع على حاله وإغلاق الطريق أمام تحرر القضاة من قبضة السياسة. فبعدما أصرّ وزير العدل على أن الدستور (المادة 56) يفرض إصدار التشكيلات بمرسوم وعلى أن أي تجاوز لضرورة صدور مرسوم يؤول إلى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المكرسة في هذه المادة (متناسيا أن حق الفيتو يمارسه ليس فقط هذا الأخير إنما جميع من يوقع المرسوم وآخرهم وزير المالية ومتناسيا مبدأيْ فصل السلطات واستقلالية القضاء وهما ذات قوة دستورية مؤكدة)، عاد ليوافق على إمكانية تجاوز المرسوم إنما بعد وضع شروط شبه تعجيزية. إذ أنه مكّن المجلس الأعلى للقضاء من تجاوز الفيتو السياسي على إصدار مشروع التشكيلات ولكن فقط بعد انقضاء مهلة ثلاثة أشهر وبشرط إصراره على هذا المشروع بأغلبية  ثمانية من أعضائه. وهو شرط تعجيزي طالما أنه قد يكون ثمة استحالة في توفير غالبية كهذه من دون موافقة السلطة التنفيذية في ظل التركيبة المقترحة لمجلس القضاء الأعلى، تماما كما أشارت إليه لجنة البندقية.

وما أن بدأت المناقشة حتى اتّضح أن ملاحظات الوزير تلتقي مع توجهات العديد من القوى السياسية، بما يؤشر إلى اتفاقها على إبقاء قبضتها على القضاء. وفي حين أثنى نواب الثنائي أمل - حزب الله على هذه الملاحظات من دون تحفظ، أعلن التيار الوطني الحر بشخص ممثله داخل اللجنة (جورج عطالله) أنّ أيّ تجاوز للمرسوم يشكّل تعدّيا على الدستور. أما جورج عدوان وهو رئيس كتلة الجمهورية القوية فلم يجد ما يستدعي النقاش، لا بخصوص مهلة الثلاثة أشهر ولا بخصوص الغالبية المطلوبة. 

وعليه، تمّ قبول هذه الملاحظات التي تؤدّي عمليّا إلى تجريد اقتراح اللجنة من أهم الإصلاحات الواردة فيه على أن يترك للهيئة العامة أن تقرّر اعتماد غالبية 7 أو 8 أعضاء من أعضاء المجلس لتجاوز المرسوم. وإذ اعترضتْ النائبة حليمة القعقور على هذا التوجّه مذكرة أن توفير هذه الغالبية شبه مستحيل، أجاب عدوان أن اعتماد هكذا غالبية قد يكون ضروريا في ظل الإشكالية الدستورية المطروحة حول إمكانية تجاوز إصدار التشكيلات بمرسوم. وبذلك، انتهى الاقتراح عمليا إلى وضع إطار يبقي من دون ريب على امتياز الفيتو على أي مشروع تشكيلات يضعه مجلس القضاء الأعلى، وهو امتياز أدى ويؤدي إلى تسييس كل المراكز القضائية الهامة.    

المخاطر الناجمة عن توجّه اللجنة في حال إقراره 

في حال إقرار الاقتراح كما نجح وزير العدل في تعديله لهذه الجهة، تكون اللجنة قد انساقت في منزلق من شأنه أن يقوّض الفائدة المرجوة منه، وهي تحقيق استقلال القضاء. 

ولفهم ذلك، يكفي التذكير ب 3 معطيات كلها تثبت العبث الناجم عن التمسك بالممارسات المعمول بها حاليا:

  • المعطى الأول يتمثل في تعطيل ملء المراكز في رئاسات محكمة النقض والحاصل منذ أيار 2022، وتاليا في تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز بفعل فقدان نصابها، ومن أهمها بت دعاوى مخاصمة الدولة من جراء أعمال القضاة، وهي دعوى تؤدي بمجرد تقديمها من قبل أيّ متقاضٍ إلى تعطيل الدعوى المقامة ضده أو منه كما حصل في قضية المرفأ أو قضايا المصارف. 
  • المعطى الثاني يتمثل في ربط صدور التشكيلات بموافقة القوى السياسية الحاكمة، مع ما يستتبع ذلك من تعيين المقربين منها في المراكز القضائية الحساسة. وهذا ما يفسّر الطابع المسيّس لتشكيلات 2017 وهي التشكيلات الوحيدة الصادرة في العقد الأخير والتي أسميناها تشكيلات الأحزاب الثلاثة. ومؤدى ذلك هو تحويل المراكز القضائية الأهم إلى مراكز نفوذ أكثر مما هي مراكز عدالة. 
  • المعطى الثالث (وهو لا يقل خطورة) يتمثل في تعطيل طاقات القضاة الذين أنهوا دراستهم في معهد الدروس القضائية، والذين يتعين عليهم انتظار التوافقات السياسية أحيانا لسنوات من أجل تعيينهم في أول مركز قضائي. وليس أدل على خطورة هذا التعطيل التذكير بأن عدد هؤلاء بلغ حاليا ما يزيد عن 100 قاضيا من الخريجين الجدد وهذا ما كنا أشرنا إلى خطورته في مناسبات عدة.   

كل هذه المخاطر لم ترَ لجنة الإدارة والعدل فيها ما يستحق التوقّف عنده. وهي بذلك أثبتت أكثر من أي وقت مضى تعاطفها مع إرادة السلطة السياسية في الهيمنة على القضاء وقصور منهجيتها عن الوصول إلى أي إصلاح حقيقي للقضاء.