"القوّات" تنسف مشروع "الأشغال" لإدارة المرافئ: استبدال السيئ بالأسوأ
14/05/2024
قدّمت كتلة القوات اللبنانية في تاريخ 31/1/2024 اقتراح قانون يرمي إلى تنظيم قطاع المرافئ والموانئ التجارية، من دون أن تباشر أي من اللجان حتى اللحظة مناقشته. يأتي هذا الاقتراح بمثابة اقتراح مضاد للمقترح الذي كان أعدّه وزير الأشغال علي حميّة منذ نحو سنتين ولم يصلْ بعد إلى مجلس الوزراء، بحجة أنه يحتاج قبل عرضه على هذا الأخير إلى إجراء مشاورات ومناقشات بشأنه مع كل المعنيين، وزارات ونقابات وبلديات. وبمعزل عن المبرّرات المعلنة لتأخير مناقشة مقترح وزير الأشغال أو اقتراح كتلة القوات اللبنانية، فإنه من البيّن أن ثمة قناعة لدى القوى السياسية أنه لم يحنْ الوقت لفتح ملف إدارة المرافئ.
وهنا لا يهمّ إن كان مرفأ بيروت، على سبيل المثال، يُدار من لجنة مؤقتة منذ بداية التسعينات ولا يزال. فبإمكان من انتظر 25 عاماً أن ينتظر سنوات أخرى.
"فلسفة إبعاد القطاع العامّ"
مع تجاوز المسار القانوني للمقترحين، يتضح أن نص الاقتراح القواتي ينطلق من المشروع الوزاري كما يستعير منه عبارات وجملا وفقرات بشكل مطابق، وإن كان يختلف عنه بشكل جوهري بالتوجّه النهائي. وهذا يتضح عملياً في الأسباب الموجبة. فهي متطابقة في كل الفقرات، وصولاً إلى الفقرة الأخيرة التي يبدأ معها الاختلاف. ففي حين يشير المشروع الوزاري في خاتمته إلى أنه في سبيل الاهتمام بواقع عمل المرافئ ينبغي "إنشاء هيئة ناظمة لقطاع المرافئ والموانئ" تتمتع بالشخصية المعنوية المُستقلة وتُمارس صلاحيتها المالية والاقتصادية بما يتماشى مع الرؤية التي يضعها المجلس الوطني للمرافئ والموانئ من جهة، ومن جهة أخرى تضمن الحوكمة الرشيدة والشفافية والمساواة بين الزبائن والعملاء في الحصول على الخدمات"، أسقط اقتراح القوات مسألة الهيئة الناظمة كلياً، وحوّل أغلب صلاحياتها إلى المجلس الوطني. واكتفى بالتركيز على "إنشاء شركات مستقلة وتتمتع بالشخصية المعنوية لكل مرفأ من المرافئ التجارية القائمة في لبنان، تتكامل مع المجلس الوطني". وبذلك تكون مهمة السلطات الرسمية محصورة بوضع السياسات العامة لإدارة القطاع على أن تتولى الشركات الخاصة تطبيقها بإشراف مجلس وطني مؤلّف في معظمه من ممثّلين عن النقابات المهنية والقطاع الخاص..
إلغاء الهيئة يُخفّف نظرياً التعقيدات الوظيفية وتداخل الصلاحيات بين المجلس والهيئة، لكن قراءة شاملة للاقتراح القواتي تُظهر أن إلغاء الهيئة ليس سوى جزء من رؤية أشمل تتعلق بإصرار القوات على إبعاد الدولة عن إدارة المرافق والمؤسسات العامّة. وهو ما أكده النائب فادي كرم لـ"المفكرة القانونية" بإعلانه "إننا نعمل ضمن فلسفة واحدة هي إبعاد القطاع العام عن الإدارة". وقد سبق أن تجلّى ذلك بتقديم القوات اقتراح قانون إنشاء صندوق إدارة أملاك الدولة. فهي هدفت من اقتراحها إلى بناء تنظيم إداري موازٍ لتنظيمات الدولة في مجال الإدارة والرقابة. وبالرغم من إصرارها على اعتبار أن اقتراحاتها تُبقي الملكية في يد الدولة مقابل تلزيم الإدارة، إلا أن تجربة اقتراح قانون الصندوق السيادي تُبيّن أن هذا الحرص على ملكية الدولة لأصولها ينتهي بالسماح باستثمار القطاع الخاص لبعض هذه الأصول لمدة تصل إلى 50 سنة، أضف إلى السماح للمؤسسة المستقلة التي تتولّى إدارة أصول الدولة بطرح أسهمها للتداول بعد 5 سنوات بما يؤدّي إلى تمكين أصحاب رساميل التحكم في إدارة هذه الأصول أو أن تبيع الأسهم أو الأصول الموضوعة تحت تصرفها كليًّا أو جزئيًا بموجب قانون.
المنطق نفسه ينتقل إلى اقتراح قانون تنظيم المرافئ والموانئ التجارية في لبنان. الحساسية المفرطة تجاه إدارة الدولة لمرافقها يذيب الخط الفاصل بين السعي إلى الحوكمة والإدارة الرشيدة وبين نبذ الدولة وإسقاط أي دور فعلي.
تلك الغاية تظهر في كل التعديلات التي تجريها "القوات" على المقترح المُقدّم من وزارة الأشغال، لتخرج منه باقتراح جديد يقول كرم إنه تمت صياغته من الأجهزة الداخلية للحزب.
نسخ عبارات من قوانين مختلفة
هذا الاقتراح ينسخ أغلب مواد المقترح الوزاري مع تعديلات في الترقيم وتوزيع المواد، واختصار واضح للمواد. فعلى سبيل المثال، يسهب مشروع الوزارة في تعريف المصطلحات مُعدداً 19 مصطلحاً مع تعريفها، في حين يكتفي اقتراح القوات بالإشارة إلى 4 مصطلحات.
الباب الثاني المتعلق بالبنية المؤسساتية لقطاع المرافئ، يبدأ بتوضيح مهام وزارة الأشغال على صعيد القطاع، وأولها الإشراف على قطاع النقل البري والبحري، وتطوير رؤية وطنية لتطوير الواجهة البحرية وتطوير الأعمال والتنسيق المستمر بين المرافئ من خلال المجلس الوطني ومراقبة أعمال الهيئات الواقعة تحت سلطتها، وغيرها من المهام التي ينزعها عنها اقتراح القوات، مسقطاً كل البنود المتعلقة بمهام الوزارة، قافزاً مباشرة إلى المواد المتعلقة بإنشاء المجلس الوطني للمرافئ والموانئ التجارية وأهدافه… وتنعكس "فلسفة" القوات على تكوين المجلس نفسه. فإذ تقترح الوزارة أن يترأس وزير الأشغال المجلس، يحيل الاقتراح القواتي الرئاسة إلى مباراة يُنظّمها مجلس الخدمة المدنية بناءً على اقتراح سلطة الوصاية (الوزارة) وتؤدي إلى اختيار رئيس المجلس لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مع تحديد عدد من الشروط التي يجب أن تتوفر في شخصه. وبدلاً من ترؤس الوزير للمجلس، تعتبر القوات أنه يكفي تمثيل الوزارة فيه بواسطة مدير عام النقل البحري والبري. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عضوية المجلس تبدأ في مشروع حمية ب 18 عضوا، في حين يكتفي الاقتراح القوّاتي بـ13 عضواً، الأقلية منهم ذوو مناصب رسمية مثل المحافظين والمدراء العامين في موازاة فتح الباب لانضمام نقيبي المحامين والمهندسين في الشمال وبيروت. وبدلاً من عضوية رئيس الاتحاد العمالي العام (بحسب مشروع الوزارة)، يفضّل الاقتراح ضمّ أصحاب العمل (رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة ورئيس جمعية الصناعيين).
ولا تكتفي القوّات بنسخ مواد من المشروع الوزاري، بل هي تنسخ من قوانين أخرى، من دون استبدال العبارات حتى. ففي المادة المتعلقة بإنشاء المجلس الوطني للمرافئ تبدأ الفقرة الأولى بالإشارة إلى إنشاء مجلس مستقل في لبنان يتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلاليتين الإدارية والمالية، لينتقل الحديث في الفقرة التي تلي إلى "الصندوق". أي صندوق ولماذا ورد في هذه المادة المتعلقة بإنشاء المجلس؟ لا إجابة. إذ تشير الفقرة الثالثة من المادة الرابعة إلى أنه "لا يخضع الصندوق لقواعد تسيير الأعمال والرقابة التي تخضع لها المؤسسات العامة لاسيما النظام العام للمؤسسات العامة أو رقابة مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة إلا في حدود ما ينص عليه هذا القانون". فيما تشير الفقرة الرابعة إلى أن "يكون مقر الصندوق في دولة لبنان ويجوز له أن ينشئ مكاتب له في الخارج".
هذه أخطاء بالرغم من أنها ممكنة الحصول، إلا أنها تؤكد أن القوات تسير في سياق واحد هو تفريغ الدولة من أيّ مؤسسة منتجة أو يمكن أن تحقّق أرباحاً إن كانت صندوقاً للنفط أو شركة لإدارة أموال الدولة أو مجلساً لإدارة المرافئ… وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الاقتراح المقدم منها لإنشاء شركة تدير أملاك الدولة وأصولها تشمل مرفأيْ بيروت وطرابلس أيضاً، لكن القوات لا توضح أين يتقاطع الأمران، وما هي العلاقة بين الشركة والمجلس أو الشركات التي تنشأ لإدارة هذه الأملاك.
"القوات" تلغي الهيئة الناظمة لقطاع المرافئ
في ما يتعلق بالشق المالي، إذ تُحدّد مالية المجلس بحسب حميّة ضمن موازنة وزارة الأشغال العامة، فإن الاقتراح القوّاتي يشير إلى صندوق مالي مستقل للمجلس يتغذى من نسبة من عائدات المرافئ والموانئ التجارية الخاضعة لهذا القانون على أن تتحول نسبة من العائدات إلى حساب الخزينة سنوياً تحدد في قانون الموازنة، الهبات والمنح، نسبة مُعيّنة من رسوم التحكيم التي يدفعها المتقاضون أمام مركز التحكّم البحري الذي يُنشئه المجلس.
وفيما تبني الوزارة مشروعها على وجود جسمين للإشراف يمكن أن تتقاطع مهامها في أكثر من مكان، يلغي اقتراح القوات الهيئة الناظمة تماماً، ويُحيل مهامه إلى المجلس الوطني ومنها على سبيل المثال: تنظيم آلية الحصول على الخدمات المرفئية بأسعار ملائمة ضمن التكامل مع المرافئ اللبنانية، إصدار توصيات للمجلس الوطني (تصبح في مشروع القوات إصدار التعاميم المُلزمة المتعلقة بحسن سير العمل)، إعداد مشاريع المراسيم والأنظمة المتعلقة بتنفيذ القرارات والأحكام الاقتصادية والمالية.
الهيئة الناظمة لا تخضع بحسب مشروع الوزارة لأحكام النظام العام للمؤسسات العامة بل تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة فقط، في حين تقترح القوات أن يُعيّن المجلس الوطني شركة تدقيق أجنبية للتدقيق في حساباته بشكل سنوي على أن يبلّغ الديوان نسخة عن التقرير وله أن يبدي رأيه فيه وأن يستدعي من يشاء للاستفسار عن أي مسألة في التقرير على أن تكون جلساته علنية.
في مسألة تأسيس شركات المرافئ والموانئ، لا خلاف جوهريّ بين الاقتراحين، إذ تنشأ شركة لكلّ مرفأ تجاري على شكل شركة مغفّلة خاضعة لأحكام قانون التجارة، فيكون رأسمال الشركة مساوياً لأصولها والتزاماتها والعقود والأعمال التجارية المقدمة عيناً إلى الشركة المقرر نقل ملكيتها إليها. وفيما تشير الوزارة إلى أن عملية تخمين الأصول والالتزامات والعقود والمُقدّمات العينية لشركة المرفأ تتم من قبل شركة مالية أو شركة محاسبة دولية أو وطنية معترف بها دولياً، يعينها مجلس الوزراء بعد استدراج عروض يجريه وزير الأشغال، تشير القوات إلى أن هذا التخمين يفوضه مجلس الوزراء إلى دائرة المناقصات، بموجب مرسوم. وبذلك يتبيّن أنه في اللحظة التي قرّرت القوات فيها الابتعاد لبرهة عن القطاع الخاص اقترحت تفوض دائرة لم تعد موجودة واستبدلت بهيئة الشراء العام.
يتّفق المقترحان على أن ملكية أسهم كلّ شركة تعود للدولة اللبنانية، على أن تخضع الشركة لقانون التجارة باستثناء ما يتعلق بالحراسة القضائية. لا يدخل اقتراح كتلة القوات في تفاصيل إضافية مثل صلاحيات رئيس المرفأ والهيكلية الإدارية التي تتبع له كما يفعل المقترح الوزاري. ومن الملفت أن هذا المقترح ينشئ ما أسماه "اللجان المحلية لمجتمع المرفأ". وبحسب المادة 4 المتعلقة بتعريف المصطلحات، فإن هذا "المجتمع" يضم أصحاب المصالح في المرفأ (الوكلاء البحريون، مخلّصو البضائع، معقّبو المعاملات، وكلاء التأمين، تجّار النقل البري، نقابة أصحاب الشاحنات، مشغّلو المحطات ضمن المرافئ، البلدية المعنية…). وإذ تضم هذه اللجان ممثلين عن أصحاب المصلحة، ويتم ضمنها تبادل وجهات النظر حول الأنشطة المرفئية والتخطيط الرئيسي المحلي للمرفأ أو الميناء المعني، فإن وزير الأشغال يتولى تعيين أعضائها بناء على اقتراح المجلس الوطني للمرافئ لولاية مدتها سنتان، قابلة للتجديد مرة واحدة. كما ينتخب رئيس اللجنة المحلية لكل مجتمع مرفأ من قبل أعضائها ويمنح صفة مراقب في مجلس إدارة شركة المرفأ أو الميناء المعنية.
وتتواصل اللجنة المحلية لمجتمع المرفأ على المستوى المحلي بشكل دائم مع شركة المرفأ وترفع هواجس وشكاوى البيئة المحلية للمجلس الوطني. وبالرغم من أهمية إشراك الهيئات المحلية في أي مشروع يتعلق بالمرافئ، إلا أن المشروع "يسلق" هذا الدور بفقرتين، متجاهلاً كل الجهد الذي بذل من قبل جهات عديدة، لاسيما منها نقابة المهندسين، لتوطيد علاقة المرافئ بالمدن التي تقع ضمن نطاقها. علماً أن النقابة كانت ركزت عملها على مسألة إعادة إعمار مرفأ بيروت، حيث أصدرت توصيات محددة لإعادة إعمال مرفأ بيروت بما يتناسب مع محيطه المديني. أضف إلى أن البنك الدولي كان أعدّ بالتعاون مع شركاء محليين مهمة إعداد دراسة استراتيجية لبناء موانئ على الشاطئ اللبناني ووضع مخطط توجيهي لمرفأ بيروت، إلا أن المعلومات تؤكد أن هذا الجهد تم إيقافه لصالح دور فرنسي أكبر.
يستفيض مشروع وزير الأشغال في القسم الثالث منه في الحديث عن السياسة الوطنية لقطاع المرافئ، التي يضعها المجلس الوطني عاكساً من خلالها أهداف التنمية الاستراتيجية طويلة الأمد الموضوعة من قبل مجلس الوزراء، مع ملاءمة الخطة الرئيسة العائدة للمرافئ والموانئ المحلية بغية ضمان انسجامها مع الأهداف الوطنية طويلة الأمد.
يدخل المشروع في تفاصيل هي أقرب إلى القرارات التنفيذية، فيصل حتى إلى توضيح آلية الحصول على التراخيص للدخول إلى حرم المرفأ، كما يثقل القطاع بهرمية لا تنتهي من المؤسسات، التي لن تؤدّي سوى إلى وضع العراقيل في طريق عمل هذه المرافئ. أما الأخطر في المقترحين، فهو طيّ صفحة دامت أكثر من 100 سنة من حماية الأملاك والمرافق العامة بوصفها امتيازات تملكها لأجيال المقبلة، لا يجوز بيعها أو استثمارها إلا بموجب قانون ولمدة محددة. أما الاقتراحات الراهنة، فتكتفي بإقرار قانون لتنظيم القطاع، على أن يُسمح للحكومة بتلزيم كل المرافئ والموانئ، من دون العودة إلى مجلس النواب للحصول على موافقته، كونه الجهة الوحيدة القادرة على تلزيم المرافق العامة بحسب الدستور.
للاطّلاع على اقتراح قانون كتلة القوات اللبنانية الذي يرمي إلى تنظيم قطاع المرافئ والموانئ التجارية
للاطّلاع على اقتراح قانون وزير الأشغال لتنظيم قطاع المرافئ والموانئ التجارية
للاطّلاع على توصيات نقابة المهندسين لإعادة تأهيل مرفأ بيروت و توطيد علاقته بالمدينة