جلسة تشريعية احتفالاً بالثورة المضادة أو جلسة لتكريم مافيات السياسة والمخدرات والمال
19/04/2020
يعقد المجلس النيابي جلسة تشريعية أيام 21-23 نيسان 2020 وهي الجلسة التشريعية الأولى بعد حصول أزمتين كبريين، وهما أزمتي إفلاس الدولة والمصارف والكورونا. التدقيق في جدول أعمال هذه الجلسة يظهر أنها تجافي تماما تحدّيات الواقع أو بالأحرى أنها تتعامل معه بكثير من الإنكار والتحوير والإنتقائية. وقد ورد على جدول أعمال هذه الجلسة 66 مقترح قانون، علما أن 43 منها (أي ما يعادل 65%) هي اقتراحات قوانين معجلة مكررة لم يتم التدقيق فيها في أي من لجان المجلس، وأن 36 منها (55%) قدّمها أحد النواب أو كتلة نيابية بعينها من دون أن تحظى تاليا حتى بمناقشة فيما بين الكتل. وما يزيد من خطورة هذا الأمر هو أن بعض الإقتراحات المقدمة بهذه الصورة قد تضمنت أحكاما خطيرة جداً من شأنها المسّ بأسس النظام السياسي والقانوني، كاقتراحي قانون العفو العام.
واللافت أن جدول أعمال الجلسة تضمّن عددا كبيرا من مقترحات القوانين التي كان تمّ إدراجها على جدول أعمال الجلسة في 12 تشرين الثاني والتي نجحت القوى الثورية آنذاك في تعطيلها، أبرزها اقتراح قانون العفو العامّ الذي أعيد طرحه كما هو من دون تعديل، بما يشكل تحديا لهذه الثورة أو ما يشبه الثورة المضادة. وقد أضيف إليه عدد آخر من الاقتراحات، اتّصل عدد كبير منها بأزمة الكورونا.
ومع تسجيل أهمية بعض المبادرات النيابية التي تناولت مسائل جدّ محدودة، فإن جدول الأعمال بقي خاليا من أي رؤية اجتماعية اقتصادية على مستوى الأزمتين الحاصلتين، سواء جاءت هذه الرؤية من الحكومة أو الكتل المشاركة فيها أو في المعارضة. بل على العكس من ذلك، يُظهر النظر في الإقتراحات المقدمة من القوى السياسية المهيمنة على الحكم أنها تتعامل مع الأزمات ليس على أنها تحديات، بل على أنها قبل كل شيء فرص يتعيّن اقتناصها لتوطيد سلطانها وتحقيق مكاسب سياسية بتجاوز مطالب الثورة.
البرلمان لا يبالي بالمحاسبة أو توزيع الخسائر
الخاص قدس الأقداس والعامّ نحو مزيد من الاستباحة
وعليه، وبدل أن تشكل أزمة إفلاس الدولة والمصارف مناسبة للتفكير في كيفية إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو كيفية توزيع الخسائر بشكل عادل أو استرداد الأموال المنهوبة أو حتى بناء مؤسسات قادرة على التصدي لفساد السلطة وتعسفها، تراها تتحوّل إلى باب جديد للإنقضاض على ما تبقى من ثروات الدولة.
وعليه، وبعد ستة أشهر من انطلاقة الثورة، يبقى جدول أعمال المجلس النيابي خاليا من اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته حيث ما تزال لجنة الإدارة والعدل تخطو خطوات صغيرة baby steps في مناقشته، وطبعا في الكواليس. فلا نجد في هذا المضمار إلا اقتراحات جزئية كتعزيز معاقبة التدخل في القضاء، أو تعزيز صلاحية مجلس القضاء الأعلى في إنجاز التشكيلات القضائية، والذي يؤدي عمليا إلى نقل المساومات السياسية من خارج هذا المجلس إلى داخله طالما أن غالبية أعضائه تعينهم الحكومة (8/10) ولا تتوفر فيهم ضمانات الاستقلالية.
كما لا نجد على جدول الأعمال أي مشروع جدي يخوّل محاسبة التجاوزات الحاصلة خلال العقود الماضية تمهيدا لاسترداد المال المنهوب، وذلك رغم الوعود بإنجاز مقترحات قوانين حول الإثراء غير المشروع ورفع السرية المصرفية واسترداد الأموال المنهوبة. فلا نجد في هذا المضار إلا اقتراحين معجلين قدمهما النائبان ميشال ضاهر (السرية المصرفية) وبولا يعقوبيان (الإثراء غير المشروع) يرجّح أن يعادا إلى اللجان بانتظار إنهاء أعمالها حول المشاريع التي تدرسها في هذا الخصوص. بل على العكس من ذلك، يبرز في الجلسة اقتراحا قانون للعفو العام (أحدهما للنائبين ياسين جابر وميشال موسى والآخر للنائبة بهية الحريري)، أي ما هو نقيض للمحاسبة.
كما لا نجد على جدول الأعمال أي مشروع يستشرف توزيع الخسائر التي قدرتها الحكومة ب 83 مليار د.أ. ويحصل ذلك في موازاة إعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري بأن الودائع هي قدس الأقداس، في مسعى منه لحماية 2% من كبريات الودائع، طالما أن رئيس الحكومة حسان دياب أكّد عدم المس بالودائع الأخرى التي تقل عن 500 ألف دولارا أميركيا. وبالطبع، جاء كلام بري بمثابة موقف حاسم مفعم بالعنجهية والسلطوية ومن دون أي تعليل كأنما الأمور تكون هكذا لأنها هكذا، لمجرد دعوته لقراءة الفاتحة على "الهيركات". ولكن، من سيعوّض عن هذه الخسائر الفادحة إذا لم يكن هنالك أي نيّة سياسية في تحميل المصارف وأصحاب الودائع الكبيرة، أي نسبة منها؟ ثم، أليست الفوائد المجنونة والفوائد على الفوائد المجنونة والتي سددها مصرف لبنان بفعل هندساته المالية والتي انسحبت على الكثير من الودائع بمثابة أموال منهوبة أكثر مما هي أموال خاصة؟ ونتيقن الكارثة الكبرى مع تسرّب وثيقة تتحدث عن بيع 10% من مساحة لبنان (1000 كلم مربع) لتحصيل 25 مليار د.أ. وهو مبلغ لا يعوّض إلا عن جزء من الخسائر. فأين المجلس النيابي بمختلف كتله من كل ذلك؟ فكأنما لسنا في معرض إنقاذ الدولة في سياقٍ واجبٍ لتصفية المصارف، بل إنقاذ المصارف في سياقٍ غير محتمل لتصفية الدولة.
والأنكى من ذلك هو أن جدول الأعمال يخلو أيضا من أي ضوابط على حرية مدراء المصارف المتوقفة فعليا عن الدفع في التصرف بأموالها، مما قد يؤدي إلى مزيد من الخسائر. وقد حصل هذا الأمر أيضا بفعل تدخّل رئيس المجلس النيابي سالف الذكر وذلك حين دعا إلى قراءة فاتحة أخرى على ما سمي مشروع الكابيتال كونترول، وذلك في مسعى لإسعاف المصارف ومعها أصحاب الودائع الكبيرة، هنا أيضا تحت غطاء إسعاف أصحاب الودائع الصغيرة.
وبالطبع، يحصل كل ذلك في موازاة استمرار تفرج مجلس النواب على تقاعس وزارة الداخلية والنيابة العامة التمييزية عن استرداد الأملاك العامة البحرية المنهوبة والتي لم يتقدم شاغلوها بملفات لمعالجتها ضمن المهل الملزمة التي وضعها المجلس نفسه ومددها لتصل إلى سنتين (تشرين الأول 2017-تشرين الأول 2019)، تحت طائلة وضع اليد عليها فورا. فلماذا لا يضع المجلس حدا لهذا التقاعس من خلال إلزام وزير الداخلية محمد فهمي بمهل ملزمة لاسترداد هذه الأملاك تحت طائلة المحاسبة أو من خلال فرض غرامات أكثر قسوة على الشاغلين في حال عدم المبادرة إلى إخلاء هذه الأملاك التي قد نكون بأمس الحاجة إليها لضمان أماكن كافية للحجر الصحي؟ هذا عدا عن رمزيتها الهائلة في مباشرة استرداد الملك العام المنهوب ووضع حد لإرث حرب 1975-1990.
البند الوحيد الإيجابي الوارد على جدول الأعمال هي الصيغة الجديدة لمقترح إنشاء هيئة مكافحة الفساد بعد الأخذ ببعض ملاحظات رئيس الجمهورية ميشال عون على الصيغة السابقة التي كان المجلس أقرها في حزيران 2019. ومن دون التقليل من أهمية إنشاء هذه الهيئة، فإنه من البيّن أن إنشاءها سيبقى مجردا من أي فائدة إذا لم يعين أعضاؤها الستة بمنأى عن المحاصصة والأهم إذا لم يترافق هذا الأمر مع إصلاح للقضاء الذي يبقى السلطة الأساسية المخولة التصدي لفساد السلطة السياسية وتعسفها. يضاف إلى ذلك أن إقرار هذه الصيغة يستوجب بخلاف القوانين الأخرى، توفير الأكثرية المطلقة في مجلس النواب لتمريرها، بالنظر إلى عدم الأخذ بملاحظات رئيس الجمهورية، مما يزيد من احتمالات ردها أو إغراقها في التجاذبات السياسية.
غياب خطاب الإخاء والتضامن الإجتماعي
ورواج خطاب الصدقة والهبات
بدل أن تشكل أزمة الكورونا مناسبة لإعادة التفكير في دور الدولة في حماية مواطنيها وتكريس حقوقهم الأساسية وبخاصة الاجتماعية والاقتصادية على أرض الواقع من باب التضامن الاجتماعي، تراها تتحوّل إلى مجرد فرصة لإرساء ثقافة الصدقة والإحسان وتاليا لتعميق هشاشة المواطن إزاء السلطة السياسية وإعادة ترميم روابط الزبائنية وتوسيعها.
وعليه، وفيما تتكاثر اقتراحات القوانين بالإعفاء من الضرائب أو الغرامات، فإننا لا نجد أي اقتراح لفرض ضرائب جديدة على أصحاب الثروات الذين يتعين عليهم المساهمة في أعباء الدولة المتزايدة لإسعاف الفئات الأقل حظوة. كما لا نجد أي اقتراح لفرض إلزامات على الأوقاف التي تستفيد من الإعفاءات الضريبية منذ عقود، على أساس أنها تقوم بأعمال خيرية. كما لا نجد أي اقتراحات تتصل بحماية الأجراء إزاء تعسف أصحاب العمل في هذه الظروف الصعبة أو بإعفاء المستأجرين لأماكن سكنية أو غير سكنية من بدلات الإيجار، حيث لا يعقل أن يتوقف الإقتصاد المنتج بشكل تامّ في ما يبقى الاقتصاد الريعي على حاله. هذا مع العلم أن بدل إيجار الأماكن غير السكنية يسقط حكما بالنسبة للمؤسسات التي أوقفت بموجب قرار التعبئة العامة عن العمل، بفعل القوة القاهرة التي منعت استخدامها.
بالمقابل، قدّمت كتلة لبنان القوي عدداً كبيراً من الاقتراحات التي هدفت في عمقها لتعزيز الزبائنية. أخطرها، تعليق الحظر الذي كانت موازنة 2020 فرضته على أشخاص القانون العام بعدم منح أي هبات لأفراد أو مؤسسات خاصة من دون أن يترافق رفع الحظر مع تحديد للأولويات أو وضع أي ضوابط للحؤول دون رواج المحاباة والممارسات التمييزية أو الاستغلال السياسي. وبذلك، يخشى أن يتجه مجلس النواب نحو إلغاء ضوابط هدفت لمكافحة الفساد، بحجة مكافحة الفقر، من دون أي مسعى للتوفيق بين هذين الهدفين. في الاتجاه نفسه، يسجل أن الكتلة نفسها اقترحت إنشاء صندوق لمساعدة المصروفين من العمل، هنا أيضا من دون وضع أي ضوابط.
استغلال اكتظاظ السجون لإعفاء من هم خارجها
وبدل أن تشكل أزمة اكتظاظ السجون وبخاصة الكورونا مناسبة لإصلاح نظام العدالة وما يفرضه من إصلاح للنصوص وأداء المحاكم والمؤسسة السجنية مع احتمال اتّخاذ تدابير مؤقّتة عاجلة بانتظار إنجاز هذه الإصلاحات، تراها تتحوّل إلى مناسبة لفتح بازار العفو العامّ على مصراعيه، في أبعاده الأكثر سوءا وبشاعة. وهنا أيضا، يحصل هذا البازار من دون أي مسعى للتوفيق بين مقتضيات العدالة والصحة العامة وفق مبدأي الضرورة والتناسب، وكل ذلك بمعزل عن أي مشروع إصلاحي.
فكأنّما يكفي أن نقول أنّ ثمة أزمة اكتظاظ للسجون ليصبح العفو العام مبررا، ليس فقط عن السجناء، بل عن أضعاف هؤلاء من غير السجناء. بل، لا يكون هنالك في هذه الحالة أي حاجة لتقديم أي إثبات على جدوى تطبيق العفو العام في التخفيف من الإكتظاظ. فلا يتضمن اقتراحا العفو العام أي أرقام عن عدد المحتجزين احتياطيا أو الذين قد يستفيدون من العفو العام. وبالطبع، يمكن إذ ذاك أن نضمّن القانون ما نريد كأن نقول أن العفو العامّ مبرّر بانتشار الفقر ووباء الكورونا، لنعود ونستثني من العفو جرائم التشرد والتسول والسرقة والإخلال بالآداب العامة، فيما نعفو جرائم التهديد والتهويل وتكوين جمعيات أشرار والاستيلاء على الأملاك العامة ومنع اللبنانيين من ممارسة حقوقهم المدنية أو حرياتهم النقابية كما حصل مع عمال سبينس (وهذا ما نقرأه في مشروع بهية الحريري). كما يكون بإمكاننا أن نعفو عن مافيات كبار تجار المخدرات بحجة التعاطف مع مزارعي البقاع الذين لا يجدون أمامهم فرصا حقيقية للدخل إلا زراعة القنب هذا عدا العفو عن التهرب الضريبي والجرائم البيئية وتهريب الرساميل إضرارا بالدائنين (مشروع ياسين جابر وميشال موسى).
وبالطبع، يحصل كل ذلك في أجواء ينتفي فيها المنطق والتعليل، من دون بذل أي جهد لاستكشاف طرق أخرى قد تكون أقلّ كلفة وأقلّ قابلية للجدل، للوصول إلى نتيجة أكثر توازنا بين مقتضيات العدالة ومقتضيات الصحة العامة، كأن يتم تعليق العمل بالتوقيف الاحتياطي أقله في الجرائم التي ليست شديدة الخطورة (مما قد يؤدي إلى الإفراج عن أكثر من 50% من المحتجزين في السجون أي ما لا يقل عن 3500 محتجزا).
انطلاقا من ذلك، جاز القول بأن إدراج هذين الاقتراحين على جدول أعمال المجلس إنما شكّل مؤشرا إضافيا على انهيار الدولة والنظام العام في اتجاه تغليب المافيات الخارجة عن القانون والتي تنشط في تهريب الرساميل أو التهرب الضريبي أو تهريب المخدرات... إلخ. ويأتي هذا الأمر بعدما كان المجلس النيابي سمح في 2017 للمعتدين على الأملاك البحرية بمعالجة أوضاعهم من خلال دفع مبالغ زهيدة بالنسبة إلى الأرباح والمنافع التي حققوها خلال العقود الماضية، وسمح بتسوية مجمل مخالفات البناء الحاصلة على مدى خمسين سنة، في سنة 2019. فكأنما المجلس يرسل رسالة تلو الأخرى مفادها أن القانون لا يردع في لبنان بفعل ضعف الرقابة الإدارية والقضائية، وأن كل شيء يبقى بأية حال قابلا للتسوية والعفو، ولو بعد حين، أي فور نضوج طبخة العفو. وبالطبع، هذه الإعفاءات تأتي دوما منعزلة عن أي إصلاح أو تغيير للنظام القانوني أو القضائي، على نحو يمهّد تاليا لمزيد من الإعفاءات والتسويات مستقبلا وتاليا لمزيد من المخالفات والقفز فوق القانون وعمليا لتقويض دولة القانون.
الخلاصة:
بالخلاصة، يظهر أن مجلس النواب لا يتعامل مع أزمتي الإفلاس والكورونا على أنهما تحدٍّ من واجب السلطة السياسية إيجاد حلول لهما لحماية الدولة والمواطنين، بل كفرصة يجدر استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية وترميم الهيمنة على المجتمع والتي هددتها وما تزال تهددها ثورة 17 تشرين. وما نستشفه من جدول أعمال المجلس أنه ليس فقط يفتقد لأي رؤية أو خطة للمستقبل، بل أنه في خدمة ثلاث مافيات: مافيا السياسة (التي يخوّلها مجددا وضع اليد على مزيد من الموارد العامة وترميم روابط الزبونية فضلا عن الإستفادة من العفو الذاتي عن كمّ هائل من الجرائم) ومافيا المخدرات (التي تتطلع إلى إقرار قانون العفو العام الذي يؤدي إلى تبييضها ماضيها وقانون تشريع زراعة القنب لأسباب طبية بما يتيحه من مجال لتبييض مستقبلها بفعل سهولة التحايل عليه)، وأخيرا مافيا المال والمصارف التي تلقى في توجهات المجلس ما يعفيها من عمليات قص الشعر ويحررها من أي قيود أو ضوابط، فضلا عن احتمال تبييض صفحتها من عدد من الجرائم المالية في مقدمتها تهريب الرساميل والإفلاس التقصيري أو الاحتيالي وتعريض العملة الوطنية للخطر.
وعليه، تأتي جلسة نيسان من منظورنا بمثابة لحظة احتفالية للسلطة الحاكمة بتطور الثورة المضادة، والأهم بمثابة استدعاء وتكريم لثلاث مافيات هي مافيات السياسة والمخدرات والمال.