نظام التمديد يتهدّد المجالس البلدية مجدّدا: حين تتحكم السلطة بالدولة
22/04/2024
يعقد مجلس النواب جلسة تشريعية في 25 نيسان المقبل لإقرار قانون تمديد ولاية المجالس البلديّة والاختياريّة مجددا. ولا شكّ أن تأجيل الانتخابات، مهما كانت طبيعتها، بات ظاهرة معبّرة تعكس كيفية عمل النظام السياسي الحاكم في لبنان منذ 1992 وحتى اليوم. لذلك كان من الضروريّ تحليل هذه الظاهرة واستعراض تاريخها من أجل إدراك أبعادها السياسية وتداعياتها القانونية الخطيرة على حقوق المواطنين والعمل الطبيعي لمؤسسات الدولة.
تعريف التمديد
التّمديد هو في حقيقة الأمر تعليق للنصّ القانونيّ الذي يفرض إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري أو القانوني، ما يعني أنّ التّمديد هو استثناء يمنع تطبيق القانون إذ يستبدل الحكم القانونيّ في الظروف العادية بحكم قانوني استثنائيّ يطبّق في ظروف خاصّة. إذ أنّ القاعدة القانونية العاديّة تتّسم بالعمومية بينما التمديد هو حكم قانونيّ استثنائيّ يتعلّق بحالة خاصّة. وهكذا يصبح جليّا أنّ التمديد هو استبدال القاعدة القانونيّة العامّة بقاعدة قانونيّة خاصّة أي الانتقال من الطبيعة المجرّدة للنصّ القانوني وما ينجم عن ذلك من ضمانات للمواطنين إلى القرار الجزئيّ وما ينجم عن ذلك من اعتباطية السلطة السياسية التي اتخذت هكذا قرار.
جرّاء ما تقدم، يمكن الاستنتاج أنّ النظام الذي تكثر فيه الأحكام الاستثنائية هو نظام يعطي السلطة درجة أكبر من الحريّة في تعاطيها مع مؤسسات الدولة وحقوق المواطنين بحيث تتمكّن من تعليق العمل بالنصّ القانوني العامّ انطلاقا من قرارها الاستنسابي. فبقدر ما يتوسّع الاستثناء بقدر ما تصبح سيّاسة المجتمع مسألة تتعلق برأي الحكّام ومصالحهم الشخصيّة لا بعمل المؤسسات.
يصلح هذا التعريف كمحدّد للنظام السياسيّ اللبناني الذي دأب على تعليق القانون واستخدام الاستثناء في كلّ أنواع الانتخابات التي يشهدها لبنان سواء كانت الانتخابات الرئاسية أو النيابية أو البلدية والاختيارية، إذ بات بالامكان إطلاق تسمية “نظام التمديد” أو نظام الاستثناء” عليه. لذلك كان من المفيد التذكير بكل هذه الاستثناءات التي تذرّعت بها السّلطة في لبنان من أجل تعليق حقوق المواطنين وتعطيل عمل المؤسسات.
التمديدات الرئاسية
يعتبر انتخاب رئيس الجمهورية من أهمّ الانتخابات التي يعرفها النظام الدستوري اللبناني الذي يمنح هذه الصلاحية لمجلس النواب. لكن المُراقب لتطوّر الحياة السياسية في لبنان سرعان ما سيلاحظ أنّ الاستثناء في الانتخابات الرئاسية بات ظاهرة متكرّرة إذ فشل مجلس النواب دائما بعد 1992 بتطبيق المادة 49 من الدستور إن كان لناحية انتخاب رئيس جديد أو احترام المهل الدستورية في هذا الخصوص.
وهكذا، أول استحقاق رئاسيّ عرفه لبنان بعد هذه السنة كان مع قرب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الياس الهراوي سنة 1995. وعليه، وبدل أن يعمد البرلمان إلى انتخاب خلف للرئيس الهراوي عملا بالمادة 49 من الدستور التي تنص بشكل صريح على أن ولاية رئيس الجمهورية هي ستّ سنوات غير قابلة للتجديد، قامت حكومة الرئيس رفيق الحريري بتاريخ 16 تشرين الأول 1995 بالتمنّي على رئيس الجمهورية اقتراح تعديل الدستور بغية تمديد ولايته. وقد ألقى حينها الرئيس رفيق الحريري في جلسة مجلس الوزراء كلمة أصبحت حرفيا الأسباب الموجبة لمشروع قانون تعديل الدستور جاء فيها أن “المرحلة الاستثنائية والحساسة من تاريخ لبنان والمنطقة” توجب استمرار التعاون والتنسيق مع سوريا “والتزام جانب التشاور في كل ما يتّصل بالعلاقات الثنائيّة والقوميّة والدوليّة”. وهكذا عقد مجلس النواب بتاريخ 19 تشرين الأول 1995 جلسة انتهتْ بإقرار التعديل التالي للمادة 49 من الدستور: “لمرة واحدة وبصورة استثنائية، تستمر ولاية رئيس الجمهورية الحالي ثلاث سنوات تنتهي في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 1998”.
إذا كان تعليق النص الدستوري استثنائيا قد تمّ سنة 1995 عبر التمديد فهو قد اتخذ شكلا مغايرا سنة 1998 عند انتهاء ولاية الرئيس الهراوي وانتخاب العماد إميل لحود خلفًا له. فالفقرة الأخيرة من المادة 49 من الدستور تمنع انتخاب قائد الجيش كرئيس للجمهورية ما حتّم تعديلها استثنائيا مجددا. وقد ورد في الأسباب الموجبة لمشروع قانون التعديل أن الحكومة تتقدم به “انطلاقا من المصلحة الوطنية العليا في هذه المرحلة من تاريخ البلاد”. وبالفعل سيقوم مجلس النواب في جلسة 13 تشرين الأول 1998 بإقرار هذا التعديل وفقا للنص التالي: “لمرة واحدة، وبصورة استثنائية، يجوز انتخاب رئيس الجمهورية من القضاة أو موظفي الفئة الاولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام”.
وسيعود الاستثناء مجددا مع مشارفة ولاية الرئيس إميل لحود على الانتهاء سنة 2004 عبر تعليق النص الدستوري مرة ثالثة وذلك عبر تعديل المادة 49 لتمديد ولاية رئيس الجمهورية. وقد بررت الأسباب الموجية هذا الأمر وفقا للتالي: “يشهد الموقف الإقليمي وضعاً استثنائياً حرجاً سواء في فلسطين أو في العراق في ظلّ ما يسمّى الحرب على الإرهاب ونتائجها على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي. وفي ظلّ التهديدات التي تشتمل لبنان وعلى رأسها التهديدات الإسرائيلية الهادفة إلى تنفيذ مشاريع خطيرة في المنطقة ومنها محاولة توطين اللاجئين الفلسطينيين في البلاد العربية التي تستضيفهم ومنها لبنان (…) ونتيجة هذين الوضعين الخارجي والداخلي فإن ظروف ومقتضيات المصلحة الوطنية العليا والعامة تقضي باستمراريّة الحكم، وعلى رأسه رئيس الجمهورية الحالي، في رعاية النهج خلال هذه المرحلة المصيرية الحسّاسة بما يؤدّي إلى استقرار الوضع العام في مواجهة الأخطار المحدقة بلبنان والمنطقة وبما يجنب لبنان مفاجآت قد تؤدّي إلى تعريض هذا الاستقرار في ظلّ تلك الظروف الاستثنائية”.
وبالفعل سيقرّ مجلس النواب في جلسة 3 أيلول 2004 القانون الدستوري التالي: “لمرة واحدة وبصورة استثنائية، تستمرّ ولاية رئيس الجمهورية الحالي ثلاث سنوات تنتهي في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 2007”.
إن “نظام الاستثناء” الذي سمح بتعليق النص الدستوري سيتعطل بدوره بعد انتهاء الوصاية السورية على لبنان لكن من دون أن يعني ذلك العودة إلى العمل الطبيعي للمؤسسات. فصراع المصالح السلطوية بين مختلف أركان النظام الحكم سيؤدّي إلى تعليق الدستور لكن هذه المرة ليس عبر إقرار قوانين دستورية لكن عبر منع إجراء انتخابات رئاسيّة ضمن المهل الدستوريّة وتكرار فترات الشغور في رئاسة الجمهورية. فمع انتهاء ولاية الرئيس إميل لحّود، عرف لبنان شغورًا رئاسيًّا امتدّ من تشرين الثاني 2007 إلى أيار 2008 مع انتخاب العماد ميشال سليمان كرئيس للجمهورية علما أن انتخابه كان يخالف المادة 49 من الدستور كونه كان حين انتخابه قائدا للجيش. ومن ثم شهد لبنان فراغا ثانيا أطول امتدّ من أيار 2014 إلى نهاية تشرين الأول 2016 مع انتخاب ميشال عون كرئيس للجمهورية. ولا يزال لبنان يشهد منذ انتهاء ولاية هذا الأخير في تشرين الأول 2022 شغورا رئاسيا مرشح للاستمرار لفترة طويلة.
لم يقتصر “نظام التمديد” على تعطيل الحياة الدستورية لكنه انسحب أيضا على تعليق الحقوق السياسية للمواطنين عبر تأجيل الانتخابات النيابية.
التمديدات النيابية
شهد لبنان خلال الحرب الأهلية تمديد ولاية مجلس النواب بشكل متكرر بسبب استحالة إجراء انتخابات في ظل الأوضاع الأمنية التي كانت سائدة حينها. لكن المستغرب أن هذا التمديد عاد مجددا إلى الظهور بعد انتهاء الحرب إذ توافقت الجهات المسيطرة على البرلمان على تعليق النصوص القانونية التي توجب إجراء الانتخابات النيابية بشكل دوري بذريعة وجود أوضاع استثنائية.
ولا شك أن أول تمديد خلال الفترة التي نقوم بدراستها حصل بشكل مبطّن في المادة الأولى من قانون الانتخابات الصادر في 6 كانون الثاني 2000 التي نصّت على أن ولاية مجلس النواب هي أربع سنوات “على أن تكون ولاية أول مجلس ينتخب بعد صدور هذا القانون حتى 31 أيار سنة 2005” ما يعني أن المجلس المنتخب سنة 2000 استمرّ لولاية امتدت على أربع سنوات وثمانية أشهر. والهدف من هذا التمديد كان منع إجراء انتخابات نيابية جديدة قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية اميل لحود في تشرين الثاني 2004 كي يتمكن مجلس النواب القديم من حسم مسألة الانتخابات الرئاسية إن كان عبر التمديد أو انتخاب رئيس جديد.
التمديد الثاني حصل سنة 2013 بهدف تمديد ولاية مجلس النواب المنتخب سنة 2009 إذ أقر مجلس النواب بتاريخ 31 أيار 2013 القانون التالي: ” تنتهي مدة ولاية مجلس النواب الحالي بصورة استثنائية بتاريخ 20 تشرين الثاني 2014″. وقد بررت الأسباب الموجبة هذا الأمر انطلاقا من “الأوضاع الأمنية التي يمر بها الوطن والتي تؤثر بشكل واضح ومباشر على الحياة الطبيعية في مناطق واسعة وفي معظم المحافظات اللبنانية (…) ونظراً لانعكاس هذه الحالة وتلازمها مع تصعيد سياسيّ وانقسام يأخذ في كثير من الأحيان أبعاداً مذهبية وطائفية حادّة تنذر تداعياتها بالفتنة التي أصبحتْ معالمها تنتقل من مكان لآخر وبأشكال متعددة (…) وتزامناً مع عدم الاستقرار الأمني هذا تأتي مشكلة غياب الاستقرار السياسي مع وجود حكومة مستقيلة (…وبما أن معظم هذه الأمور السياسية والأمنية تتّسم بصفات الظروف الاستثنائية والقوة القاهرة بأشدّ مفاهيمها”.
وستعمد السلطة السياسية إلى التذرّع مجدّدا بالظروف الاستثنائيّة لتمديد ولاية مجلس النواب الممددة أصلا بموجب القانون النافذ حكما رقم 16 تاريخ 11 تشرين الثاني 2014 الذي نص على التالي: “تنتهي ولاية مجلس النواب الحالي بتاريخ 20 حزيران 2017”. وقد استعرض القانون في أسبابه الموجبة سلسلة طويلة من “الأحداث الأمنية والفتن والاضطرابات” التي تمنع إجراء الانتخابات “انطلاقاً من وعي المجلس النيابي الكريم لهذه الظروف الاستثنائية التي تعصف بالوطن وخطورتها والأخطار القائمة والداهمة المستمرة النائمة اليوم والمُستيقظة غداً” لا سيما أن هذا الوضع يتلازم “مع تصعيد سياسيّ وانقسام يأخذ في كثير من الأحيان أبعاداً مذهبية وطائفية حادّة تنذر تداعياتها بالفتنة التي أصبحت معالمها تنتقل من مكانٍ لآخر وبأشكال متعددة”.
ونظام التمديد لا يعمد فقط إلى تعليق القانون وتأجيل الانتخابات لكنه أيضا لا يشرع في إجراء الانتخابات إلا عند حصول توافق بين مختلف أركانه وكأن الانتخابات هي منحة من النظام الحاكم لتجديد شرعيته بدل أن تكون واجبا تفرضه النصوص الدستورية في مهل محددة كي يتمكن الشعب من ممارسة سيادته.
فالانتحابات النيابية التي جرت في موعدها سنة 1996 وسنة 2000 تمّت في ظل الوصاية السورية التي أمّنت الاستقرار والتوافق بين أركان السلطة لتقاسم المقاعد النيابية والوزارية. أما انتخابات سنة 2009 فهي جرت بعد اتفاق الدوحة في أيار 2008 وتوافق الزعماء على تسويّات شملتْ كل مواقع السلطة من رئاسة الجمهورية إلى تشكيل الحكومة إلى تبني قانون انتخابي جديد. وهذا ما تكرّر مجددا في انتخابات 2018 التي جرتْ بعد التسوية الرئاسية التي ضمنتْ وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وتبني قانون انتخابات جديد سنة 2017 كرّس في بنوده مصالح أحزاب السلطة. لا بل أن المادة 41 من هذا القانون مدّدت ولاية مجلس النواب الممدّدة سابقا مرة ثالثة على الشكل التالي: تنتهي ولاية مجلس النواب الحالي استثنائيا بتاريخ 21 أيار 2018، وذلك من أجل تمكين الحكومة من اتخاذ الإجراءات اللازمة لتطبيق الأحكام والإجراءات الجديدة للانتخابات النيابية المنصوص عنها في هذا القانون”. فالتمديدان الأول والثاني حصلا بسبب الخلافات الناشئة بين أركان السلطة، بينما التمديد الثالث حصل بسبب توافقهم إذ أن الانتخابات لا تجري إلا إذا كانت ستخدم جميع قوى السلطة ولن تؤدي إلى نتائج غير متوقعة.
ولا شك أن هذا المنطق بلغ ذروته في انتخابات 2022 التي هدفت إلى تحصين أحزاب السلطة بعد الانتفاضة الشعبية الكبيرة التي حصلت في تشرين الثاني 2019. فبدلا من تقصير ولاية مجلس النواب (لتعذر حله بسبب الشروط الدستورية التعجيزية) والعودة إلى الشعب مباشرة من أجل إعادة تكوين المؤسسات، انتظرت السلطة انحسار موجة الاحتجاجات بسبب القمع وانتشار وباء كورونا وانفجار مرفأ بيروت، واستغلّت يأس اللبنانيين كي تنظّم انتخابات هي أقرب إلى المبايعة السياسية من أجل منح نفسها شرعية شكلية جديدة بغية استمراراها في السيطرة على المجتمع.
وأفدح من ذلك أن نظام الاستثناء لا يقوم فقط على التمديد بل أحيانا على تقصير ولاية مجلس النواب. وهذا ما حصل مع القانون رقم 154 الصادر في 22 تموز 1992 الذي نص في مادته الثامنة على تقصير ولاية مجلس النواب المنتخب سنة 1972 والممدّدة طيلة سنوات الحرب كي تنتهي في 15 تشرين الأول 1992 عوضا عن 31 كانون الأول 1994. ولم تهدف هذه السرعة في إجراء الانتخابات إلى إعادة الحياة الديمقراطية إلى لبنان بل على العكس من أجل السماح للجهات السياسية التي خرجت منتصرة من الحرب كي تدخل إلى البرلمان وتتمكن من السيطرة على مؤسسات الدولة.
وما يفاقم من خطورة الوضع هو الاجتهاد المستقر للمجلس الدستوري الذي بات يرفض إبطال قوانين تمديد ولاية مجلس النواب أو المجالس البلدية بسبب وجود حالة شاذة توجب القبول بمخالفة الدستور احتراما لمصالح الدولة العليا. فالاستثناء لم يعد مضبوطا من قبل المراجع القضائية، لا بل هو لم يعد استثناء فعلي متحقق في الواقع، بل مجرد استثناء للقاعدة القانونية العامة المكرسة في المبادئ الدستورية، أي أن الطبيعة الاستثنائية تظهر فقط بسبب وجود النص القانوني العام، بينما ممارسة نظام التمديد جعلتْ من الاستثناء الوسيلة العادية التي يعبر فيها عن سيادته من خلال استبدال الضمانة التي يشكّلها النص العام بالقرار السياسي الاعتباطي للسلطة الحاكمة.
وهكذا يصبح جليّا أنّ تأجيل الانتخابات البلدية لا يمكن فهمه إلا من ضمن منطق نظام التمديد الذي يحتكر الاستثناء ويقوم بتعليق النصوص الدستورية والقانونية إذ هو في حقيقة الأمر يعتبر أن البناء القانوني للدولة في لبنان لا يوجد إلا من أجل خدمة مصالحه. إذ أنّ التمديد هو أبهى تجليات عمل هذا النظام الذي نجح أكثر من مرة في مصادرة سيادة الشعب واستبدالها بمشيئته السلطوية التي تمنع الانتخابات عندما تكون الأحزاب الحاكمة مختلفة بين بعضها البعض أو تمرّ بلحظة ضعف، وتسمح بها عندما تتوافق فيما بينها كي تعزز سطوتها على مؤسسات الدولة والمجتمع.