وتبقى الموازنة عالقة في متاهة سعر الصرف: أرباح التجار تحجبها خفة السلطة

إيلي الفرزلي

17/09/2022

انشر المقال

تطيير النصاب في الجلسة العامة بدا نتيجة طبيعية للخفّة في تعامل الحكومة مع مشروع الموازنة، من دون أن يظهر تعامل المجلس النيابي معها أقل خفة. أثناء مناقشة المشروع في لجنة المال، لم تعرف وزارة المالية ماذا تريد، فقدّمت ثلاثة اقتراحات لتحديد سعر صرف الدولار الجمركي (12 ألفاً و14 ألفاً و16 ألفاً)، وهي اقتراحات أضيفت من دون أي تبرير إلى الرقم المحدد في مشروع القانون المحال من الحكومة أصلاً (20 ألف ليرة). أما اللجنة نفسها فدفعت عن كاهلها أي مسؤولية في حسم الأمر أو في استجواب وزارة المالية بشأن مدى جديتها أو حتى في حشرها لتوضيح خياراتها، رافعة المشروع إلى الهيئة العامة مع 14 بنداً معلقاً، يرتبط أغلبها بعدم تحديد سعر الصرف. وفي الجلسة العامة، تفاقمت حالة الضياع الحكومية. فلم تلتزم حتى بالاقتراحات التي عرضها وزير المالية يوسف خليل في لجنة المال، إنما أضاف إليها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اقتراحيْن جديدين: نصف سعر صيرفة، بحيث يُعتمد السعر الوسطي لشهر ما في الشهر الذي يتبعه، أو 15 ألف ليرة مقطوع، على أن يُترك لرئيس الحكومة ووزير المالية حقّ تعديل الرسم لاحقاً.

وعندما حذّر النائبان حسن فضل الله وعلي حسن خليل من تحميل مجلس النواب مسؤولية ليست من اختصاصه، مطالبين بأن تقدم الحكومة رقماً للواردات، أعلن رئيس الحكومة تحديد الرسم على سعر 15 ألف. علماً أن ميقاتي كان طرح أثناء المداولات على هامش الجلسة تحديد سعر الصرف على أساس 18 ألف ليرة، معتبراً أنه أثناء المناقشات في لجنة المال كان سعر الدولار في السوق السوداء يقارب 30 ألف ليرة بينما هو يقترب اليوم من 40 ألفاً. في هذا السياق، قدّم النائب جميل السيد اقتراحاً للفصل بين الرسم الجمركي الذي يطال الكماليات وبين الرسم الجمركي الذي يطال الحاجات الأساسية للناس، بحيث يكون الأول موازياً للسعر الواقعي للدولار، ويكون الثاني قريباً للسعر الرسمي الحالي، إلا أنه لم يؤخذ بهذا الاقتراح. كما لم يؤخذ باقتراحه رد الموازنة والاستمرار بالصرف على القاعدة الاثني عشرية لثلاثة أشهر، على تلتزم الحكومة بإقرار موازنة 2023. وقد برّر السيد طلبه هذا بالخشية بأن تقرّ موازنة لثلاثة أشهر يكون الهدف الفعلي منها غضّ النظر عن موازنة 2023 والصرف على القاعدة الاثني وفق الأرقام الجديدة.  

بالنتيجة، سعى ميقاتي إلى تعديل الإيرادات المتوقّعة، ربطاً بالسعر الجديد للدولار (كانت حُدّدت على أساس 12 ألف ليرة للدولار ب37.8 ألف مليار ليرة)، فاستدعى موظفي وزارة المالية الذين كانوا حاضرين في قاعة المجلس لإجراء هذه التعديلات. علماً أن حجة ميقاتي في زيادة الإيرادات كانت اعتمدت في الجلسة على تعديل النفقات، بحيث أقرّ المجلس النيابي بموافقة الحكومة "المستقيلة"، زيادة رواتب موظفي القطاع العام والمتقاعدين والمتعاقدين وأفراد الأسلاك العسكرية، ثلاثة أضعاف، بدلاً من ضعفين، كما زيدت موازنة الجامعة اللبنانية 500 مليار ليرة لتصبح 865 مليار ليرة. علماً أنه تم التطرق أيضاً إلى زيادة موازنة وزارة الصحة، لتأمين أدوية الأمراض المستعصية، فأوضح ميقاتي أن الحكومة بالتعاون مع مصرف لبنان حجزت 45 مليون دولار لهذه الغاية لكن من خارج الموازنة (من حقوق السحب الخاصة بلبنان).

في هذا الوقت، كانت بدأت نقاشات جانبية للكتلة التغييرية للانسحاب من الجلسة. فتواصلتْ النائبة بولا يعقوبيان مع نواب القوات والكتائب للانسحاب من الجلسة. كما انتقل النائب ابراهيم منيمنة إلى حيث يجلس رئيس المجلس، طالباً منه تأجيل مناقشة الموازنة إلى حين تخصيص جلسة عامة لمناقشة خطة التعافي، لكن بري لم يتجاوب مع طلبه، بحجة سفر رئيس الحكومة واحتمال تحديد موعد لجلسات انتخاب رئيس الجمهورية. ومع رفض برّي وتأكد المعترضين من عدم توفر النصاب بالتوازي مع عدم استطاعتهم التأثير في مجريات الجلسة، خاصّة في ظل عدم اعتماد آلية تصويت واضحة، آثروا الانسحاب. وكان النائب جورج عدوان أول من أعلن انسحاب كتلته، معتبراً أنه لا يجوز أن يوقّع المجلس على بياض على تعديل الأرقام والدولار الجمركي. كما أكّدت يعقوبيان رفض إقرار الموازنة إلا بالتوازي مع إقرار القوانين الإصلاحية الأخرى، وهو ما ردّ عليه علي حسن خليل، متوجهاً إلى "الدستوريين الجدد"، بالإشارة إلى أنه عندما تناقش الموازنة لا يمكن مناقشة أي أمر آخر. أما النائب سامي الجميل، فأكد بدوره ربط الموازنة بإقرار خطة التعافي المالي.

بعد ذلك سعى بري إلى الاستمرار في الجلسة. إلا أن النصاب لم يتأمن بسبب غياب أغلب نواب الاشتراكي وعدد من نواب حزب الله والتيار، حيث بقي في القاعة 63 نائباً، فرفع الجلسة إلى 26 أيلول المقبل، بسبب سفر رئيس الحكومة الأسبوع المقبل.

بالنتيجة، بدا واضحا بعد يومين من النقاشات مدى الخفة في التعامل مع الموازنة العامة، بعدما بدت السلطة الحاكمة وكأنها تاهت برمتها في متاهة سعر الصرف. وما يزيد من خطورة هذه الخفة هو ما صرح به ميقاتي أثناء الجلسة لجهة أن قيمة الواردات ارتفعت نحو 4 مليار دولار عن العام الماضي بنتيجة سعي المستوردين والتجّار إلى تخزين المنتجات والسلع المستوردة إلى حين رفع الرسوم الجمركية لتحقيق هوامش ربح ضخمة؛ وهو الأمر الذي أكده آلان عون بقوله أن قيمة الواردات عادت إلى ما كانت عليه قبل الأزمة بالرغم من التباطؤ الاقتصادي (نحو 18 ألف مليار دولار). وفي حين أن هذه الخفة كانت عاملا أساسيا في تطيير الجلسة، يبقى أن لتطيير إمكانية رفع السعر الجمركي والضرائب ولو بصورة محدودة، نتائج قد تكون جدّ وخيمة على مالية الدولة واقتصادها. لذلك، أكّد عدد من النواب إصرار كتلهم على الحشد لتمرير الموازنة في الموعد القادم، موعد ينتظر أن نصله مع أسعار سعر صرف جديدة.