ورشة المحكمة العسكرية في زمن الحرب

المرصد البرلماني

27/03/2024

انشر المقال

شاءت الصدف أن يبدأ النقاش بشأن القضاء العسكري في لبنان في زمن حرب طاحنة تجري في غزة وتمتد نيرانها وتهديداتها إلى الأراضي اللبنانية. وفيما تجري هذه النقاشات، وآخرها نقاشات أمس، داخل لجنة الإدارة والعدل بعيدا عن الإعلام، فإنّ أجواء هذه الحرب قد انعكستْ وبخاصة في خطاب الجهات الرافضة لتقليص صلاحيات القضاء العسكري أو المتحفظة عليه، وبخاصّة في خطاب كتلتيْ التحرير والتنمية والوفاء للمقاومة وأيضا النائب جميل السيّد. 

وكانت هذه الورشة القديمة الجديدة انطلقت في الآونة الأخيرة تبعا لتقدّم كتلة الجمهورية القوية اقتراح قانون هدف إلى إدخال تعديلات أساسية على قانون القضاء العسكري، وهو الاقتراح الذي تمّ تطويره ودرْسه (ومعه اقتراح قانون قدّمه النائب بلال عبدالله) بسرعة لافتة بالنظر إلى أهميته وحجمه في لجنة فرعية برئاسة النائب جورج عقيص. ومن أهمّ الأفكار التي ارتكز عليها هذا الاقتراح هو مبدأ عدم محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري وحصر صلاحيات هذا القضاء بالجرائم العسكرية في اتجاه إلى تحويله إلى قضاء متخصص وليس قضاء استثنائيا فضلا عن إدخال تعديلات على تكوين محكمة الجنايات العسكرية ومحكمة استئناف الجنح في اتّجاه زيادة عدد القضاة العدليين بالنسبة إلى القضاة العسكريين. وإذ رحّبت المفكرة القانونية بهذه المبادرة التشريعية، فإنّها أبدتْ تحفّظات على عددٍ من أحكام الاقتراح ولا سيّما لجهة عدم التأكيد على اختصاص القضاء العدلي الحصري في النظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كجرائم التعذيب والإخفاء القسريّ. هذا مع العلم أن المفكرة القانونية كانت نشرت عددا خاصا بشأن المحاكم العسكرية والمحاكم الاستثنائية في لبنان والمنطقة العربية. 

وبالعودة إلى أجواء النقاش الصاخب أمس، يُلحظ بروز نوعيْن من الاعتراضات المقلقة:

الأول، أنه لا يصحّ مناقشة تجريد المحكمة العسكريّة من إمكانيّة محاكمة المدنيين وبخاصّة في حال اتّهامهم بالعمالة مع العدوّ أو الإرهاب، في ظلّ ظروف الحرب الحالية. وهو اعتراضٌ يفترض أن القضاء العسكري أكثر قدرةً من القضاء العدلي من محاكمة هذه الجرائم، سواء بفعل ارتباطه بالأجهزة العسكرية والأمنية أو حساسيّته الفائقة إزاء هذه الجرائم أو أيضا سرعته في بتّ القضايا بفعل أصول المحاكمات المعمول بها لديه. وبمعزل عن صحّة هذا الاعتراض الذي لا يأخذ أبدًا بعين الاعتبار حقّ المدني بالمثول أمام محكمة عادلة ومحايدة، فإنّه ينطبق على عدد محدود من الجرائم التي تحال اليوم إلى القضاء العسكري ويُبقي تاليّا المجال مفتوحًا أمام تضييق صلاحيات المحكمة في محاكمة المدنيّين في كلّ الجرائم الأخرى المُرتكبة بحقّ عسكريين من قبل هؤلاء. 

أما الاعتراض الثاني، وهو اعتراضٌ أشدّ خطورة ودلالة على تأثيرات حرب الإبادة في غزة، فإنّه يقوم على موقف رافض للأخذ بمعايير استقلالية القضاء أو المحاكمة العادلة (وهي معايير ترفض استمرار القضاء العسكري كقضاء استثنائيّ)، بحجّة أنّها معايير غربيّة سقطتْ مع سقوط الغرب في امتحان غزة، امتحان بدتْ فيه بشكل بيّن وواضح ازدواجية المعايير لديه. ومع التّسليم بسقوط العديد من دول الشمال السياسي في هذا الامتحان، فإن سقوط هذه الدول أتى بنتيجة مخالفتها لهذه المبادئ والقيم التي يجدر على العكس من ذلك تماما، التمسّك بها أكثر من أي وقت مضى في مواجهتها وفي الدفاع عن ضحايا الإبادة. لا بل من المهمّ بمكان أن يستغلّ لبنان ومعه دول الجنوب ما يحصل في أوروبا للتأكيد على أن المعايير المذكورة ليستْ ملك الغرب بل ملك العالم. وهذا هو بالضبط ما أبدعت جنوب أفريقيا في فعله بما أكّد على الطابع الإنساني لهذه المعايير والقيم، التي ليس لأيّ حضارة أو أمّة أن تختزلها. بالمقابل، من شأن إنكار هذه القيم أن يجرّد أي مسعى للدفاع عن أهل غزة أو أهل الجنوب من الحجة القانونيّة. وهذا ما كانت المفكرة القانونية تحسّبت له وأكدت عليه في ملفها الخاص بشأن "ما بعد غزة". وبالطبع، ما يصحّ على الصعيد الدولي يصحّ من باب أولى على الصعيد الداخلي، حيث لا يعقل أن تعمد الدولة إلى التخلي عن قيم ضمان العدالة لشعبها بحجة أن دولا أخرى تنكر إعمال هذه المبادئ على شعوب المنطقة. هذا عدا عن أن من شأن التخلي عن المعايير والقيم المحددة مسبقا في هذا المجال أن يغرق هذه الورشة كما أي ورشة تشريعية أخرى في بحر المساومات والتجاذبات السياسية بمنأى عن أي تفاعل إيجابي.